لفت انتباهي ركن لايخلو من طرافة في صحيفة الشروق التونسية بمسمى “عين الهر” وقد زاد في طرافته مقال السيد عبد الجليل بوقره الذي ورد فيه بتاريخ 11 جوان 2023.
ربما أتفق مع من أطلق هذا الاسم على ركن مميز في صحيفة باتت غنية عن التمجيد والإطراء، وأعتقد أنه لن يكون هناك خلاف على أن عين الهر لا قيمة لها إلا متى وطالما بقيت في مكانها الطبيعي في جسم هر على قيد الحياة – والحيوية. كما أنه، من نافلة القول، أن الاختيار كان إيحاء بالعمق الذي تتمتع به العين الثاقبة، “عين الهر”، في قراءة الأحداث وسبر أغوارها، بعيدا عن السطحية والاكتفاء بظواهر الأشياء.
مقال السيد بوقره، الذي شد انتباهي، كان يوحي عنوانه بتناول جاد جديد لموضوع نكسة 5 جوان 1967 وانعكاسها على مسار “الصراع العربي – الصهيوني” ومحاولة لاستخلاص العبرة من تلك الأحداث بما يمكن من تجاوز الآثار السلبية والمدمرة التي تركتها في النفوس ولاسيما الضعيفة منها والتي لازلنا نعاني الكثير من تبعاتها.
غير أن أمعاءنا بقيت على خوائها… والأستاذ لم يشذ، في تحليله إن صح اعتباره تحليلا، عن بعض الأحكام الاعتباطية والتقييمات المتداولة عند عامة الناس والمتسمة بالسطحية وردة الفعل العاطفية التي تعكس انكسار أحلام أو انكشاف “أوهام نصر” لم تكن مبنية، منذ البداية، على قراءة علمية وموضوعية.
إن النخب لا جدوى من وجودها إذا لم تكن قادرة على فهم الواقع بعمق ولم تكن قادرة على إنارة طريق الشعوب إلى المستقبل بعلمية وموضوعية وليس ترديد ما يقوله بعض الناس العاديين تعبيرا عن انطباع أو شعور. لقد كان حديث الأستاذ بوقره ترديدا لما تقوله شريحة من العامة وجه وعيها إعلام المستعمر ذاته للقضاء على روح النهضة العربية التي رفع لواءها جمال عبد الناصر.
أستاذنا الكريم،
- إن قبول عبد الناصر بقرار مجلس الأمن رقم 242، في نوفمبر 1967، كان قرارا سياسيا يعكس توازنا عسكريا وجيوسياسيا ضرفيا، وقد أردفه بقرار قمة تاريخية جمعت كل الملوك والرؤساء العرب في الخرطوم برئاسة عبد الناصر نفسه، بتبني شعار اللاءات الثلاث، وما أدراك ما اللاءات الثلاث، “لاصلح، لا اعتراف، لا تفاوض” مع العدو الصهيوني، وشعار “ما أخذ بالقوة لايسترد بغير القوة” والأهم أنه كان قرارا تكتيكيا عسكريا حيث تمكنت القوات المسلحة المصرية من استغلاله لإعادة بناء قدراتها وخصوصا لتركيز حائط صواريخ الدفاع الجوي الذي حرم العدو الصهيوني من التفوق الجوي التاريخي الذي كان يتمتع به والذي قلب موازين القوى بما مكن الجيش المصري من كسب حرب العبور في أكتوبر 1973.
- أما عن تراجع عبد الناصر عن الخيار القومي إلى خيار إقليمي سميته “وطنيا مصريا”، فهي مجرد تخمينات لا أساس لها، ذلك أن عبد الناصر أصدر أهم وثيقة فكرية قومية ناصرية في حياته وهي “بيان 30 مارس 1968” ( بعيد 5 جوان 1967 ) والتي شكلت قراءة تقدمية نقدية عميقة وجريئة للتجربة الناصرية برمتها والتي أعادت لثورة 23 يوليو بريقها… وشبابها…من خلال ضخ دماء جديدة في الاتحاد الاشتراكي والتنظيم الطليعي وما رافق ذلك من تطهير لدواليب القرار في أجهزة الدولة وتصفية لمراكز القوى التي كانت تكبل عبد الناصر نفسه، كما لا أضنه يخفى عليك، انطلاق العمل الوحدوي من جديد بحوارات مكثفة مع قيادات ليبيا والسودان وسورية والتقارب مع الجزائر والعراق… وكذلك الانطلاق الحقيقي للكفاح المسلح للثورة الفلسطينية بدعم كامل من الجمهورية العربية المتحدة وأخيرا وليس آخرا الحركة الفكرية والثقافية التي نشطت بكل حرية لتعبيد مشروع النهضة الحقيقية للأمة بأسرها وعلى رأسها مؤلف “نظرية الثورة العربية” للمفكر عصمت سيف الدولة. فهل بعد هذا مجال للافتراء.
- أما حكاية عدم مواكبة العرب للثورة التكنولوجية بخلاف الصهاينة الذين أبدعوا حسب ما يفهم من كلامك، فهو بكل أسف، إمعان في السطحية لأنه تصور طوباوي يرى أن العرب “المتخلفين” لم يحسنوا الاختيار بينما “الصهاينة العباقرة” اختاروا الطريق الصحيح؟؟؟ ، فتجنبا للإطالة سأكتفي بتناول النقاط التالية:
– أن هناك حضر دولي على إدخال التكنولوجيا وعلى بيع السلاح المتطور لكل الدول العربية منذ قيام دولة الكيان الصهيوني عام 1948، حتى يضمن التفوق الدائم لدولة الكيان، إضافة إلى القائمة الطويلة من العلماء العرب الذين وقع اغتيالهم في كافة أرجاء العالم، فليس اختيارا من العرب صعوبة الولوج إلى عالم التكنولوجيا.
– أن دولة “إسرائيل” التي تعتد بها هي ليست إلا أداة من أدوات الحركة الصهيونية العالمية وكل موارد الصناعة الغربية متاحة لها وهي غير قادرة على الحياة متى توقف مدها حتى بماء الشرب ساعات معدودات، فهي فعلا “أوهن من خيوط العنكبوت” ولنتذكر صراخ استغاثة رئيسة الحكومة الصهيونية غولدا مائير في حرب أكتوبر عندما سقطت مقولة الجيش الذي لا يقهر… هل ننسى؟
– أما حكاية قرار مجلس الأمن في 1948 لتقسيم فلسطين والذي يعتبر البعض أن رفضه كان خطأ جسيما بل جريمة نكراء، غير مدركين أو مدركين أنهم بهكذا موقف يدوسون على كل قيم العدل والحق، فمتى كانت الحقوق تجزأ؟ ثم متى كان للصهاينة عهود ومواثيق أصلا؟ ألم يسمموا ياسر عرفات بعد أن وقعوا معه اتفاقية أوسلو وهل سلموه شبرا واحدا محررا؟ إن جوهر مشروعهم منذ قيام الحركة الصهيونية كان ولازال في شعارهم المكتوب إلى اليوم على جدار “الكنيست”، “بلادك يا إسرائيل… من الفرات إلى النيل” لبناء دولة كبرى تهيمن على الدول العربية من حولها وتكون خالية من السكان العرب ( تهجيرا أو استعبادا وتقتيلا ) وبذلك التقت الحركة الصهيونية بإقامة ما يسمى”دولة إسرائيل الكبرى” مع مشروع سايكس بيكو للدول الاستعمارية الذي قسم الوطن العربي، سنة 1916، إلى دويلات ضعيفة رسم حدودها المصطنعة لتبقى تحت هيمنته وتتكفل دولة الكيان الصهيوني بمنع أي مشروع نهضة أو وحدة عربية بين أقطاره ويسخر” طابور خامس” من العرب العملاء الخونة لتنفيذ سياسة الدول الاستعمارية والكيان الصهيوني… فهل نستغرب هرولة المطبعين؟
إن الصراع في فلسطين ليس صراعا كلاسيكيا بين الفلسطينيين و”الإسرائيليين” حول حدود بل هو صراع وجود بين مشروع نهضة الأمة العربية بأسرها ومشروع التحالف الاستعماري الصهيوني الرجعي الإقليمي. فعن أي إسلام سياسي تتحدث؟ الم يكن الاستعمار البريطاني بالذات هو أول من رعى ويرعى حركة الإخوان المسلمين بل وساعدهم على تأسيس جهازهم السري في سنوات 1941-1942 كما يقول مارك كورتيس و رام تنيور ميترا وجون لوفتوس المدعى العام السابق فى وزارة الخارجية الأمريكية وغيرهم، حتى يكونوا أخطبوطا في جسد الأمة لخدمة هذه الدوائر الاستعمارية والصهيونية؟ ألم تصدق بعد أو تدرك أن منظمات “القاعدة” والدواعش” و”أنصار الشريعة” وأخواتها…. كلها صناعة أمريكية بامتياز لتخريب الوطن العربي ونشر الفوضى الخلاقة والاحتراب الداخلي تنفيذا لمشروع سايكس بيكو آخر جديد ؟؟؟
ألم يقل صلى الله عليه وسلم: ” مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد اذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر”؟ فلسطين جزء من أمة وكذلك مصر… وتونس لا تفصل عن جسد أمتها العربية ولتكن هي عين الهر.
الدكتور الناصر المدوري أحد مؤسسي التيار القومي الناصري في تونس ورئيس جمعية الوحدويين الناصريين. docteur.maddouri@gmail.com
المصدر: الشروق التونسية