في عنوانها لافتتاحيتها حول مؤتمر جدّة، طرحت صحيفة» الوطن» السورية تساؤلاً لافتاً صباح الخميس الماضي:» قمة النصر» أم» قمة الأسد وابن سلمان»؟ ونشير هنا إلى هذا العنوان، اهتماما بأن يطلع عليه من يهمهم الأمر في جدّة، لأن احتمال رؤيتهم لنا – نحن السوريين – مستبعد. نشير أيضا إلى عناوين كثيرة لصحف مقربة من الرئاسة الجزائرية، عبرت عن الغضب من دعوة الرئيس الأوكراني زيلينسكي كضيف على القمة وامتناع الرئيس تبون عن حضورها، فتحدثت «لوسوار دالجيري» مثلا عن «خصخصة الجامعة العربية». ورغم أن الموضوعين متنافران، إلا أن اجتماعهما يعبر عن الحالة الراهنة للجامعة العربية.
كان أنطوني إيدن وزير الخارجية البريطاني قبيل تأسيس الجامعة العربية، في مثل هذا الشهر من عام 1941، قد قال إن «العالم العربي قد خطا خطوات عظيمة منذ التسوية التي تم التوصل إليها مع نهاية الحرب العالمية الأخيرة – الأولى- ويرغب العديد من المفكرين العرب بتحقيق درجة أعلى من الوحدة لشعوبهم مما هي عليه حاليا. ينبغي ألا نتغافل عن مطالبات أصدقائنا هذه، ويبدو لي طبيعيا وصحيحا في الوقت نفسه، أن الروابط الثقافية والاقتصادية أيضا ينبغي توطيدها. إن حكومة صاحب الجلالة من جهتها سوف تقدم دعمها الكامل لأي مخطط يتطلب الموافقة».
أنجز ذلك المسار بروتوكول الإسكندرية بتوقيع سبع دول عربية، كانت أعمارها كلها لا تزيد عن ربع القرن، ما عدا مصر. واهتم تشرشل، بالتوافق مع روزفلت في طراده العائد من يالطا في البحيرات المرة على قناة السويس، بأن يكون للسعودية بمستقبلها الكامن دور واعد. كأن ذلك الثنائي السعودي/المصري يعود إلى الواجهة الآن بقوة، بقيادة ولي العهد السعودي بالطبع، في خططه الطموحة لمستقبل بلاده ودورها الذي يرتسم خطه الخاص شيئا فشيئا.
في أيام زيارة ذلك الطراد، تم استدعاء الرئيس السوري شكري القوتلي لإدماج بلاده (استراتيجيا) في ذلك السياق، وربما كانت هنالك حاجة حاليا لذلك المثلث، تطلبت من حيث الشكل إعادة نظام الأسد – قانونيا – من عتمته، واستيعابه ضمن الخريطة الجديدة.
قبل ذلك بحرب عظمى، حين تعارضت اتفاقات القاهرة وتعهدات مكماهون للشريف حسين، مع ما اتفق عليه سايكس وبيكو (وسازانوف، ممثل القيصر الروسي الذي ننساه)، كان اختيار بريطانيا للصداقة مع فرنسا، حتى جاءت قرارات الانتداب الفرنسي والبريطاني التي توزعت المشرق في عام 1922. وحين اختلف الوضع، وخرجت بريطانيا منتصرة وفرنسا مهيضة الجناح بعد الحرب الثانية، عادت إلى مكماهون – شكلا- واندفعت لابتكار الجامعة العربية.
حاليا تقوم السعودية بدور مكافئ، تعيد من خلاله إحياء تلك الجامعة، رغم تشوهاتها الخَلقية والطارئة الكبيرة. ما يربط الحالتين ارتكازهما إلى المشرق العربي، مع مصر.
هنالك سعودية مختلفة يجري تشكيلها من قبل ولي عهدها وبرعاية ملكها، وهي تجتاز مرحلة انتقالية حساسة يمكن أن تنعكس ضعفا من بعض النواحي، الأمر الذي يستدعي استحضار كل الطاقات من أجل تجاوز الوضع إلى الحال الجديدة. يكمن التحدي هنا في كون ذلك يحدث، لسوء الحظ أو لحُسنه، والعالم كل في وضع جائش يغلي بالمتغيرات والاحتمالات: في أجواء الحرب الأوكرانية والتوتر الغربي تجاه روسيا، التي ترتبط في حلقة الطاقة وطاقة الطاقة مع الخليج، في السعودية وقطر خصوصا، ومع اتساع ظلال المارد الصيني ودكنتها، والتوتراتٍ التي تولدها في منطقة المحيطين الهادي والهندي، ومع إلحاح مسألة نقل تركيز القوى هناك رغم ما يحدثه ذلك من ضعف نسبي في الشرق الأوسط وأوروبا، وبوجود ضغوط روسيا المتزايدة.
يحتاج الحكم إلى تأمين عملية الانتقال هذه، التي تتطلب استعادة الجامعة العربية تلك ولو بحدودها الدنيا، واحتواء الضغوط الناشئة عن زيادة أسعار النفط، ومواجهة إيران ولو بسياسات الاحتواء والمصالحة والتهدئة، مع تطوير وضبط العلاقات مع إسرائيل بما يخدم ذلك السياق المعقد سلبا وإيجابا. يحتاج خصوصا إلى ضبط التحالف والتعارض مع الولايات المتحدة، ويبدو أنه ينجح في ذلك حتى الان، وليس فقط لأن الأمريكيين يدعمون تلك الآليات في التعامل مع الموضوع والتحكم في توتراته حتى لا تتحول إلى انفجارات أكبر من صغيرة وعابرة.
في صياغة جيدة لما تريده السعودية والأردن وغيرهما من نظام الأسد، إضافة واشتراطا على عودته إلى الجامعة العربية، أكد بيان عمان على مخرجات اللقاء في جدّة بين مجلس التعاون الخليجي ومصر والعراق والأردن، والذي جمع بدوره بين السعودية ومصر والعراق والأردن أيضا بحضور ممثل النظام السوري، على الحل السياسي في سوريا وعودة اللاجئين وتحسين الخدمات في الأماكن المحتمل عودة اللاجئين إليها، ومشاريع التعافي المبكر، وعن ضرورة إيقاف تهريب المخدرات من سوريا والعمل على تحديد أماكن تصنيعها بالتعاون مع الدول المشاركة في الاجتماع، وحل مسألة مخيم الركبان. كذلك أكد البيان على «أولوية إنهاء الأزمة وكل ما سببته من قتل وخراب ودمار ومن معاناة للشعب السوري، ومن انعكاسات سلبية إقليميا ودوليا، عبر حل سياسي يحفظ وحدة سوريا وتماسكها وسيادتها، ويلبي طموحات شعبها، ويخلصها من الإرهاب، ويسهم في تعزيز الظروف المناسبة للعودة الطوعية والآمنة للاجئين». شكل المؤتمر لجنة خماسية لمتابعة القضية السورية، من تلك الأطراف ذاتها، المهمومة باللاجئين والمخدرات… وإيران.
في المقابل، شرح وزير خارجية الأسد موقفه من مسألة عودة اللاجئين على الشكل التالي: تعتمد عودة اللاجئين على مدى التقدم في إعادة الإعمار، وتعتمد إعادة الإعمار على رفع العقوبات الغربية والأممية… والقمحة عند الطحان! وهذا ليس فهما ملتويا لمخرجات لقاء عمان وحسب، بل هو كسر للربط الغربي بين إعادة الإعمار والبدء جديا بمسار التسوية السياسية التي لا تعدو مفهوم الانتقال السياسي. جاء الرد مباشرة من واشنطن/ الكونغرس بالبدء بمسار إصدار قانون يشدد العقوبات – قانون قيصر وملاحقه – ويعاقب من يخرقها بطريقة أكثر حدة وتأثيرا.
يحضر هنا ما أظهرته حنة أرندت في مقالها الرائع حول» الكذب في السياسة» في أوائل السبعينيات من القرن الماضي، وحول أن «كثيرا من الترسانة الحديثة للنظرية السياسية – نظريات اللعبة وتحليلات الأنظمة والسيناريوهات التي تُكتَب للجمهور- المُتَخيل – تقوم بتعداد الخيارات التي غالبا ما تكون ثلاثة: (أ) و(ب) و(ج)، حيث تكون (أ) و(ج) خيارين في الطرفين المتعارضين على الحد الأقصى، ويمثل الخيار(ب) في منتصف الطريق بينهما الخيار «المنطقي» و»حل» المشكلة أو المسألة – (هل خطر على بالكم أحدٌ ما؟!) – يجد مصدره في ذلك النفور المستقر في العمق. تبدأ المغالطة في ذلك النوع من التفكير بقَسر الخيارات ضمن معضلات متعددة حصرية في حين لا تقدم لنا حقائق الواقع أي شيء دقيق يسمح باستنتاجات منطقية. إن نوع التفكير الذي يقدم كلا من (أ) و (ج) على أنهما غير مرغوب فيهما، وبالتالي يستقر على (ب)، لا يخدم أي غرض آخر سوى تشتيت الذهن وإفشال الحكم على العديد من الاحتمالات الحقيقية» المفيدة، التي تنفع المساكين الذين أصبح نصفهم على الطريق برا وبحرا.
على مثل هذا النسق الأعرج يُقال: صحيح أن» الثمن كان باهظا، لكنه كما قال الأسد: أقل بكثير من ثمن الاستسلام وتسليم سوريا للقوى الظلامية التي يطلق عليها «معارضة» بدل «إرهاب»…» والاستسلام المقصود هنا هو الاستجابة لمطالب السوريين الذين دفعوا الثمن والتسليم بها، بدلا من قتل مئات الآلاف وتشريد الملايين.
لو أراد أهل القمة ومهندسوها حلا للقضية السورية، لكان هنالك طرفان متساويان حسب القرارات الدولية، أو ثلاثة على نسق اللجنة الدستورية، موجودين في جدّة… أو لأُعطي للأسد نصف أو ثلث مقعد وحسب!
من الصعب والمؤلم تناول شيء بعنوان الأسد في جدّة، مع التسليم بأن هنالك احتمالا، ولو كان ضئيلا، أن يأتي بعض الخير منه. ويمكن أن نستفيد من بعض الافتتاحية المشار إليها في مطلع هذا المقال، في أنه «في مثل هذه الأحداث التاريخية، لا تنفع الكلمات، وستكون الصور هي التي تعبر عن انتصار سوريا، وقوة شعبها».. وننتظر ألبوم الصور غير الرسمية، وأخبار آلاف المعتقلين والمختفين في سجون النظام!
للنصر كثير من الآباء كما يُقال، اثنان وعشرون في حالتنا ربما، ولكن الهزيمة يتيمة: الربيع والثورة والشعب أيضا!
المصدر: القدس العربي