بايدن ديمقراطي من الطراز القديم، وسوناك هو ابن مدرسة محافظة أكثر حداثة. فكيف يظن أياً كان أنه من الممكن أن تتوطد العلاقة بين الرجلين؟
بوصفه رئيساً للحكومة البريطانية، وهو إلى حد بعيد أكثر انسجاماً مع الولايات المتحدة مقارنة بمن سبقه من رؤساء وزراء بريطانيين في السنوات الأخيرة، يجب أن يكون ريشي سوناك هدية إلهية “للعلاقات المتميزة” التي لطالما أثني عليها بين أميركا وبريطانيا.
لقد عمل سوناك لفترة في الولايات المتحدة الأميركية، وهو يملك منزلاً على شاطئ البحر في ولاية كاليفورنيا، كما أنه حاصل على شهادة عليا في دراسات إدارة الأعمال من جامعة ستانفورد الأميركية ولديه، أو ربما كانت لديه “بطاقة إقامة أميركية خضراء” التي تسمح لحاملها بالإقامة والعمل في أميركا. إن حماسته الواضحة للبلد تجعل منه ذلك المخلوق النادر: فهو بريطاني، لا يفهم ويقدر الولايات المتحدة الأميركية وما يؤثر فيها فحسب، بل هو يمكنه أن يتدبر أموره على الضفة الأخرى من المحيط الأطلسي. إن إلفته مع أميركا واضحة لأعين الجميع. وكان يجب أن تكون الزيارة الرسمية الأولى التي يقوم بها إلى واشنطن هذا الأسبوع انتصاراً له.
في النهاية، ها هو يغادر الولايات المتحدة وليس في جعبته سوى “إعلان أطلسي” مبهم ومخيب للآمال يتعلق بتطوير التكنولوجيا الصديقة للبيئة، في غياب أي إشارات على وجود اتفاقية تجارة مشتركة براقة وجديدة. عوضاً عن ذلك فإن تحقيق ذلك يبدو بعيداً كل البعد. الرئيس الأميركي لم يكن يتذكر حتى ما تسميته الوظيفية.
هناك ثلاثة أسباب لعدم تحقيق سوناك النجاح في البيت الأبيض كما كان مفترضاً أن يحدث. السبب الأول يعود إلى أن منافسيه السياسيين كانوا قد استغلوا علاقات سوناك السابقة مع الولايات المتحدة – خصوصاً، وعن جهل، بسبب “كارت الإقامة الأخضر” (والذي كانوا قد صوروه على أنه باسبور آخر) – الهدف منه الإيحاء بعدم ولائه للمملكة المتحدة، والتلميح أيضاً إلى أنه كان لديه بديل جاهز يمكنه من خلاله الوثب نحو مستقبل عابر للأطلسي، لو أن حياته المهنية السياسية في المملكة المتحدة لم تكن ناجحة. من أجل السياسة البريطانية الضيقة الأفق، فإنه لم يعد بإمكانه حالياً الظهور على أنه “مقرب جداً من أميركا”.
السبب الثاني، هناك عامل الوقت المحدود الذي سيبقى فيه سوناك في منصبه كرئيس للحكومة – ومحاوره الأميركي سيكون على معرفة تامة بذلك كما يعرف ذلك حلفاؤه وأعداؤه في بلده على حد سواء.
لكن السبب الثالث والأهم هو أنه كان غير محظوظ إلى حد بعيد مع الرئيس الأميركي “الموجود حالياً”. يمكنكم أن تتخيلوا أنه كان يمكنه أن يجد مواضيع نقاش مشتركة كثيرة بشكل مباشر مع لنقل رئيس أميركي، مثل جون أف كينيدي JFK، أو الرئيس أوباما، و(بشكل أقل من ذلك) مع زميله المجاز أيضاً في الدراسات العليا في إدارة الأعمال، جورج دبليو بوش، لكن فارق العمر، بالتالي الفارق في الخبرات الحياتية يبلغ تقريباً أربعين عاماً. إن الفارق في شكل التصرفات، والأولويات السياسية، والسمات الشخصية – إلى الدرجة التي يمكن من خلالها الحكم من المظاهر – هو ضخم للغاية.
المسألة لا تقف عند مجرد كون الرئيس بايدن ديمقراطياً من الطراز القديم، فيما أن سوناك هو بريطاني من المحافظين بنسخة محدثة. أو أن السبب يعود إلى كون الرئيس بايدن هو ماكينة سياسية مجربة وماكرة، قادراً على احتواء التهديدات الأخيرة، مثل تخلف الولايات المتحدة عن دفع ديونها من خلال “التعاون مع أعضاء الكونغرس من الحزب الجمهوري”، فيما تبدو مهارات سوناك السياسية، وكي نكون غير قاسين، أقل تطوراً من التي يملكها بايدن. ربما السبب يعود أيضاً إلى كون الرئيس بايدن هو من نبلاء الساحل الشرقي، من أصول إيرلندية، فيما سوناك يبدو أنه وبشكل أكبر، ملتصق أكثر بمجددي الساحل الغربي الأميركي ــ وفي المملكة المتحدة، إنه يأتي من خلفية انتمائه إلى جيل تعددي بريطاني حديث بشكل أكبر.
ولا يبدو بايدن وكأنه قد بذل كثيراً من الجهود لإعطاء الأولوية للعلاقات، أو حتى لمحاولة التواصل مع سوناك خلال الثمانية أشهر تقريباً التي أمضاها كرئيس للوزراء في بريطانيا. إن العلاقات [بين الرجلين] كانت قد انطلقت بشكل سيئ عندما اختلط اسم ريشي سوناك على الرئيس الأميركي الذي سماه “راشد سانوك” Rashid Sanook، الأمر الذي يفترض أنه كان هناك التباس في ذهن [بايدن يتعلق] بالثقافة [التي ينتمي إليها سوناك]. والأمور لم تتحسن كثيراً عندما كان الرئيس بايدن قد اختار أن يمضي يوماً واحداً فقط في إيرلندا الشمالية في أبريل (نيسان) الماضي قبل أن يتوجه لقضاء ثلاثة أيام في الجمهورية الإيرلندية. والأمور أخذت مساراً أكثر حدة نحو الأسوأ، بعد أن تلطف الرئيس بايدن لدى عودته من إيرلندا، وخلال مشاركته بحفل لجمع التبرعات للحزب الديمقراطي، بالاعتراف، بأنه قد قام بزيارة إقليم إيرلندا الشمالية فقط “من أجل ألا يقوم البريطانيون بما من شأنه تخريب الأمور هناك”.
وفي الفترة بين الاجتماعين، كان الرئيس بايدن ورئيس الحكومة سوناك قد جمعتهما مناسبات دولية مختلفة – مثل قمة مجموعة دول العشرين G20، في بالي في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، وخلال اجتماعات التحالف الرباعي “أوكوس” Aukus، في سان دييغو في الولايات المتحدة الأميركية في مارس (آذار) الماضي، وأخيراً قمة مجموعة الدول الصناعية السبع في هيروشيما اليابانية – لكنه لم يكن هناك أي شيء من شأنه أن يفترض أنه تمت إعادة إحياء أي نوع من “العلاقات المتميزة” بين الجانبين. بعض الدفء كان يمكن ملاحظته بين عائلة سوناك والسيدة الأميركية الأولى جيل بايدن التي كانت قد حضرت حفل تتويج الملك تشارلز الثالث، الشهر الماضي، والذي تبعه مشاركتها في فعالية شعبية، أجريت في شارع 10 داونينغ ستريت للاحتفال بالمناسبة، ولكنه من الصعب وصف علاقات المملكة المتحدة مع الولايات المتحدة الأميركية حالياً، بأنها أي شيء يشبه “التميز” (على رغم من ذلك، فإن جيل بايدن، وأكشاتا مورتي [زوجة سوناك]، كانتا قد حضرتا معاً تمريناً في رياضة الدراجات Soul Cycle، بعد حفل التتويج).
السؤال هو هل سيتغير الوضع اليوم؟ يعول كثيرون على الواقع بأن سوناك هو ضيف مقيم في بيت الضيوف الرئاسي، بلير هاوس Blair House، وهو يقع عبر الشارع من مبنى البيت الأبيض. جرت العادة أن يقيم رؤساء الحكومة البريطانيون في مقر السفارة البريطانية الفاخر في واشنطن والذي صممه “المهندس لوتينز” Lutyens، لكن أهم ما جرى من مناقشات من وجهة النظر البريطانية كان طرح خطة عقد قمة دولية في لندن تتعلق بقوننة الإجراءات الناظمة لتقنية الذكاء الاصطناعي – وهو بديل ضعيف لما كان يروج له بقوة من توقيع اتفاق وشيك للتجارة الحرة بين البلدين.
فيما تبدو الولايات المتحدة الأميركية حالياً وكأنها عند سفح جبل بدء تحديات حملات الانتخابات الرئاسية لعام 2024، ليس هناك من شيء يكفل بأن الرئيس بايدن سيفوز في ولاية ثانية، ويتزامن ذلك مع بروز إشارات عن اتباع واشنطن نهجاً أكثر حذراً تجاه السياسة الأوكرانية من لندن، ولذلك فإن أي استثمارات دبلوماسية هي أمر قد تم التحذير منه على ضفتي المحيط الأطلسي، ولكن وعلى رغم ذلك، وفي حال قيام الولايات المتحدة باختيار رئيس جديد، ربما رئيس أصغر سناً، وأن سوناك قد نجح أيضاً في البقاء في مقر الحكومة في رقم 10 داونينغ ستريت بعد تلك الانتخابات – وهما أمران مستبعدان من خلال الظاهر حالياً – قد يكون هناك أرضية لعلاقات أكثر تحسناً، إذا لم نقل عودة إلى “العلاقات المتميزة” الأصيلة التي كانت سائدة في السنوات الماضية.
أضف إلى مسألة صغر سنه النسبي، والطاقة التي يظهرها خلال نزوله قفزاً على درجات الطائرة، وسلوكه المبتسم والمباشر في التعاطي، وابتعاده عن العبارات الملطفة والرموز التي تشتهر بها اللغة الإنجليزية البريطانية، وكون سوناك يتصرف بعفوية في تعامله مع الولايات المتحدة وزعامتها السياسية. يمكن أن يكون من المفيد أيضاً الملاحظة بأن الناس من أصول هندية يشكلون المجموعة العرقية التي تتقاضى أعلى الأجور في الولايات المتحدة الأميركية. وباختصار، كان يمكن لسوناك أن يكون الرجل القادر على وضع الختم على نوع جديد من “العلاقات المتميزة” مع الولايات المتحدة فيما تقوم المملكة المتحدة بإعادة صياغة دبلوماسيتها في زمن ما بعد بريكست.
بعد كل ما جرى، كانت مسألة توافق العلاقات الشخصية بين الرؤساء الأميركيين في الماضي مع رؤساء الوزراء البريطانيين – تنجح أو تفشل في العمل – بسبب الظروف أكثر، أو حتى بسبب صفاتهم الشخصية ونظرتهم إلى العالم بشكل أكبر من أي شيء آخر. لم تبدأ علاقة الرئيس رونالد ريغان ورئيسة الحكومة مارغريت تاتشر كصديقين مقربين للغاية، لكنها تطورت نوعاً من الثقة المتبادلة بين الزعيمين خلال فترة من الظروف الخطرة جداً والتي أصبحنا اليوم نعرفها، وكانت تلك فترة نهايات الحرب الباردة. الرئيس جورج دبليو بوش، ورئيس الحكومة جون ميجور، كانا شخصين رماديين، ولكنهما كانت لديهما “أياد أمينة” safe hands أقدر على الإمساك بدفة الإبحار، وسط المخاطر جراء انهيار الشيوعية في أوروبا، والتي انتهت بانحلال عقد الاتحاد السوفياتي.
أما آل كلينتون وآل بلير – وهما كانا زوجين شابين في موقع القيادة، ينظر إليهما على أنهما كانا أداة للتطور والتغيير – ويمكن الحكم عليهما على أنهما كانا قد تركا بصمات حميدة على العالم، ولكن الديناميكية تحولت إلى شيء من السمية بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول)، عندما قام بلير، متسلحاً بنصف النجاح الذي حققه التدخل الدولي في يوغوسلافيا السابقة، في الانضمام إلى الرئيس بوش الابن في مهمة إعادة تكوين الشرق الأوسط. وبعد ذلك جاء دور الرئيس باراك أوباما ورئيس الحكومة غوردن براون ومساعيهما السياسية الجادة التي كانت مطلوبة للتخفيف من آثار الانهيار المالي في عام 2008. وهما أيضاً كانا متوافقين.
بعد ذلك، ضعفت تلك العلاقات. رئيس الحكومة ديفيد كاميرون ابن الريف البريطاني، لم يكن يوماً مرتاحاً مع الولايات المتحدة الأميركية، أو أنه كان مرتاحاً إلى الرئيس أوباما. كلما اقتصدنا في الحديث عن رئيسة الوزراء تيريزا ماي ومسارعتها إلى استقبال دونالد ترمب في البيت الأبيض، لكان ذلك أفضل. أما بالنسبة إلى ترمب ورئيس الحكومة بوريس جونسون، فكانت هناك فائدة واحدة مشكورة من الجائحة، وهي أنها أبقتهما على مسافة من بعضهما بعضاً. أما ليز تراس، فهي جاءت ثم رحلت من دون أن يثمر مبتغاها توقيع اتفاقية دولية للتجارة بين المملكة المتحدة والولايات المتحدة.
وحالياً، هناك بايدن وسوناك، وهما على النقيض الواحد من الآخر لجهة الجيل الذي ينتميان إليه، والفلسفة [التي يؤمنان بها]، وفي سلوكهما، والاحترام الأساسي، في الأقل من الجانب الأميركي، الذي لا يبدو جلياً دائماً. فلو كان من الممكن لريشي سوناك أن يكون رئيساً للحكومة في ظل عهد رئيس آخر، فكم كانت لتكون مختلفة العلاقات العابرة للمحيط الأطلسي في يومنا هذا. كان يمكنها أن تبدأ ربما في الظهور متميزة بالفعل.
المصدر: اندبندنت عربية