حربٌ مشتعلة في أوكرانيا، وفي البلقان حربٌ مرشّحة للاشتعال في أي لحظة، وفي أقصى شرق آسيا حروبٌ محتملةٌ في الأجل المنظور، لكن سورية قد تصبح شرارة “الانفجار العالمي الكبير”!
لقد نجح الغرب، وسط تعقيدات كبيرة، أن يمنع الحرب الروسية الأوكرانية من التمدّد خارج حدود أوكرانيا، وما يزال بالإمكان إبقاء أزمة تايوان تحت سقف الاحتواء والمساومة. لكن سورية المُتنَازَع عليها بين حلم كردي مستحيل وخروقات عسكرية إسرائيلية لا تكاد تتوقّف، نفوذ إيراني ذي أنياب ومخالب، وتدخّلات وقائية تركية، فضلًا عن حضور غامض لبقايا داعش… إلخ، أصبحت ساحة استعراض عضلاتٍ وإرسال رسائل واصطفاف إقليمي ودولي.
والمواجهة حول سورية (وفيها) تستكمل كل يوم أسباب حتميّتها، فهي الساحة الوحيدة في العالم التي تتقاطع فيها من دون مواربة مصالح ذات أهمية استثنائية لروسيا وأميركا وإيران وتركيا وإسرائيل، فضلًا عن أهميتها الكبيرة لأمن شرق المتوسط واستقرار دول جوار أخرى، كلبنان والعراق والأردن، وهي منذ سنوات “صخرة على منحدر” لا تستقرّ ولا تنهار. وخلال أقلّ من عامين، تحولت سورية إلى نقطة صدام في العلاقات الدولية مؤهلة لأن تستدرج عدّة دول في مواجهة متعدّدة الأطراف، ولا يُستبَعد أن يفلت زمامها من الجميع. وفي تاريخ العلاقات الدولية دروس مشابهة لعل أهمها “تدحرج” واقعة اغتيال ولي عهد النمسا في صربيا، لتشعل تداعياتها الحرب العالمية الأولى. وسورية جزء من نطاقٍ جغرافيّ، يمتدّ من القاهرة إلى أنقرة، تكرّر وصفه بأنه قلب العالم الجيوستراتيجي. ومنذ بدأت الثورة السورية وكرة الثلج تكبر، ثم إن عودة النظام السوري إلى جامعة الدول العربية تجاوزت كثيرًا قيمتها الرمزية، لتصبح مؤشّرًا على افتراق عربي/ أميركي حول قضية الديمقراطية بوصفها نقطة تقاطع ازدادت أهميتها منذ الغزو الروسي أوكرانيا، وما تلاه من نشوء جبهة اصطفاف غربي أطلسي من كندا إلى أستراليا، مقابل تقارب لم يصل إلى درجة التحالف يقوده الثنائي الروسي/ الصيني.
والتغير النوعي في الموقف الغربي من الملف السوري كله يعود إلى يناير/ كانون الثاني 2022 عندما صدر في كوبلنز الألمانية، حكم قضائي في قضية عُرفت باسم “فرع الخطيب”، تتعلق بنظام القمع السوري ككل. وأحد الاستنتاجات السياسية/ الحقوقية من الحكم أن القضاء الألماني، للمرة الأولى، مدّ نطاق ولايته لتشمل “التعذيب الذي تمارسه دولة ما في أماكن أخرى (خارج ألمانيا)”، حتى لو لم يكن الجاني أو الضحية ألمانيًا. وبحسب تعبيرٍ غنيٍّ بالدلالات، ورد في تقرير تحليلي نشره موقع الإذاعة الألمانية دويتشه فيلله: “مع الاحتجاجات… لم يعد التعذيب يستخدم فقط لاستخراج المعلومات، وإنما أصبح الأمر يتعلّق بالردع والانتقام والإبادة الجسدية للمعارضين”. وفي خطوة أبعد، قال بيان أصدرته محكمة العدل الدولية (8 يونيو/ حزيران 2023)، إن كندا وهولندا قدّمتا طلبًا مشتركًا لإقامة دعوى ضد سورية بشأن انتهاك نظام الأسد الاتفاقية ضد التعذيب وضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة.
والمواجهة القانونية/ السياسية وجه واحد للحفرة السورية التي تستدرج مزيدا من الفرقاء داخل دولة ممزّقة على كل المستويات وتعتمل في داخلها، وفي جوارها الجغرافي، أسباب انفجار عديدة، وفي شرق المتوسط الذي يتقدّم ليحتلّ مكانًا مهمًا بين مورّدي الغاز إلى أوروبا، من المتوقع أن تكتسب المنطقة أهمية في مجال إنتاج الغاز، شبيهة، إلى حدّ ما، بأهمية دول الخليج بوصفها منتجا عالميا رئيسا للنفط. وفي حال استمرّ التدخل الإيراني والاستهداف الإسرائيلي والتمدّد التركي والطموح الكردي والتزاحم الأميركي/ الروسي في هذه الدولة الهشّة المهشّمة، فلا يُستبعد أبدًا أن تبدأ منها دراما انفجار دولي كبير.
وبين كل الدول التي أشعلت فيها “الثورة المضادّة” حرائق لتذويب “الربيع العربي” في الأسيد، تنفرد سورية بوضع لا نظير له، ما يرشّحها، احتمالًا، لأن تكون النقطة التي يبدأ منها انفجار كبيرٌ متعدّد الأطراف. وقد لعبت العقوبات الغربية بحقّ نظام الأسد دورًا حاسمًا في إبقاء سورية خارج الترتيبات الإقليمية الاقتصادية الكثيرة التي جمعت دول الخليج والعراق وتركيا وغيرها، والتصعيد الأميركي/ الأوروبي، وبخاصة حديث وزيرة خارجية فرنسا، أخيرا، عن محاكمة الأسد، يشير إلى أن رمزية المواجهة حول سورية تتخذ أبعادًا أوسع نطاقًا.
أما شرارة الانفجار فلا يعلم إلا الله أين تشتعل.
المصدر: العربي الجديد