حزيران 1967 حرب الأيام الستة التي لا تنتهي.
لم تسفر هزيمة الجيوش العربية في حزيران (يونيو) 1967 فورا عن بروز الحركات الإسلاموية. كانت قوى اليسار هي التي ملأت الفراغ في ذلك الحين. وفي تشرين الثاني (نوفمبر) من تلك السنة، ولدت جمهورية اليمن الشعبية الديمقراطية (اليمن الجنوبي)، وعلى رأسها جبهة تحرير وطنية تقاوم البريطانيين منذ العام 1963. وفي حزيران (يونيو) من العام 1969، كان التيار الماركسي هو المسيطر على قيادة الجمهورية الفتية. وإذا كانت الهزيمة قد ركعت الجيوش العربية، فقد شاع بالمقابل اللون الأحمر في الأجواء السياسية.
* * *
“هزيمة غريبة”(1) كانت تلك التي حلت بالعرب في العام 1967. فقد أعادت هذه النكسة إلى الذاكرة شبح النكبة التي حلت بالفلسطينيين في العام 1948، وأدت الى نزوحهم مجددا. ومن ناحية أخرى، كان للهزيمة تأثير على الموقف الجذري الذي اتصف به اليسار في كل رقعة من العالم العربي بعد ذلك. وفتحت الهزيمة حقبة جديدة من الزمن، تميزت بسلسلة من الاحتجاجات التي عمت العالم العربي. ولم تكن المنطقة في الأساس بمنأى عن تأثير حركة التحرر الوطني في فيتنام. كما راوَد مدينةَ عدن حلم التحول إلى كوبا جديدة(2)، وظهرت الصين في ذلك الحين على أنها أقل تصلبًا من الاتحاد السوفياتي، لأن الثورة الثقافية فيها حدثت في العام 1966 على أيدي حركة الحراس الحمر الشابة. كما تُعزى نزعة اليسار الجذري المنبثقة عن هزيمة 1967 إلى ظهور جيل جديد في العالم العربي، مهتم بكل ما هو آتٍ من أوروبا. فكانت الشبيبة التونسية واللبنانية والفلسطينية في المهجر تمعن النظر في أحداث الثورة الشبابية في العام 1968 في فرنسا، كما كان لها اتصال بعد ذلك بناشطين “ماويين” (نسبة الى الزعيم الصيني ماو تسي تونغ) في حركة “اليسار البروليتاري”.
القضية الفلسطينية كقضية مركزية
كانت هذه النزعة اليسارية الجذرية كامنة منذ منتصف الستينات(3). ففي العام 1965، أسس نشطاء من حزب البعث العربي السوري ما سمي بـ”حزب العمال الثوري العربي”، بمعية ياسين الحافظ والياس مرقص، وهما مفكران حاولا التوفيق بين القومية العربية والماركسية. وقام بعض الضباط من داخل حزب البعث السوري، من الملتفين حول صلاح جديد، بانقلاب عسكري في 23 شباط (فبراير) 1966. وبذلك أصبح الجناح اليساري هو المسيطر على الحكم في دمشق، إلى حين انتزاع السلطة من صلاح جديد على يد حافظ الأسد، وزير الدفاع في حكومته، في العام 1970.
وفي لبنان برز “يسار جديد” منذ العام 1965. حيث قام ثلاثة طلاب هم فواز طرابلسي، ووضاح شرارة، وأحمد بيضون بتأسيس “لبنان اشتراكي” يسعى إلى حل بديل عن كلا الخطّين، الصيني والسوفياتي –وكانت القطيعة قد تمت ما بين البلدين الشيوعيين- في حين انفصل “التيار اللينيني” (نسبة إلى فلاديمير لينين قائد الثورة البلشفية في روسيا) تدريجياً عن الحزب الشيوعي اللبناني، ليتحول لاحقاً إلى “إتحاد الشيوعيين اللبنانيين”. وطالب قائداه، نخلة مطران وأدمون عون، بإدخال الديمقراطية إلى الحزب الشيوعي اللبناني. وفي تونس، وجهت كل من “مجموعة الدراسات والعمل الاشتراكي”، ومجلة “برسبيكتيف” (آفاق) النقد إلى الزعيم بورقيبة منذ العام 1963.
إلا أن هزيمة 1967 أطلقت العنان لما كان ضمنيا ليتحول إلى تحرك يساري جامح في كل أرجاء العالم العربي. وهكذا حلّ عصر “اليسار الجديد”. وإذ تذكرنا العبارة بحركات اليسار الجديد الفرنسية، مثل “الشبيبة الشيوعية الثورية” و”اتحاد الشبيبة الشيوعية الماركسية- اللينينية”، إلاّ أنه لا سبيل إلى المقارنة فعلاُ بين التيارين. فالحركات اليسارية العربية لم تخرج من رحم الأحزاب الشيوعية، وإنما من رحم القومية العربية. وكان يطغى عليها الاهتمام بالقضايا الوطنية ومناهضة الاستعمار، وكانت قضية فلسطين في قلب اهتماماتها.
عصفت هزيمة العام 1967 أول ما عصفت بحركة القوميين العرب، فعمل أعضاؤها على إضفاء الطابع الماركسي على القومية، وإضفاء الطابع القومي على الماركسية في آنٍ معاً. وكان للفلسطينيين داخل الحركة الدور المحرك، فقاد حركة القوميين العرب منذ مطلع الخمسينات شاب فلسطيني في الثلاثين من عمره، يدرس الطب في لبنان ويدعى جورج حبش، مستوحياً نشاطه من فكر قسطنطين زريق، الأستاذ في الجامعة الأميركية. وإلى جانب حبش برز وديع حداد، وهو لاجىء فلسطيني من صفد، وهاني الهندي، وهو من السوريين الذين حاربوا الميليشيات الصهيونية في العام 1948 داخل كتائب الفداء العربي. وكان لحركة القوميين العرب تعاطف مع الناصرية. وكانت الحركة قد انتشرت خلال الخمسينات والستينات في لبنان وسورية واليمن، وشاركت في مكافحة البريطانيين في اليمن الجنوبي من العام 1963 وحتى العام 1967.
إلا أن هزيمة 1967 أدت بأعضاء الحركة إلى إجراء إعادة نظر جذرية في استراتيجيتهم. فالآمال التي كانت معلقة على مصر عبد الناصر مُنيت بالخيبة التي كانت خيبة ثانية بعد زوال “الجمهورية العربية المتحدة” في العام 1961، التي كانت قد وحّدت سورية ومصر في العام 1958. كما واجه جورج حبش داخل الحركة الوطنية الفلسطينية منافسة من قبل ياسر عرفات، الذي بادر في العام 1965 إلى إطلاق الكفاح المسلح ضد اسرائيل انطلاقاً من جنوب لبنان والحدود الأردنية. وهو ما جعل القوميين العرب يركزون بشكل أكبر أكبر على القضية الفلسطينية ويُخففون من مراهنتهم على الأنظمة العربية.
من تونس إلى عدن
كان لهزيمة 1967 تأثير متضارب على حركة القوميين العرب، حيث أدى إلى حلّها تدريجياً، لكن فروعها الوطنية المختلفة أنجبت تشكيلات سياسية أصبح لها وزنها فيما بعد. أسس جورج حبش ووديع حداد “الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين” في كانون الأول (ديسمبر) 1967، فأصبح الاتجاه السائد في ذلك الحين هو “الكفاح الشعبي المسلح”، المستوحى من النموذج الصيني الماوي. وأصبحت الماركسية-اللينينية مرجعًا فكرياً محورياً. وفي لبنان، أسس مناضلو حركة القوميين العرب الملتفون حول محسن إبراهيم “منظمة الاشتراكيين اللبنانيين” في العام 1969، وأنشأوا بعدها بسنة “منظمة العمل الشيوعي”. وكانت المنظمة رمز اليسار الجديد، حيث جمعت شمل الأعضاء القدامى من حركة القوميين العرب وأنصار “لبنان الاشتراكي” والمنشقين عن “اتحاد الشيوعيين اللبنانيين” المنفصلين عن الحزب الشيوعي، ونشطاء ماويين وتروتسكيين. وهو نموذج فريد من اليسار الجديد يصعب تخيّله في أوروبا الغربية. وتحالفت آنذاك “منظمة العمل الشيوعي”، التي اندثرت اليوم، مع كمال جنبلاط، الزعيم الدرزي وقائد “الحزب التقدمي الاشتراكي”، ومع الحزب الشيوعي خلال الحرب الأهلية في العام 1975، وكانت من ضمن المنظمات المؤسسة لـ”جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية” التي تم تشكيلها صيف العام 1982 لمواجهة الاجتياح الإسرائيلي. وكانت “منظمة العمل الشيوعي” خلال الحرب الأهلية اللبنانية قريبة من منظمة فتح الفلسطينية، ومن “الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين” التي يرأسها نايف حواتمة. ومع ذلك، واجهت المنظمة منافسة من تشكيلات حزبية من اليسار المتطرف. فعلى سبيل المثال، أسس مناضلون لبنانيون مقربون من “الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين” التابعة لجورج حبش “حزب العمل الاشتراكي العربي” في منتصف السبعينات.
ولئن كانت فلسطين تحتل مركز الصدارة في فكر هذه الحركات التابعة لليسار الجديد، فإن هناك تجارب أخرى أصبحت تجذب الأنظار أيضاً، هي تجارب اليمن وسلطنة عُمان. فمنذ العام 1969، جعلت “جبهة التحرير الوطنية” من اليمن مثالاً اشتراكياً يُحتذى، مستوحى من جمهورية ألمانيا الديمقراطية والجمهوريات السوفياتية. ووفّرت جمهورية اليمن الشعبية الديمقراطية في اليمن الجنوبي قاعدة انطلاق للمنظمات الفلسطينية. وفي سلطنة عُمان، كانت جبهة تحرير ظُفار تتصدى للسلطان تيمور المتحالف مع البريطانيين منذ 1963. وتبنى المحاربون العُمانيون المتحالفون مع اليمن الجنوبي الماركسية، وأطلقوا على أنفسهم اسم “الجبهة الشعبية لتحرير الخليج العربي المُحتلّ” في العام 1968.(4)
كما انتشرت أيضاً تنظيمات اليسار الجديد في بلاد المغرب العربي. وإذا كانت الجزائر قد شهدت إحكام سيطرة “جبهة التحرير الوطنية” على السلطة بعد طردها للتيار الأكثر يسارية فيها والأكثر إيماناً بـ”الإدارة الذاتية” ممن التفوا حول أحمد بن بيلا، فقد تجلّت موجة الاحتجاجات على وجه الخصوص في المغرب وتونس، لا سيما في المدن الطلابية. وتم تأسيس الحركة المغربية “إلى الأمام” في العام 1970، في حين حلّت في تونس منظمة “العامل التونسي” محل “مجموعة الدراسات والعمل الاشتراكي” منذ العام 1969. ولهذه المجموعة علاقة مزدوجة بالماركسية والقومية العربية في آنٍ معاً. فقد أتى بعض أعضائها من حزب البعث، مثل الأخوَين أحمد وعصام شبّي، وشغل أحمد منصب وزير التنمية الجهوية في أول حكومة تونسية انتقالية بعد سقوط زين الدين بن علي في كانون الثاني (يناير) 2011.
كما أثرت نظرية ماو تسي تونغ أيضاً على الشباب التونسي المعارض لبورقيبة. وكان لمجموعة “العامل التونسي” سياستها الفلسطينية (5)، إذ توجه العديد من أعضائها إلى معسكرات التدريب التابعة للمنظمات الفلسطينية في لبنان. وقامت هذه المجموعة بتعريب فكرها الماركسي بالتخلي تدريجياً عن اللغة الفرنسية التي كانت سائدة في مجلة “بيرسبيكتيف” (آفاق).
لم يكن بالضرورة في ذهن تشكيلات اليسار الجديد التي ظهرت بعد هزيمة العام 1967 أي نموذجٍ أوروبي تتبعه. وذلك على الرغم من تأثير المسألة العمالية، وكذلك المسألة الفلاحية، عليها. في لبنان، تميزت السنوات الأخيرة من الستينات وبداية السبعينات بإضرابات في “مصنع غندور” في بيروت وبإضرابات عمال التبغ. وفي مصر، كان سائقو سيارات الأجرة وعمال النسيج قد احتجوا على التدابير الحكومية التقشفية المفروضة بعد هزيمة العام 1697. إلا أن الثورة الفلسطينية، طليعة الثورات العربية، هي التي شكلت العامل المحوري في بروز حركات اليسار الجديد، من المغرب إلى اليمن. وكانت هذه الحركات اليسارية المتجذرة في كثير من الأحيان وليدة حركة القوميين العرب، لا وليدة الأحزاب الشيوعية. بل إن ارتباط هذه الأحزاب بالاتحاد السوفياتي جعلها تتأثر بدورها الى حد كبير بهزيمة حزيران (يونيو) 1967، فراحت تشهد هي بنفسها عملية تحول أكبر نحو اليسار.
الأحزاب الشيوعية تسلك منعطفا استراتيجيا
إذا كان الطلاب -وكذلك الضباط الشباب- يتطلعون منذ منصف الستينات إلى حركة القوميين العرب وحزب البعث أكثر مما يتطلعون إلى الأحزاب الشيوعية، فذلك لأن هذه الأحزاب دفعت منذ زمن بعيد ثمن انحيازها إلى خط الاتحاد السوفياتي. وكان الاتحاد السوفياتي قد وافق على خطة تقسيم فلسطين في تشرين الثاني (نوفمبر) واعترف بإسرائيل، لأن أولوية ستالين كانت تتمثل أساساً في إضعاف البريطانيين في الشرق الأوسط. إلا أن الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية وقطاع غزة والجولان السوري وصحراء سيناء المصرية غيّر نظرة الأحزاب الشيوعية للأوضاع ابتداءً من صيف العام 1967. فقد أعربت هذه الأحزاب عن تحفظاتها على مسألة الاعتراف بإسرائيل وأكدت التزامها بالوقوف إلى جانب حركات التحرير الفلسطينية. وكان “الحزب الشيوعي اللبناني” أول من اتخذ هذا المنعطف الاستراتيجي بوضوح. ونشر أمينه العام، نقولا الشاوي، عدة مقالات في صحافة الحزب في آب (أغسطس) وأيلول (سبتمبر) يطالب فيها بممارسة نضال أكثر حزماً ضد إسرائيل.
يعتبر المؤتمر الثاني للحزب الشيوعي اللبناني الذي عُقد في تموز (يوليو) 1968 بمثابة مؤتمر لإعادة تأسيس الحزب. وتمّ فيه اختيار قيادة جديدة، أكثر شباباً، وقام الحزب بعملية نقد ذاتي أكثر جرأة، وأصبح أشد انتباهاً لمسألة الوحدة العربية، كما اعترف بالدور المركزي للقضية الفلسطينية في حركة التحرر العربية. وطالب المؤتمر الثالث للحزب في كانون الثاني (يناير) 1972 بالوحدة، ليس بين الأحزاب الشيوعية فحسب، بل بين كل القوى “التقدمية”: “منظمة التحرير الفلسطينية” و”الاتحاد الاشتراكي العربي” الذي انصهرت فيه الأحزاب الشيوعية المصرية منذ العام 1965، و”جبهة التحرير اليمنية” وحزبي “البعث” العراقي والسوري. ولم يكتف الحزب الشيوعي اللبناني بالتنديد بإسرائيل، بل ندد أيضاً ببعض الدول العربية والأنظمة “الرجعية”. لكنه أقر بوجود “عناصر مناهضة للاستعمار داخل البرجوازية الصغيرة” في البلدان العربية. (6)
كانت السنوات التي تلت هزيمة العام 1967 كذلك سنوات التحوّل الى الكفاح المسلح ضد إسرائيل. ولم يكتفِ الحزب الشيوعي اللبناني بالتقرب من منظمة فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية، بل أسس أيضًا، انطلاقاً من العام 1970، “قوات الأنصار”، في جنوب لبنان، بمساندة الأحزاب الشيوعية في سورية والعراق والأردن. أما “الحزب الشيوعي السوري” بقيادة خالد بكداش، فتقرب من حزب البعث منذ شباط (فبراير) 1966 وانخرط في حكومة صلاح جديد. كما اعترف مؤتمره الثالث في حزيران (يونيو) 1969 بمبدأ الكفاح المسلح ضد إسرائيل. لكن “الحزب الشيوعي السوري” ابتعد عن هذا المسار انطلاقاً من العام 1970 ووصول حافظ الأسد الى السلطة، فالتزم حرفياً بكل ما يصدر عن “حزب البعث” السوري، حتى عندما تصدى البعث لقوات منظمة التحرير الفلسطينية في حزيران (يونيو) 1976. وفي العام نفسه، تأسس “حزب العمل الشيوعي السوري” وعارض سياسة “الحزب الشيوعي”، ونادى بسقوط نظام الأسد. وفي العراق اجتاز الحزب الشيوعي، وكان حزباً قوياً، أزمةً ما بعد هزيمة العام 1967 وطالب المكتب السياسي للحزب بغالبيته بـ”حكومة دفاع وطني”، إلا أنه لم يكن يتمنى في حقيقة الأمر سقوط رئيس الوزراء عبد السلام عارف، على الرغم من كثرة الانتقادات الموجهة إلى الأخير.
وانشقّ عن الحزب الشيوعي العراقي فصيل جذري، يدعى “تيار الكوادر”، الذي أطلق حرب عصابات ضد نظام عبد السلام عارف في أيار (مايو) 1968، وهو النظام الذي أسقطه بعد ذلك بشهرين انقلاب صدام حسين وأحمد حسن البكر. وشرع حزب البعث العراقي في عملية قمع طويلة الأمد ضد الشيوعيين العراقيين، الذين اختفوا شيئا فشيئا من المشهد السياسي.
كان الشيوعيون في العالم العربي قد شهدوا قبل هزيمة العام 1967 تضاؤل نفوذهم لسببين. أولا، محاباتهم للموقف السوفياتي حول تقسيم فلسطين تحت الانتداب. ومن هنا كانت المنافسة القوية التي مثلتها حركة القوميين العرب لهم، وكذلك حزب البعث حول هذا الموضوع بالذات. والسبب الآخر هو عدم تقدير الشيوعيين لأهمية الوحدة العربية حق قدرها. وقد أثاروا، بتصديهم للجمهورية العربية المتحدة، حفيظة العديد من الضباط الشباب والطلاب الذين كانوا يتعاطفون مع الخطاب الوحدوي ويتوقون إلى تخطي إطار الدول الوطنية التي نشأت من عمليات تقاسم المنطقة بأسرها في فترة الاستعمار والانتداب. وشهد العام 1967 منعطفاً تاريخياً لصالح الحزب الشيوعي اللبناني بشكل أساسي. فبتحالفه مع الفلسطينيين، وكذلك مع اليسار الجديد المتمثل في “منظمة العمل الشيوعي” في لبنان، أصبح هذا الحزب طرفاً أساسياً في الحرب الأهلية اللبنانية ابتداءً من العام 1975، وطرفاً في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي في جنوب لبنان ابتداء من العام 1978.
ماذا تبقى من الحركات الجذرية بعد العام 1967
في العام 2017، تبدو حركات اليسار الجديد التي ولدت من هزيمة العام 1967 وكأنها فقدت حيويتها. وقد اختفت من الساحة كل من “منظمة العمل الشيوعي” اللبنانية، وتنظيم “العامل التونسي”. وانهارت منذ بداية التسعينات “جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية”. أما “حزب العمل الشيوعي السوري”، فمع أنه كان ينادي بمعارضة معتدلة لبشار الأسد، إلا أنه شهد “اختفاء” زعيمه الرئيسي، عبد العزيز الخير، على أيدي القوات الأمنية على طريق المطار في دمشق في أيلول (سبتمبر) 2012.
ومع ذلك، هناك عدد من التنظيمات التي بقيت على قيد الحياة. ما يزال لـ”الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين” نُوّابها في المجلس الوطني الفلسطيني، وبإمكانها حشد عشرات الآلاف من أنصارها في المهرجانات السياسية في قطاع غزة. وما يزال “الحزب الشيوعي اللبناني” حياً يرزق، وما يزال يحافظ على قواعد شعبية صغيرة في جنوب لبنان، وسهل البقاع، كما يسانده بعض النقابيين، وقد حصل على نتائج جيدة في الانتخابات البلدية الأخيرة التي أجريت في العام 2016. وفي تونس، يعتبر نُواب “الجبهة الشعبية التونسية” و”حزب العمال” أيضاً من ورثة “منظمة العامل التونسي”.
غالباً ما توصف الثورة الشبابية في إيطاليا في العام 1968، على عكس مثيلتها في فرنسا، بالتدريجية أو “الزاحفة”، حيث لم تبلغ أوْجها إلا في النصف الثاني من سبعينات القرن العشرين. وبهذه الطريقة جاءت الحركات اليسارية الجذرية في فترة ما بعد العام 1967. إننا لم نشهد فورةً شعبية عارمة لإسقاط الاستعمار، أو إضرابات شاملة أو ثورات عربية جماهيرية، وإنما رأينا تداعيات تلك “الهزيمة الغريبة” في شكل ظهور حقبة زمنية جديدة تميزت بسلسلة من الانتفاضات الاجتماعية، المَدنية منها والمسلحة، والتي استمرت عشر سنوات. وفيما يتعلق بالاحتجاج على الأنظمة العربية أو بمناهضة إسرائيل، سبق اليسار زمنياً الإسلام السياسي. لكنَّ نور تلك الحقبة خَفَتَ شيئاً فشيئاً، مع قيام الثورة الإيرانية في العام 1979، وصعود التنظيمات الإسلاموية -مثل “حزب الله” و”حماس” وحركة الاتجاه الإسلامي التونسي. وقد سحبت هذه التنظيمات البساط من تحت أرجل اليسار الجذري، بل وقامت في كثير من الأحيان بتبني بعض من برنامجه المعادي للإمبريالية. (7)
ما الذي تبقى من ذاك الحراك؟ ثمة منظمات سياسية، في لبنان وفلسطين وتونس، ما تزال تصون بعناية هذا التراث اليساري؛ وحركات اجتماعية تُحيي من حين لآخر المطالب القديمة؛ وإرث فكري ما يزال حاضرا في الأذهان؛ وسياسة مُمنهجة لإحياء الذاكرة، محفوفة بالحنين، حيث توضع التقارير الوثائقية ويجري ترتيب المحفوظات بكل تأنٍّ وعناية من صور وملصقات تعود إلى أيام الزخم التي شهدتها منظمة التحرير الفلسطينية، وإصدارات لمذكرات المناضلين القدامى -في انتظار غدٍ أفضل.
*نيكولا دوت بويار: باحث مشارك في المعهد الفرنسي للشرق الأدنى في بيروت، ومستشار لدى عدة هيئات. له ثلاثة مؤلفات: “تونس: الثورة وما سبقها”، منشورات إيريمو/ لارماتان (2013)؛ وكتاب “من الدين إلى التحرير: تاريخ الجهاد الإسلامي الفلسطيني”، مع وسام الحاج وأوجيني ريبيار، من منشورات لا ديكوفرت (2014)؛ و”الفسيفساء المشتتة: تاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية 1993 – 2016″، من منشورات آكت سود (2016). ترجمت المقال من الفرنسية ندى يافي
هوامش:
(1) هي عبارة وصف بها الكاتب، مارك بلوك، هزيمة فرنسا في الحرب العالمية الثانية، في كتابه الشهير الذي يحمل هذا العنوان، من منشورات غاليمار 1990. صادر بالفرنسية، باسم:
Marc Bloch, L’étrange défaite, Gallimard, Paris, 1990.
(2) كريس كوتشيرا :”هل بَهَت لون النجم الأحمر في عدن”؟، صحيفة “لوموند ديبلوماتيك”. عدد تشرين الأول (أكتوبر) 1982.
Chris Kutschera, “L’étoile rouge pâlit-elle à Aden ?”, Le Monde Diplomatique, Octobre 1982
(3) حول تاريخ الحركات القومية واليسارية في العالم العربي منذ العام 1948، راجع كتابًا أساسيًا قام بتنسيقه محمد جمال باروت: “الأحزاب والحركات والمنظمات القومية في الوطن العربي”، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2012
(4) جان بيار فيينو، “حرب العصابات في ظفار تدخل مرحلة جديدة”، لوموند ديبلوماتيك، آب (أغسطس) 1972.
Jean-Pierre Viennot, “La guérilla du Dhofar entre dans une nouvelle phase”, Le Monde diplomatique, août 1972.
(5) نيقولا دوت بويار “تونس وفلسطين: من الحبيب بورقيبة إلى عمران كيلاني مقدمي”، معهد دراسات الشرق الأوسط، 29 حزيران (يونيو) 2012. صادر بالفرنسية:
Nicolas Dot-Pouillard, “La Tunisie et ses Palestine. De Habib Bourguiba à Umran Kilani Muqaddam “, Ifpo, 29 juin 2012
(6) طارق إسماعيل وجاكلين إسماعيل، “الحركة الشيوعية في سورية ولبنان”، منشورات جامعة فلوريدا (1998). صادر بالإنجليزية:
Tareq Y. Ismael et Jacqueline S. Ismaël, The Communist Movement in Syria and Lebanon, University Press of Florida, 1998.
(7) نيقولا دوت بويار، “من بكين إلى طهران، والقدس في البال، التحول المدهش إلى الإسلاموية لأتباع ماو في منظمة فتح”، دفاتر “معهد ريلجيوسكوب” (دراسة الحركات الدينية)، العدد 2، كانون الأول (ديسمبر) 2008. صادر بالفرنسية:
Nicolas Dot-Pouillard, “De Pékin à Téhéran, en regardant vers Jérusalem: la singulière conversion à l’islamisme des “maos” du Fatah”, Cahiers de l’Institut Religioscope, numéro 2, décembre 2008
المصدر: الغد الأردنية/(أوريان 21)