لم تعد تجدي سياسة حائكي السجاد التي يتبعها النظام الإيراني في معالجة أزماته الداخلية أو الخارجية تحت مبدأ الصبر الاستراتيجي؛ فإن كان هذا النظام يتحدث عن ميلاد عالم متعدد الأقطاب وعن عزمه على المشاركة في بنائه؛ إلا أن واقعه يشير إلى عكس ذلك، وأنه لا يمارس إلا سياسة “دق الماء في الهاون” التي لا تثمر شيئاً سوى استهلاك الطاقة والوقت!
مثالاً، ننظر إلى المحادثات النووية نجدها ما زالت لا تجدي نفعاً، والشعب الإيراني تتلاعب به الأخبار حول هذه المحادثات في رفع الأسعار أو خفضها، وبالتالي تزداد معاناته التي يعيشها بسبب وطأة العقوبات الغربية، بينما النظام لا يقدم له إلا الوعود بالقدرة على تجاوز العقوبات والالتفاف عليها!
حتى الاتفاق الموقت الذي هو مجرد تفاهمات غير مكتوبة وغير رسمية من أجل إعادة الهدوء إلى المناخ العام ونزع التوتر بين إيران والغرب، في إطار كبح تطوير البرنامج النووي وإيقاف سياسة خفض الالتزام النووي في مقابل تحرير أصول إيرانية وإطلاق سراح سجناء أميركيين حتى يستطيع الداخل الإيراني التنفس والحصول على بعض احتياجاته الخارجية من السلع والأدوية؛ لم ينجح هذا النظام أيضاً في تحقيق شيء من ذلك، حتى اقتربت الانتخابات الرئاسية الأميركية وأصبحت إدارة الرئيس الديموقراطي، جو بايدن، بين مطرقة الإسرائيليين وسندان الجمهوريين!
طهران التي تتشدق بأنها أرغمت واشنطن على الاستجابة لمطالبها؛ لم تحقق أي شيء سوى أن قرارها بات تحت وطأة الضغط الإسرائيلي على البيت الأبيض؛ حتى أن زيارة الرئيس الإسرائيلي، إسحاق هرتسوغ واشنطن، الثلثاء 18 تموز (يوليو) هي من أجل وضع الشروط الإسرائيلية للموافقة على أي اتفاق محتمل بين واشنطن وطهران، التي منها عدم تكبيل يد تل أبيب عن السلاح النووي الإيراني وعن نشاط طهران في المنطقة!
ضدّ من؟!
حتى نفهم رسالة هذه المقالة؛ ننظر إلى جولة الرئيس الإيراني الأخيرة في شرق أفريقيا والتي شملت كينيا وأوغندا وزيمبابوي، فقد ضخّم الإعلام الإيراني أهمية هذه الزيارة، مروّجاً أن إيران استطاعت في ظل حكومة الرئيس المحافظ إبراهيم رئيسي منافسة الدول النافذة داخل القارة السمراء، أمثال فرنسا وروسيا والصين وتركيا، وأن الدولة الإيرانية تقود تحالفاً للقضاء على عصر الدولرة، وأن الصناعات الإيرانية وجدت طريقاً لها نحو الأسواق الأفريقية.
لكن واقعياً، الخطاب الإيراني مليء بالدعاية والوعود أكثر من الفعل، فالمسؤول الإيراني لطالما وعد بأن بلاده مستعدة لتزويد أفريقيا بالتكنولوجيا والمعرفة الحديثة؛ لكن هل تم تحقيق شيء من ذلك، أم أن أفريقيا قد تخلصت فعلياً من أزمتها المعرفية أو التكنولوجية على يد إيران؟ بالطبع لا!
وحتى نفهم أكثر، فإن إيران في ظل حكم الولي الفقيه، عندما تدخل مكاناً فإنها لا تساعده على التقدم خطوة للأمام؛ بل يبقى أسيراً للرؤية التي تحكم هذا النظام نحو المستقبل والعالم، وهي الرؤية التي تحكمها مصلحة نظام ولاية الفقيه أولاً، وبعبارة أكثر بساطة، فإن إيران لا تدخل مكاناً إلا وتحدث فيه مجرد صخب! فأي دولة في أفريقيا لإيران نفوذ فيها نجدها تجد قاعدة شيعية تستخدمها للضغط على حكومة هذه الدولة، مثلما الأمر في نيجيريا.
ولذلك، نجد إعلام هذا النظام يُضخّم أهمية جولة الرئيس الإيراني تلك، ومن استقباله في دولة زيمبابوي على نشيد “تحية القائد” (سلام فرمانده) الذي هو نشيد متعلق بالإمام الغائب (المهدي المنتظر) ومشروع دولة المهدي!
وهذا لن يفيد دولة كهذه تعاني الحرمان والفقر والفساد إلا مجرد وضعها طلقةً في بندقية إيران تجاه الغرب! ولذلك نجد الرئيس الإيراني خلال زيارته أوغندا يحاول استغلال آلام الشعوب الأفريقية ويغازل قانون التشريع الأوغندي المناهض للمثليين، بحديثه عن تفاهة الغرب منتقداً دعم الدول الغربية للمثلية الجنسية وحقوق مجتمع الميم بدلاً من دعم أفريقيا!
لكن عملياً، هل استطاعت إيران أن تخرج هذه الشعوب من أزماتها، هل ساعدتها على النهضة؛ أم فقط جعلتها تنشغل بالصراخ ضد الغرب بدلاً من الانشغال بحل أزماتها؟ وذلك كله في خدمة العقلية الإيرانية العاجزة عن حل أزماتها الداخلية والخارجية!
مثال آخر، بينما تعطلت الصفقة بين واشنطن وطهران (السجناء مقابل الأموال التي جزء منها في العراق)، أوقفت إيران التي تدّعي دعمها للشعب العراقي صادرات الغاز عن العراق، ما أدى إلى انقطاع الكهرباء وزيادة ضغط الشارع العراقي على حكومة رئيس الوزراء محمد شياع السوداني الذي اعترف بأن عدم حصول إيران على أموالها هو السبب الرئيس وراء هذه الأزمة، وبالتالي أصبح الشعب العراقي ضحية للمناورة بين واشنطن وطهران!
حتى أن إيران التي حركت أحزاب الإطار التنسيقي التي تعمل بالتنسيق معها للضغط على الحكومة العراقية بسبب مسألة الأموال المجمدة، سوّقت اتفاق مقايضة “الغاز مقابل النفط” الذي وقعته أخيراً مع الحكومة العراقية على أنه انتصار كبير لسياسة القضاء على الدولرة والالتفاف على العقوبات الغربية!
بينما واقعياً هذه الاتفاقية ما هي إلا العمل ضد المصلحة الإيرانية، والكلام هنا على لسان أصوات الداخل الإيراني، التي ترى أن هذا الاتفاق لا ينفع الاقتصاد الإيراني في شيء، وأن إيران ليست في حاجة للنفط بينما هي لا تستطيع تصريف إنتاج نفطها أولاً، وتعاني تراكم إنتاجها، وحاملات نفطها مطاردة في المياه الدولية، بل حتى لو تولى العراق بيع هذا النفط، فكيف ستحصل إيران على أموالها في ظل العقوبات الغربية؟! إذاً هذا الأمر مجرد نطح في الجدار!
المتغطّي بالرّوس…!
حتى نفهم أكثر أزمة العقلية الإيرانية في معالجة الأزمات الخارجية بسياسة إنهاك القوة واستهلاك الوقت؛ ننظر إلى الغضب الذي يواجهه وزير الخارجية الإيراني السابق محمد جواد ظريف هذه الأيام بسبب نشره شهادات حول الاتفاق النووي مع الغرب إبان حكومة الرئيس المعتدل السابق حسن روحاني؛ كان ظريف قد كشف من قبل عن دور الروس في إفشال الاتفاق النووي عام 2015 بالتنسيق مع الحرس الثوري، وهو ما جعل إيران الآن رهينة للمصالح الروسية والصراع بين موسكو والغرب.
وقد شعر النظام الإيراني بالحرج جراء السلوك الروسي؛ فقد استدعت الخارجية الإيرانية السفير الروسي بعد البيان الخليجي – الروسي المشترك الذي دعم مطالب دولة الإمارات بالجزر الثلاث المتنازع عليها، كما تبحث روسيا الآن عن مسار بديل قصير ورخيص للتجارة نحو الهند بعيداً من الأراضي والموانئ الإيرانية بسبب العقوبات الغربية؛ لدعم سياسة الإغراق بالسلع الرخيصة التي تتبعها في مواجهة عقوبات الغرب؛ وهذا كله أكد للرأي العام الإيراني أن روسيا ليست صديقة أو حليفة موثوقة لإيران، وأعاد تصريحات الوزير ظريف للواجهة.
حتى أن النظام ضغط على جامعة طهران لإلغاء المقابلة الحية على شبكة الإنترنت مع الوزير ظريف خشية تأثيرها على الرأي العام، ولكن تصريحات ظريف كانت قد عرّت سياسة النظام الإيراني وكشفت مدى تضييعه للوقت، بخاصة أن ظريف ورفقاءه في الاتفاق النووي: عباس عراقتشي ومجيد تخت روانتشي وعلي أكبر صالحي، قد نشروا بالفعل مذكراتهم حول أسرار جلسات المفاوضات النووية تحت عنوان: “السر المختوم” (راز سر به مُهر) كتاباً وأيضاً وثائقياً مسجلاً في حلقات.
فقد قال ظريف خلال كلمته في حفل أُقيم مساء الأربعاء 12 تموز (يوليو) في بيت علماء العلوم الإنسانية الذي نظمته جمعية العلوم السياسية، إن “النظام الإيراني لديه مشكلة سوء إدراك للتعامل مع روسيا، وإن تمادي الحرب في أوكرانيا والتمادي في المشكلة النووية؛ يعنيان التمادي في اللعبة الأمنية التي نسجتها الولايات المتحدة للحفاظ على الأحادية القطبية واستمرار هيمنتها على العالم! وإن الأزمة النووية فعلياً تساعد إسرائيل على الدخول في هذه اللعبة الأمنية”.
وفي نقد للسياسة الخارجية التي يتبعها النظام الإيراني تجاه روسيا، قال ظريف إنه “ما من تحالف دائم في ظل المرحلة الانتقالية التي يعيشها العالم حالياً، وإن الصين نفسها لم تساعد روسيا في حربها ضد أوكرانيا بالأسلحة؛ ولذلك فإن طهران (الداعمة لروسيا بالسلاح) لديها مشكلة في فهم خاطئ للعلاقة مع موسكو!”.
ولذلك، وإن كان النظام الإيراني يتهم الرئيس السابق روحاني ووزير خارجيته ظريف بتسليم إيران للغرب عبر توقيعهما على الاتفاق النووي عام 2015؛ لكن خطابات ظريف تكشف لنا أن المشكلة لا تتعلق لا بالشرق ولا بالغرب؛ بل بالنظام الذي يحكم إيران ولا يجيد إدارة العلاقات الخارجية، سوى توريط حلفائه في أزماته الخارجية وجعلهم طلقة في بندقيته ضد خصومه!
المصدر: النهار العربي