أسمع هذه الأيام عتاباً لأمريكا من أصدقاء لها وحلفاء لم أسمع مثله منذ أيام الحرب الباردة، وأسمع انتقادات أعنف من كل ما سمعت من قادة وصناع رأي قابلتهم على امتداد فترات عملي وتنقلاتي في الشرق والغرب. أستمع على وجه الخصوص إلى ما يقوله الصينيون. أسمع وأتفهم لكنني أقلق. بعض الانتقادات المتبادلة بين الأمريكيين والصينيين خرجت عن حدود مألوفة، لتنقل سباق القمة إلى مستوى شائك. بلغني من أصدقاء أمريكيين أنهم خلال اتصالات جرت هذا الأسبوع مع مسؤولين صينيين كبار اشتموا رائحة الشعور بالإهانة. عاد الصينيون حكومة وشعباً يسمعون في تصريحات مسؤولين أمريكيين، وعلى رأسهم الرئيس ترامب، مفردات خطاب هيمنة أفرط في استخدامها المبعوثون الإنجليز في القرن التاسع عشر عشية شن حرب الأفيون ومعارك دبلوماسية لإذلال الإمبراطورية الصينية.
يبدو لنا جميعاً، نحن الأعضاء في جماعات المهتمين بتطورات سباق القمة، أن لغة السباق تتدهور وأخطاء الزعماء على الجانبين تزداد عدداً، وتتفاقم نوعاً وتكلفة.
أذكر أنني في مرحلة مبكرة من ولاية الرئيس ترامب ركزت، في كتابات لي، على أهمية أن يتفادى الطرفان السقوط في بالوعة الإنفاق على التسلح بأرقام مبالغ فيها، فينتهي الأمر بكليهما، وفي أحسن الظروف، إلى إهمال في الانتباه إلى مشكلات اجتماعية كان يجب حلها قبل الانغماس في سباق رهيب، أو ينتهي، في أسوأ الظروف، بسقوط أحد المتسابقين وخروجه نهائياً من السباق، كما حدث مع الاتحاد السوفييتي في عقد الثمانينات من القرن الماضي. تشاء الظروف أن نكون اليوم شهوداً على انحدار قوة ومكانة المتسابق الآخر، وأقصد الولايات المتحدة. أظن أنها دخلت دورة السقوط، ولم يمر على انفراط الخصم السوفييتي سوى عقدين. حدث هذا ولكن من دون إعلام أو إعلان. ها هي واشنطن تكرر الخطأ، وتشتبك مع الصين المتسابق الأصغر سناً، والمتجدد شباباً وإبداعاً ونفوذاً وطاقة حشد ودواعي عز وفخر. تشتبك مع بكين ضمن حسابات بالية، ونخبة سياسية هالكة، واستقطابات حزبية حول قضايا ثانوية، فتهمل مشكلات اجتماعية وسياسية عويصة، أهمها على الإطلاق، البطء في تخطيط عمليات التجدد الحضاري، وتشكيل وعي وطني حولها.
أتصور أن الصينيين كانوا يرغبون في تفادي تصعيد لغة السباق خلال العام الجاري، لتفويت الفرصة على الرئيس ترامب الباحث عن قضية خارجية يلتف حولها الناخبون الأمريكيون، فيصوتون له في نوفمبر القادم. يبدو أن أحد المستشارين أسر للرئيس ترامب بنصيحة مفعولها كالسحر. أتخيل أنه طلب منه توجيه رسائل متتالية إلى بكين تحمل طابع الإهانة، وتتهم الممارسات السياسية الصينية بالمراوغة أو الكذب. طلب آخرون من الرئيس أن يكرر تهديده بالتدخل دفاعاً عن حقوق الشعب المسلم في مقاطعة سينكيانج، وعن تطلعات شعب هونج كونج في حكم ذاتي غير محدود بتاريخ.
كنت منذ بداية السباق مقتنعاً بأن الصين بعد أن قضت ثلاثين عاماً تنتقل من صفحة إلى صفحة أخرى أكثر لمعاناً في تاريخ تحضرها، سوف تحتاج قرب نهاية الطريق إلى عقد أو عقدين من الاستقرار في علاقاتها بالولايات المتحدة، لتتأكد من أنها جاهزة بنموذج حضاري خاص بها وإنجازات باهرة. كان لديهم في الصين أمل بأن الطبقة المالية في الولايات المتحدة وطبقة رجال الأعمال لن تسمحا للرئيس ترامب بأن يغالي في مطالبه من الصين، باعتبارهما المستفيد الحقيقي والأكبر بعد الصين من العلاقات الطيبة التي استمرت بين الصين وأمريكا زهاء ثلاثين عاماً. لذلك كان وقوفهما إلى جانب الرئيس ترامب خلال مختلف مراحل حروبه التجارية ضد الصين تطوراً مثيراً للدهشة.
استفدت كثيراً في سنوات اهتمامي بصعود الصين من كتابات المتخصصين في الشؤون الصينية من مفكري دولة سنغافورة وآراء قادتها. لم يخطئ لي كوان يو في نصيحة واحدة من نصائح عديدة وجهها لزعماء جنوب وجنوب شرقي آسيا بخصوص مستقبل علاقاتهم بالعملاق الصيني في وسطهم. توقع، هو وغيره من السياسيين بعيدي النظر، أن يوماً سيأتي تضغط فيه القوى الغربية وأمريكا على رأسها على دول آسيا، لتقرر رفضها القاطع للنموذج الصيني في النمو والتعمير، وفي الحكم. كانت نصيحته لهم جميعاً ولكثيرين في عواصم أوروبا بأن يثقوا بأن حكام آسيا بطبيعتهم وطبائع شعوبهم وثقافتهم لن يختاروا النموذج الغربي، حتى تحت أقسى صور الضغط.
أظن أننا نقترب بسرعة من هذه اللحظة، لحظة الاختيار بين نموذجين في الحكم والإدارة، وتحقيق الاستقرار والمساواة، ورفع مستوى الخدمات، واعتماد مبدأ الكفاءة في اختيار موظفي الدولة ونخبها العلمية والتكنولوجية. لا شك عندي في أن النموذج الصيني لو طرح اليوم لفاز من دون شك. تستطيع الصين أن تطرح بكل بساطة المقارنة بين ما حققته الولايات المتحدة وما حققته الصين من إنجازات اجتماعية خلال الثلاثين عاما الأخيرة. الإجابة في كلمات معدودة: الصين أخرجت ثلاثمئة مليون نسمة من تصنيف الفقر، بينما اتسعت إلى حدود غير مسبوقة فجوة اللامساواة بين أغنياء أمريكا وفقرائها. يمكن أيضاً للصينيين تأكيد هذه الإجابة بصور بلا عدد، ولا تزال ساخنة تغطي أحداث ثورة غضب واحتجاج على سياسات وسلوكيات التمييز العنصري في مدينة مينابوليس، وما لا يقل عن مئة مدينة أخرى في الولايات المتحدة، وبينها واشنطن عاصمة العالم الغربي، ومركز نموذجه في السباق الحامي نحو القمة.
من ناحية أخرى، تستطيع الصين أن تقف أمام دول العالم النامي منتصبة القوام، تزهو بحسن إدارتها لأزمتها مع فيروس كورونا. تعالوا نتكاتف ونعترف بأن أمريكا في خطر، لأن التجديد لم يمس منذ زمن أغلبية مكوناتها. أمريكا قابلة للكسر أكثر من أي وقت مضى، وما ترامب، بصراخه وسلاسل كذبه، ولغات جسده، وخروجه المتعمد عن المألوف في تقاليد الحكم، سوى الشقوق في جدار الدولة الأعظم، وهي تتوسع.
المصدر: صحيفة الخليج