لا يُقصد بكلمة مثقّف، في هذا المقال، الشخص المتعلّم مقابل غير المتعلّم، أو من يحمل شهادات دراسية مقابل من ترك التعليم من دون شهادات، إنما القصد من يهتم بالشأن العام وينخرط فيه، من دون أن تقتصر مشاغله على إدارة حياته الخاصة. هذه الكتلة متحرّكة، فمن يهتم اليوم بالشأن العام قد يبتعد عنه في وقت لاحق، والعكس كذلك. ومن الطبيعي أن تكون هذه الكتلة في ذروة حجمها في لحظة الثورة أو الاحتجاج العام. لا تقتصر حركة هذه الكتلة على الحجم، بل تشمل أيضاً الموقف. فمثلاً، تتغيّر مواقف مثقفين كثيرين بتأثير بروز احتجاجاتٍ شعبية، فتتراجع المواقف المحافظة لصالح مواقف مؤيدة للتغيير. وتأتي أهمية المثقف من أنه يشارك في الشأن العام من موقع الفاعل والمؤثر في إطار وعي أو “إيديولوجيا” محدّدة.
ظهر في سورية اعتقاد قديم يقول إن الخروج من المشكلة الطائفية والمذهبية يمكن أن يكون من طريق اجتماع المثقفين غير الدينيين المنحدرين من الأقليات الدينية مع أولئك المنحدرين من الأكثرية الدينية. الأوائل، في غالبيتهم، علمانيون، لأن من مصلحتهم إبعاد النسب الديني عن الشأن العام، والآخرون، في غالبيتهم، ديمقراطيون بحكم منبتهم الأكثري، وعليه تكون النتيجة نخبة مثقفة علمانية ديمقراطية.
حطّم الواقع السوري هذا التصور التبسيطي والميكانيكي، حين عرض، في الثورة السورية وما أعقبها من صراع عنيف، لوحة سورية يبدو فيها مثقّفو الأقليات (نتكلم، بطبيعة الحال، عن الغالبية وبالعموم) وقد قادتهم “علمانيّتهم” إلى السكوت عن، وربما تسويغ، مستويات قصوى من البطش في حقّ مجتمعاتٍ أعلنت خروجها على نظام الأسد، لأن هذا الخروج كان ذا طبيعة إسلامية. ولكن هل هذا الموقف علماني؟ أو ما علاقته بالعلمانية؟ أو بصورة أوضح، هل الإخلاص للعلمانية هو ما يفسّر موقف هؤلاء؟ فيما أبدت غالبيةٌ ظاهرةٌ من مثقفي الأكثرية غير الدينيين استعداداً للمضي مع “التغيير” حتى لو تطلّب الأمر القبول بالإسلاميين، بمن فيهم الذين يرون في الديمقراطية كفراً، ويجاهرون، أو حتى يفاخرون، بذلك. وكأن هؤلاء المثقفين يقولون إنّ المهم هو “التغيير”، ولا يهمّ على يد من. ولكن أين ديمقراطية المثقفين أصحاب هذا الموقف؟
في الواقع، لم يحدُث اجتماع بين المثقفين هنا وهناك، بل حصل، بالأحرى، تنافر وتباعد في الموقف. وطوّر كل طرف دفاعاً ومحاجّة ضد الطرف الآخر. كل منهما حاكم الآخر وفق معايير الأرضية العلمانية الديمقراطية التي جمعتهم يوماً. اتّهم الطرف العلماني الطرف الآخر بأنه خان مبادئه، حين وقف مع الإسلاميين المعادين للعلمانية وللديمقراطية، الطرف الديمقراطي اتهم الطرف الآخر بالجبن والانكفاء عن الثورة التي طالما انتظروها معاً.
ولمّا كان رأس النظام السوري من المنبت العلوي، وكانت النخبة الأمنية والعسكرية التي تمسك مفاصل الدولة السورية، في غالبيتها من العلويين، على عادة الأنظمة القمعية المفتقرة إلى الشرعية العامّة، التي تعتمد في تماسكها على عصبياتٍ غير عامة، فقد جرى استيعاب اللوحة السورية المستجدّة، بواسطة منظور طائفي يقول إن مثقفي الأقليات (العلويون منهم بوجه خاص) اصطفّوا مع نظام “الأقلية” ضد ثورة الأكثرية السنّية، فيما وقف المثقفون السنّة مع هذه الثورة لأنها ضد النظام الأقلوي. أو بوضوح أشد، وقف مثقّفو الأقليات ضد الثورة لأنها إسلامية سنيّة، فيما وقف مثقفو الأكثرية المذهبية ضد نظام الأسد لأنه “علوي”. أي فُسِّر موقف المثقفين على أنه انحياز طائفي في الأساس. وإلا فلماذا تغلّبت المواقف المعادية أو المتردّدة حيال الثورة لدى مثقفي الأقليات، وتغلبت المواقف الداعمة لها بجذرية ومن دون تردّد لدى مثقفي الأكثرية؟
مع ذلك، يبقى من المهم التفكير في السؤال: هل كان المنبت الطائفي فعلاً هو ما يفسّر توزع مواقف المثقفين؟ أو بشكل أدقّ، هل ينمّ الموقف السياسي للمثقف عن تفضيله أو انحيازه لطائفته في وجه الطوائف الأخرى؟ وهل تشكّل الطائفة في الأساس جسداً يمكن تناولُه وحدة لها تجانس يصحّ معه الكلام عن موقف سياسي تفضيلي أو غير تفضيلي تجاهها؟ ولأننا نميل إلى الإجابة بالنفي عن الأسئلة السابقة، فإن السؤال التلقائي هو: لماذا، إذاً، ظهر قدرٌ لا بأس به من التطابق بين المواقف السياسية والمنابت الطائفية؟
لا يختلف موقف مثقّفي الأقليات عن موقف عموم أبناء الأقليات، كلاهما محكومٌ إلى تصوّر عام له مستنداتٌ واقعية غير قليلة، يقول إن التغيير الممكن والراجح إسلاميٌّ يعامل الأقليات الدينية بوصفها كذلك، أي بوصفها خارجةً عن صواب “ديني” عام، ما يستجر لهم مكانة “سياسية” أدنى. يزداد هذا التصوّر حدّة في الجانب العلوي الذي يحمّله تيار واسع من الوعي العام السوري مسؤولية جرائم النظام السوري الذي يصفه هذا التيار بأنه “علوي”. كل ما يفرّق مواقف مثقفي الأقليات عن العامة أنهم يبرّرون موقفهم “الطائفي” بلغة غير طائفية عنوانها “العلمانية”. وقد يجد أبناء الأكثرية، بمن فيهم المثقفون، صعوبةً في فهم مأزق المثقف الأقلوي الذي ربما قضى حياته في سجون النظام السوري يحلم بالثورة، ولكنه صار يبحث في الثورة، حين حصلت، عمّا يبرّر تحفظاته ومخاوفه من “سقوط النظام”. ضمن هذه الحدود، لا يصحّ اعتبار هذا موقفاً طائفياً، لأنه في الواقع “ارتكاسٌ” أمام تهديدٍ، حقيقيٍّ أو موهوم لا فرق، يطاول المنسوبين إلى طائفةٍ ما.
ولكن المشكلة تزداد تعقيداً، وتتّخذ شكلاً طائفياً صادماً، حين يسكت هذا المثقف أمام جرائم فظيعة تُرتكب بحقّ قطاعات واسعة من الجمهور السنّي الذي خرج على النظام. هذا السكوت معيب ومرفوض أخلاقياً وسياسياً، مع ذلك يبقى من المهم السؤال: هل هو سكوتٌ طائفيٌّ أم سياسي؟ أي هل هو نابعٌ من أن الضحايا من السنّة، أم من أن خيارهم السياسي الإسلامي يبثّ الخوف في قلب المثقف؟
في المقابل، لا يمكن اعتبار مساندة المثقفين السنّة القوى الإسلامية التي سيطرت في الثورة موقفاً طائفياً، فهم (الديمقراطيون غير الدينيين منهم) لا يساندونها بوصفها قوىً إسلامية سنّية، بل بوصفها قوىً قادرة على قلب النظام الراسخ، الأمر الذي يعتقدون، بحقّ أو بغيره، أنه يفتح المجال لاحقاً لصراعاتٍ جديدةٍ يمكن أن تحسّن شروط الصراع السياسي. هذا هو المنطق الذي يحكم موقف هؤلاء، وهو ليس موقفاً طائفياً. حتى ما يبدر عن هؤلاء من “عداء” للأقليات وللعلويين ربما بصورة خاصة، لا تحرّكه كراهية طائفية بل يتحرّك على خط عداء سياسي تظهر فيه الأقليات سنداً لنظام الأسد ضد محاولة تغييره.
لا يعني ما سبق أن هذا التطابق الواسع بين المنبت المذهبي والموقف السياسي لم يرسخ في النفوس عداءاتٍ وكراهياتٍ طائفية الطابع، غير أن الأساس السياسي لها يجعلنا نقول إنها أمراضٌ قابلة للشفاء.
المصدر: العربي الجديد