دأب قادة “هيئة تحرير الشام” وإعلامها الرديف على اتهام خصومها بأنهم يسعون إلى شيطنة صورة منطقة إدلب عبر وصفها بالسواد، لأنّها تخضع لسيطرة هذا التنظيم المصنّف إرهابياً على نطاق واسع، متجاهلين بذلك مصلحة بضعة ملايين من السكّان في هذه المنطقة يحتاجون إلى كل شيء تقريباً، مما يجب أن يحمل المجتمع الدولي على تقديم المساعدات لهم غاضاً النظر عن الجهة التي تحكمهم وكأنها قدر منزَل، أو السعي إلى بناء تفاهمات معها تتيح لها الفرصة لتقديم صورتها الحالية البعيدة عن الإرهاب الخارجي، والتي فكّت ارتباطها بتنظيماته وأخذت بمحاربتها.
يساند الهيئة في مساعيها هذه، أو في جزء منها على الأقل، بعض الباحثين الغربيين من “خارج الصندوق” ممن يستجيبون لابتزاز الجماعة هذا. ويرددون، عن وجه حق بالطبع، أنه لا يمكن ترك ملايين السكّان في ظروف حياتية صعبة نتيجة وقوعهم تحت سلطة لم يختاروها، وأنه يجب البحث عن “أفكار خلاقة” لهذا الوضع المعقد.
بداية لا بد من القول بأن أحداً جدياً لم يصف إدلب، بسكّانها والمتحكمين فيهم، بالسواد. ومن البديهي أن هذه المفردة تستهدف الهيئة على وجه التحديد، ومن يتعاونون معها في مسائل قد تُعدي في التصنيف بالإرهاب أو تمويله ضمن القوانين العالمية أو الخاصة بكل دولة على حدة.
ثانياً، إن الوضع القائم لم ينشأ من فراغ، فهو نتيجة سنوات من سعي هذه الجماعة لخلط مياهها بمياه الآخرين، وتوسيع سيطرتها على حساب الفصائل لتشمل المزيد من الأراضي والسكان الذين يجري “التلطي” وراء احتياجاتهم اليوم، خاصة بعد أن أنشأت سلطة مدنية صورية هي “حكومة الإنقاذ” وعدداً من المنظمات المستقلة في الظاهر والمملوكة للهيئة أو لقادتها، بهدف تسهيل جريان الدعم عبر هذه الأذرع القانونية.
لا يعني هذا ترك السكّان لمصيرهم بطبيعة الحال. لكنه يهدف إلى فك الارتباط بين المسألتين؛ الحاجات الإنسانية واستثمارها السياسي. فمن دون “حلول مبتكرة” يمكن القول إنه على المنظمات الخارجية والدول تقديم أقصى درجات الدعم للسكان لكن ضمن شروط واضحة ومراقبة:
أولها عدم اقتطاع الهيئة حصصاً من هذه المساعدات لحسابها الخاص، كما يجري في الباطن وعبر وسائل ضغط مختلفة وربما شراكات.
ثانيها عدم السماح للهيئة بتوزيع المساعدات وما يصحبه من شراء الولاءات، لا مباشرة ولا عبر ذراعها الكبرى “وزارة التنمية” ولا عبر أصابعها الصغيرة المتشعبة.
ثالثها عدم السماح للهيئة باستخدام الوفر الذي سيتحصل لديها، من حمل أعباء الإغاثة والتعافي والصحة والتعليم، لتغذية طموحاتها العسكرية التي ستقتضي إدخال عدد آخر من السكان في هذه الدوامة وتكبير رقعة الإتجار بمعاناتهم كما هو حاصل الآن.
ومن الواضح مؤخراً أن الهيئة لا تخفي شهيتها العالية لقضم مساحات جديدة من سيطرة “الحكومة المؤقتة” وفصائل “الجيش الوطني”، مما سيعني تعقيداً إنسانياً جديداً، فضلاً عن أنه كارثة سياسية.
من جهة أخرى ينشط مسوقو الهيئة الإعلاميون، كأحمد موفق زيدان وزيد العطار، على مد جسور لها مع شيوخ وكتّاب وأعلام، تحت يافطة “جامعة إدلب” أو عبر بعض المنصات البحثية والإعلامية والثقافية التي تزعم الاستقلال، مثل “المبدعون السوريون” (كرييتيف) و”كتاب كافيه”.
ومرة أخرى إنّ الحل ليس مقاطعة هذه الجهات وترك عشرات الآلاف من طلاب جامعة إدلب والجامعات الخاصة الموجودة، وسواهم من الشباب، تحت التأثير الأوحد للهيئة وحواشيها ولأساتذة بعضهم موتور وقليل العلم.
وعلى هؤلاء الضيوف أن يكونوا أوعى من أن يُستخدموا كشهود زور لتبييض السمعة، وألا يكتفوا بالدور المناط بهم لمناقشة القضية التي يُدعون إليها، وأن يستغلوا المنبر الذي يُتاح لهم لطرح أفكار لا ترضى عنها الهيئة وتلاحق أصحابها على الأرض، كالاعتقالات وأوضاع السجون وشفافية المحاكم والحريات والمعارك الداخلية على شمال الشمال.
من المؤسف أن عدداً من الأسماء العربية المستضافة يجهل التفاصيل المحلية فيظن أنه مدعوٌ للمشاركة مع الثوّار السوريين وإظهار التعاطف معهم، فيبدي استعداده ويفتح كاميرته ويلقي بكلمته العامة عبر الزووم ويذهب في حال سبيله.
ولولا ذلك لم يكن من الممكن رؤية المنصف المرزوقي، رئيس تونس الأسبق، على شاشة جامعة إدلب بعد أن استدرجه المتلاعبون، هو وغيره، إلى ملتقى بعنوان بريء مشجع: «دور الشباب في الأحداث الكبرى». لا ريب في أن المرزوقي، كمدافع عريق عن حقوق الإنسان، كان سيتخذ موقفاً آخر، أو يتكلم بشكل مختلف في الملتقى، لو علم خلفية الداعين وتحكّم “هيئة تحرير الشام” بمفاصل الجامعة.
وقل مثل ذلك عن ملتقى أقامته “وزارة الإعلام” بمناسبة اليوم العالمي لحرية الصحافة! فبعد أيام قليلة منه اقتحم جهاز الأمن العام قرية “دير حسان” لاعتقال بعض أعضاء “حزب التحرير” وسواهم، ممن قال الجهاز نفسه إنّ تهمتهم هي “صناعة الشائعات وبث الروايات”، أي أنها مجرد الكلام، قبل أن يلفق لهم تهمة التنسيق “من أجل إنشاء خلايا أمنية لاستهداف بعض كوادر الثورة، إضافة إلى تشكيل غرفة عمليات لإدارة هذا المشروع الخبيث”، وذلك بعد أسبوع من الحملة التي استنفرت أهالي المنطقة ودفعتهم إلى احتجاجات ما زالت مستمرة إلى الآن وانتقلت إلى مناطق عديدة غيرها، تتناوب فيها وقفات النساء وهن منقبات ومظاهرات الرجال المسائية المصوّرة من الخلف، وكتابة عبارات التضامن على الجدران أو تدوينها على قصاصات ورقية صغيرة وتصويرها سراً، وكل ذلك خوفاً من بطش الهيئة.
يرى كثيرون أنّ قطاعاً من سكان مناطق “الحكومة المؤقتة” بات يرحّب بدخول الهيئة، لو حدث، للخلاص من فوضى الفصائل وفسادها ومن ضعف الإدارة، وهذا صحيح. غير أن المعوّل عليهم في تقييم حكم هذه الجماعة ليسوا أولئك المتعَبين البعيدين الذين يتم ضخ صورة زاهية عن “نموذج إدلب” في موبايلاتهم عبر قنوات إعلامية دؤوبة، بل الذين يعيشون بالفعل تحت هذا الحكم منذ سنوات، ممن لم تترك الهيئة لأحد وسيلة لمعرفة رأيهم الحقيقي بحرية!
المصدر: موقع تلفزيون سوريا