بدا واضحاً أن مشهد الانتخابات الديمقراطية التركيّة الراهنة في احتكامه لإرادة الناخب التركي لم يكن تعبيراً عن تنافس طبيعيّ بين رؤيتين وطنيّتين لقيادة الدولة والشعب إلى مصاف الدول الديمقراطية القوية المزدهرة، إنما كان صراعاً وجوديّاً محتدماً بين إرادتين، الأولى يمثلها تحالف وطنيّ ديمقراطي يسعى لاستكمال مسيرته لتحقيق هذا الهدف، ويمتلك مشروعه وبرنامجه السياسي والاجتماعي والاقتصاديّ الواضح، ويستند إلى إرث من الإنجازات حقق من خلالها قفزاتٍ كبرى في ميادين العلم والصناعة والاقتصاد والعمران والخدمات وغير ذلك، أما الإرادة الثانية فقد ظهرت وكأنها تحالف طامح بالسلطة والحكم يفتقد إلى البرامج ويفتقر إلى الوضوح والانسجام، ويقتصر مشروعه السلطويّ على البروباغندا والشعارات الماضوية، والوعود الرغبوية الكاذبة، وعلى استثارة النعرات العنصرية والطائفية في محاولة للرهان على دغدغة المشاعر الغرائزية لفئة من الناخبين، واعداً إياهم بحياة قزحيّة مزاجها الشمبانيا والعطور الإفرنجيّة، ومستنداً في تحقيق أهدافه التغريبية النكوصية على التفريط بالمنجزات الضخمة التي حققها سلفه..
تعود معركة تركيا في التحرّر من التغريب ومن الهيمنة الأميركية والتبعيّة السياسية والاقتصادية والعسكرية إلى فترة الخمسينات من القرن الماضي، فقد شهدت تركيا عبر عقودٍ انتخابات ديمقراطيّة عديدة عبرت عن إرادة الشعب التركي وأنتجت حكومات وطنية ذات برامج سياسية تنموية اقتصادية وصناعية واجتماعيّة طموحة، تنزع إلى الارتقاء والنهوض بالدولة إلى مصاف الدول الديمقراطية المتقدّمة والمتطورة، وتطمح إلى انتزاع مقعدها بين منظومة الدول القويّة والقادرة على امتلاك قرارها السياديّ المستقلّ في الدفاع عن مصالحها بعيداً عن الخضوع والتبعيّة للهيمنة الأميركية والإلحاق بالمعسكر الغربيّ، وتعزيز هوّيتها الوطنيّة السياسيّة والثقافيّة بما يحقق الأمن والسلام والاستقرار والرفاهيّة.
لكنّ الحكومات التي ظهّرتها نتائج التنافس الديمقراطي ما بين التيارات المختلفة التي تتنازع على قيادة تركيّا آنئذٍ سرعان ما كانت تصطدم بجدران العسكر السميكة مانعة نفاذ أيّ مشروع نهضويّ من الوصول إلى النور، فقد أجهض الجنرالات الموالون لسياسة التغريب بانقلاباتهم كلّ تلك المشاريع النهضوية، وبما يمتلكون من القوة العسكرية والأمنية والضغط على مراكز القوى وبخاصة في السلطتين التشريعية والقضائية استطاعوا سحق جميع محاولات الدفع بتركيّا إلى مجالها الطبيعيّ الجيوسياسيّ وإلى هوّيتها التاريخيّة والثقافيّة المتجذرة في وجدان الأمة، وتجميد الخطط التي أعدتها تلك الحكومات المنتخبة لرسم صورتها المستقبليّة، وكان مصير قادة هذه المشاريع الإعدام أو الاغتيال أو السجن أو الإبعاد والحرمان من ممارسة العمل السياسيّ، ولا زالت صورة عدنان مندريس وتورغوت أوزال ونجم الدين أربكان حاضرة في الذاكرة الحيّة للشعب التركي، وشاهدة على ما يمكن أن تدفعه الأمم من ثمن باهظ فيما لو تمكنت القوى الظلاميّة المتحالفة مع أعدائها من السيطرة على السلطة في بلدهم.
يمكننا التأكيد على أن الانتخابات الديمقراطية التركيّة الرئاسية والنيابية، وفيما تمخضت عنه من نتائج مبشّرة، قد أثبتت بأن المشروع النهضوي الإنسانيّ لحزب العدالة والتنمية بقيادة الرئيس الطيب أردوغان في جميع المجالات قد أصبح واقعاً، وحقيقة ملموسة في هذه الدولة التي تبلورت صورتها تماماً في ذهنيّة المواطن التركيّ، إذ لا عودة بهذا البلد إلى الوراء ولا إلى التاريخ الانقلابيّ المظلم وواقع الارتهان والتخلف والفقر والعجز، وقد أثبت المجتمع التركي جدارته وقراره في حماية بلده والمضيّ في مشروع النهضة بدولته من خلال تصديه لمحاولة الانقلاب الفاشلة في تموز 2016، كذلك عبر منح ثقته للمشروع التنمويّ والحضاريّ لدى ممارسته لحقّه في التصويت الحرّ، فاختار بمليء إرادته وبما يمتلك من الوعي الوطني والسياسي أن يكون حاملاً وداعماً لهذا المشروع، وأن يدافع عمّا حققه من إنجازات كبيرة في زمن قياسيّ نسبة إلى الظروف والتحديات المحلية والإقليمية والدوليّة، وما مرت به تركيا والعالم في السنوات الأخيرة من مآسٍ طبيعية وبشرية تجلت في النزاعات والحروب والكوارث والزلازل والأوبئة، وما خلفته من أزمات اجتماعية واقتصادية وسياسية.
لا بدّ من الإقرار بأنّ الانتخابات الرئاسية والنيابية التركية في جولتها الأولى وكذلك في جولة الإعادة بما يخصّ انتخاب الرئيس كانت تجسيداً حقيقياً للممارسة الديمقراطية بأجمل صورها، وقد حققّت أعلى المعايير والشروط المقررة عالمياً، وذلك يعود لقرار الناخب التركيّ وحرصه أوّلاً، وكذلك لقرار الأطراف المتصارعة على حكم تركيا وقيادة مؤسساتها وحرصهم جميعاً على ممارسة ديمقراطية انتخابية غير مشوبة بالنقص، ليس فقط من قبيل الالتزام بالدستور والقوانين والحرص على الأمن والسلم الأهليّ وحسب، وأيضاً لإدراكهم أنّ المسار الديمقراطيّ السليم المعبر عن إرادة الناخب الحقيقية الحرة هو الطريق الوحيد الذي سيمكنه من إلى العبور إلى موقع القيادة والحكم في بلدٍ قرر أن يصعد سلم المجد.
المصدر : اشراق