قضت بحل الجيش العراقي واجتثاث حزب البعث من أجهزة الدولة. حيث أعاد بول بريمر كتابة تاريخ العراق أثناء رحلته إلى بغداد، وقد حدث ذلك في مايو (أيار) 2003 بعد أسابيع وحسب من تولي بريمر دوره الجديد كمبعوث رئاسي إلى الدولة (المحررة) حديثاً، ويعرف عنه أنه سفير سابق مخضرم وطرف فاعل بيروقراطياً شغل في الماضي منصب كبير موظفي وزير الخارجية هنري كيسنجر.
وبعد سلسلة من الإحاطات الإعلامية في واشنطن واجتماع أخير في المكتب البيضاوي مع الرئيس جورج دبليو بوش، سافر “جيري”، وهو الاسم الذي أطلقه الجميع على بريمر، إلى قطر ثم إلى الكويت ثم العراق، وفي الواقع اقتضت مهنته الدبلوماسية أن يذهب إلى معظم عواصم الشرق الأوسط، لكنها كانت المرة الأولى التي يرى فيها بغداد، وقد أمضى الأسبوعين السابقين على رحلته الأولى إلى بغداد في محاولة جمع ما استطاع من معلومات عن تلك الدولة التي سيحكمها.
على متن طائرة من طراز “سي- 130” تابعة للقوات الجوية الأميركية، عمل بريمر على تعديل مسودتين لوثيقتين كان ينوي إصدارهما عند وصوله، نصت إحداهما على تطبيق “اجتثاث البعث” [تطهير المجتمع العراقي من حزب البعث] الذي يمنع كبار المسؤولين في حزب صدام حسين من المشاركة في العراق الجديد، فيما تناولت الثانية حل الجيش العراقي وأجهزة أمنية أخرى. وفيما كان بريمر ونائبه كلاي مكمانواي ينظران من نوافذ الطائرة، شاهدا نيراناً مستعرة يمتد لهيبها نحو الأفق، ثم صاح مكمانواي محاولاً أن يطغى بصوته على صخب مراوح الطائرة “القوة الصناعية تتعرض للنهب” قبل أن يضيف “هناك كثير من الحسابات القديمة التي تصفى”.
وبطريقة كان من غير الممكن أن يدركها أي شخص على متن الرحلة، فإن تلك الملاحظات الموجزة أسهمت في مرحلة لاحقة في شرح النتائج النهائية للوثيقتين الموجودتين في حقيبة بريمر، وعلى مدى الـ 20 عاماً الماضية، تعاملت الولايات المتحدة مع الخسائر البشرية والكلف الباهظة التي خلفتها حربها الكارثية التي اختارت خوضها في الشرق الأوسط. واستكمالاً اعتبر هذين القرارين السيئي السمعة الذين صدرا عن “سلطة الائتلاف الموقتة” Coalition Provisional Authority بقيادة بريمر، وعُرفا باسم “الأمر رقم 1″ الذي اقتضى اجتثاث البعث من الدولة العراقية، و”الأمر رقم 2” الذي نص على حل الجيش العراقي، من أسوأ أخطاء الحرب، وينظر إليهما على أنهما الشرارتان اللتان أججتا التمرد الذي حدث في ما بعد، وأشعلتا نار الحرب في العراق طوال سنوات، فسادت فترة من الفوضى أودت لاحقاً بحياة الآلاف من القوات الأميركية ومئات الآلاف من المدنيين العراقيين.
وعلى رغم ذلك ظل الغموض يكتنف هذين الأمرين اللذين مهدا الطريق لكل تلك الفوضى وإراقة الدماء، وفي ذلك الوقت لم يفهم حتى كبار القادة الأميركيين مثل مدير “وكالة الاستخبارات المركزية” جورج تينيت ووزير الخارجية كولن باول، من كان مصدرهما أو من وافق عليهما، ولكن بعد عقدين من الزمان تكونت قصة أكثر اكتمالاً حول نشأة الأمرين المذكورين نتيجة جمع مذكرات من المشاركين الرئيسين في تلك الحرب، ووثائق أرشيفية ومقابلات جديدة مع عشرات من كبار المسؤولين الأميركيين السابقين.
واتضح أن وراء كل من الأمرين قصة خاصة به، ولكل منهما مسار مختلف في عملية صنع القرارات السياسية الأميركية. وعلى رغم أن مسؤولين متوسطي المستوى في الـ “بنتاغون” غير معروفين نسبياً تولوا صوغهما، إلا أن أمر اجتثاث البعث انبثق من العالم الغامض في مكتب وزير الدفاع دونالد رامسفيلد، في حين أن الصيغة النهائية للأمر الذي قرر حل جهاز البلاد العسكري والأمني وضعت على أرض العراق.
ربما يكون من المستغرب أن أولئك الذين طرحوا النهج الجديد لم ينظروا إلى أي من الأمرين بوصفه شيئاً يعتد به في ذلك الوقت، على رغم أنهما ألغيا خطط ما قبل الحرب التي رسمها البيت الأبيض قبل ذلك.
وعلى غرار أشياء كثيرة في المغامرة الأميركية السيئة في العراق، تشكل قصة الأمرين (1) و(2) الصادرين عن “سلطة الائتلاف الموقتة” حكاية تخطيط متأخر، وافتراضات في غير محلها وتنفيذ فاشل، وقد حدث كل ذلك وسط تدهور سريع للوضع على أرض الواقع.
أسوأ الخطط الموضوعة
إن السبب المحدد الذي دفع الولايات المتحدة إلى خوض حرب في العراق سيبقى غير واضح إلى الأبد، فما أدى إلى اتخاذ المسؤولين الأميركيين قراراً مماثلاً كان مزيجاً معقداً من العوامل من بينها وجهات النظر الشخصية المتباينة والإيمان الأصيل بنظريات إستراتيجية محددة، والضغط الذي مارسه المنفيون العراقيون سعياً إلى تحقيق مصالحهم الذاتية والمظالم الطويلة الأمد ضد صدام، وغطرسة ما بعد “الحرب الباردة” والاستخبارات المشكوك فيها وجو من الخوف والوطنية حركته هجمات الـ 11 من سبتمبر (أيلول) 2001.
في المقابل تمثل التبرير البسيط للحرب الذي أعطي للرأي العام في العلن بأن صدام واصل تطوير أسلحة دمار شامل، وبعد حوادث الـ 11 من سبتمبر كانت فكرة أن ديكتاتوراً لديه سجل حافل في شن حرب على جيران بلاده وإيواء الجماعات الإرهابية قد يمتلك يوماً ما سلاحاً كيماوياً أو بيولوجياً أو نووياً، فكرة غير مقبولة. وبالفعل جرى تداول مقترحات غزو العراق في إدارة بوش خلال الأيام الأولى التي أعقبت حوادث الـ 11 من سبتمبر، إبان اشتعال النيران في الـ “بنتاغون” و”مركز التجارة العالمي” [في هجمات 11/9 ضربت طائرتان مدنيتان برجي مركز التجارة العالمي في نيويورك، وأصابت طائرة ثالثة أحد أضلع مبنى الـ “بنتاغون”، وسقطت طائرة رابعة في حقل ناء بولاية بنسلفانيا].
وفي الواقع ففي ليلة الـ 11 من سبتمبر، طلب بول وولفويتز، نائب وزير الدفاع الأميركي وأحد مؤلفي مقالة نشرت في مجلة “ويكلي ستاندرد” عام 1997 عن صدام بعنوان “الإطاحة به”، الحصول على معلومات استخبارية عن علاقة العراق بالإرهابيين، وبحلول صيف عام 2002 بدا الغزو حتمياً.
واستطراداً اتخذ قرار في شأن خطة أولية تقريبية جرت مشاركتها مع الرأي العام، وقضت تلك الخطة أن تكون الحرب سريعة وغير دموية على الإطلاق على الأقل بالنسبة إلى الولايات المتحدة، وأن تستخدم عائدات النفط الخاصة بالعراق المحرر حديثاً من أجل دفع كلف إعادة الإعمار.
يذكر أن إدارة بوش لم تظهر رغبة كبيرة في اعتماد خطة على غرار “مشروع مارشال” من أجل إعادة بناء الدولة [مشروع مارشال هو عبارة عن خطة أطلقها وزير الخارجية الأميركي الأسبق جورج مارشال من أجل إعادة إعمار البلدان الأوروبية بعد الحرب العالمية الثانية].
وعوضاً عن ذلك أرادت الإدارة محاكاة النهج الذي بدا ناجحاً في أفغانستان والمتمثل بغزو سريع وساحق يتبعه نقل السلطة بشكل عاجل إلى قادة محليين من أصدقاء أميركا.
في أفغانستان اختير حامد كرزاي، أحد منتقدي حركة “طالبان” الذي يعيش في المنفى، زعيماً موقتاً للبلاد بعد أسابيع من الغزو الأميركي، وفي المقابل رأى كثيرون في إدارة بوش أن الشخصية الواعدة التي تماثل كرزاي في العراق يمثلها أحمد الجلبي، وهو معارض منفي لصدام كان مقرباً من عدد كبير من تيار “المحافظين الجدد” Neo Conservatives. [أُطلق تعبير المحافظين الجدد على تيار سياسي في الحزب الجمهوري يميل إلى التشدد في النيو ليبرالية مع العمل على نشر نموذجها الاقتصادي والسياسي عالمياً بالوسائل كافة، بما في ذلك القوة العسكرية، وضمت إدارة الرئيس جورج دبليو بوش مجموعة من “المحافظين الجدد” على غرار بول ولفوفيتز ودونالد رامسفيلد وريتشارد بيرل وغيرهم].
مع حلول أوائل عام 2003 حينما تجمعت قوات الغزو في الشرق الأوسط شرع مسؤولو الـ “بنتاغون” بصياغة خطط لاحتلال مخفف [الاحتلال المتهاون الذي يتضمن تدخلات قليلة]، وأطلقوا عليها تسمية عمليات “المرحلة الرابعة”، علماً أن المراحل الثلاث الأولى تمحورت حول الحشد العسكري والعمليات القتالية الأولية، وقد استوحي تصميم مشروع خطط ما بعد الحرب، المشار إليه بالاسم الرمزي “إكليبس 2” Eclipse II، من “مشروع إكليبس” [مشروع الكسوف] Project Eclipse الذي جسد خطة رسمها الحلفاء لألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية.
في الحقيقة استغرق تطوير النموذج الأصلي سنوات عدة بدءاً من عام 1943 حينما كان النصر على النازية بالكاد يلوح في الأفق، وفي المقابل جرى العمل على نسخة 2003 بصورة متعجلة وعانى ضعفاً في الموارد، وجاء بمثابة محاولة يائسة لتخيل عراق ما بعد صدام، ولم تبدأ إلا بعد أن عبرت الدبابات والقوات المحيط الأطلسي.
وبينما واجه المخططون العسكريون في الجيش صعوبة في تحديد طريقة التعامل المناسبة مع آلاف المسؤولين في حزب البعث الذين ينتمون بمعظمهم إلى المذهب السنّي، وجدوا تشابهاً واضحاً مع ألمانيا ما بعد الحرب، فخلال الحرب العالمية الثانية أدرك المسؤولون بسرعة أن أي جهد تبذله الدولة الألمانية المهزومة من أجل “اجتثاث النازية” يجب تنفيذه على نطاق ضيق ومحدود، إذ تبين آنذاك أن حوالى 10 في المئة من الألمان انتموا رسمياً إلى الحزب النازي، فيما شكل ملايين آخرون جزءاً من اتحادات عمالية ومهنية أخرى متحالفة مع النازية، ونظراً إلى أن التخلص منهم جميعاً أمر لن تقبل به الإدارة الأميركية، قرر المسؤولون الأميركيون التخلص من أسوأ الأطراف الفاعلة ومعاقبتهم في مقابل عدم المساس بموظفي الحكومة الأقل حماسة ممن انضموا إلى الحزب النازي لأغراض مهنية وحسب، وتماشياً مع هذه السابقة نصت المسودات الباكرة لـ “إكليبس 2” على اجتثاث محدود لحزب البعث في العراق.
بعد الانتصار
ألقيت مسؤولية الإشراف على المرحلة الرابعة على عاتق جاي غارنر، جنرال متقاعد في الجيش الأميركي تولى رئاسة “مكتب إعادة الإعمار والمساعدات” الإنسانية” Office for Reconstruction and Humanitarian Assistance، اختصاراً “أورها” ORHA، وهي إدارة معنية بتصريف أعمال العراق تأسست عشية الغزو، وحاز غارنر مسيرة لامعة في العراق، ففي نهاية “حرب الخليج” [حرب تحرير الكويت في 1990- 1991]، قاد قوة خاصة أنشئت من أجل مساعدة السكان الأكراد، بيد أن مهمته الجديدة كانت أصعب بكثير، إذ جرى تعيينه في يناير (كانون الثاني) 2003، ولم يمهل سوى بضعة أسابيع لوضع خطة عمل يدير بموجبها 25 مليون عراقي وبلداً بحجم ولاية كاليفورنيا.
بدأ “أورها” عمله من الصفر تقريباً على رغم أن وزارة الخارجية التي تقع في الجهة المقابلة من الـ “بنتاغون” على الجانب الآخر من نهر بوتوماك، أمضت عام 2002 بمعظمه في وضع خطتها الشاملة لما بعد الحرب، وتجسدت تلك الخطة بتقرير مكون من 13 مجلداً أي ما يوازي 1200 صفحة، كلف إعداده 5 ملايين دولار وساعد في وضعه أكثر من 200 عراقي في المنفى، من بينهم محامون ومهندسون وأطباء مقسمين إلى 17 مجموعة عمل.
بيد أن ذاك الجهد المبذول من وزارة الخارجية المعروف باسم “مشروع مستقبل العراق”Future of Iraq Project الذي أشرف عليه توماس واريك انتقد الجلبي بشدة، ونتيجة لذلك على ما يبدو قرر الـ “بنتاغون” تهميش ذلك المشروع وطرحه جانباً.
وأشار غارنر في وقت لاحق إلى أن رامسفيلد أسرّ له أن يتجاهل “مشروع مستقبل العراق”، وكذلك رفض طلبه بضم واريك إلى فريقه.
وعوضاً عن ذلك قدمت خطط الـ “بنتاغون” الجماعية الجديدة والمستعجلة لما بعد الحرب من دون إجراء أي تحسينات عليها إلى “مجلس الأمن القومي” في الـ 10 من مارس (آذار) 2003، قبل أسبوع واحد من الغزو.
وقد أشرف على العرض التقديمي الذي أُطلق عليه اسم “ميغا بريف فور”، فرانك ميلر، كبير مديري “مجلس الأمن القومي” لسياسة الدفاع والسيطرة على التسلح، ويذكر أن الإحاطة الواسعة التي قدمها ميلر تناولت اجتثاث البعث وكذلك مستقبل وزارة الخارجية العراقية وأجهزة الاستخبارات والشرطة والقضاء والجيش، ووصلت تلك الإحاطة إلى حد أنها وضعت تصوراً عن إنشاء لجنة الحقيقة والمصالحة على غرار تلك التي أنشأتها جمهورية جنوب أفريقيا بعد سقوط نظام الفصل العنصري فيها.
واستطراداً قرر المسؤولون أن اجتثاث البعث سيركز على النخبة الحزبية من دون المساس بالحزبيين في المستويات الدنيا، على غرار ما حصل في اجتثاث النازية، وتمثلت وجهة نظر غارنر في أن الولايات المتحدة قد تنجح على الأرجح من خلال الاكتفاء بإزالة القياديين الرئيسين وحسب من كل وزارة أو وكالة، ووفق ما أورده لاري دي ريتا، أحد كبار مساعدي رامسفيلد، “كنا نتحدث عن عدد محدود للغاية، أي ما يوازي تقريباً نسبة واحد ونصف في المئة من القيادات العليا”. واستذكر ميلر الأمر بالطريقة نفسها “لقد أوصينا بتنفيذ اجتثاث البعث بواسطة يد خفيفة [بتهاون ولين]”.
بالنسبة إلى دوغلاس فيث، وكيل وزارة الدفاع الأميركية لشؤون السياسة في الـ “بنتاغون”، بدت قرارات المخططين في شأن اجتثاث البعث واضحة في خضم الاستعداد للحرب، ورأى أن التدبير المقترح الذي اقتضى التخلص بشكل محدود من المسؤولين البعثيين المستهدفين يشكل تدبيراً متواضعاً ومعقولاً، ويستذكر فيث في إحدى المقابلات أنه “لم يتحدث أحد عن وجوب قتلهم أو سجنهم أو تجريدهم من ممتلكاتهم، إذ تمثلت العقوبة في منعهم من العمل في الحكومة الجديدة، ولم يكن الأمر وحشياً لدرجة كبيرة بالنظر إلى أن حزب البعث ارتكب فظاعات كثيرة”.
كذلك ذكر فيث أن القرار لم يثر نقاشاً كبيراً بين الوكالات الحكومية، لا سيما أنه اتخذ في فترة شهدت عدداً من المسائل السياسية الأكثر صعوبة، ووفق فيث، “الأمور التي أتذكرها هي تلك التي كانت مثيرة للجدل، ولا أتذكر أن اجتثاث البعث كان ضمن هذه الفئة بل تولاه فريق مشترك بين الوكالات، وكان هناك إجماع في شأنه”.
وفي رأي غارنر أيضاً لم يمثل اجتثاث البعث مشكلة رئيسة بالنسبة إلى الولايات المتحدة، واستند في توقعه هذا إلى تجربته خلال “حرب الخليج” حينما انتفض الأكراد والشيعة وقتلوا أعداداً كبيرة من البعثيين، ووفق ما استذكره في إحدى المقابلات فقد افترض في ذاك الوقت أنهم مرة أخرى سيقضون على أسوأ المسؤولين بأنفسهم، ويتذكر أيضاً أنه فكر آنذاك بأن “كثيراً من الأشرار سيموتون”. واستطراداً تحدث غارنر مع رامسفيلد عن خطة مبهمة ترمي إلى إبقاء التكنوقراطيين، وفي الوقت نفسه إجراء بعض التحريات والتحقيقات عنهم، وقد وافق رامسفيلد على ذلك.
استكمالاً برز أن الأمر الأكثر تحدياً يتمثل في القضية التي طرحها فيث نفسه في عرض “ميغا بريف فور”، أي ما الذي يجب فعله حيال الجيش العراقي، ووفق ما يتذكره المشاركون فقد شكل ذلك أحد أصعب الأسئلة التي واجهوها بعد الحرب. في الواقع كان الجيش العراقي ضخماً، وتضمن بحسب التقديرات حوالى نصف مليون جندي نظامي وغير نظامي، إضافة إلى فيلق الضباط المتضخم الذي ضم آلاف الجنرالات، وتألفت غالبية المجندين من الشيعة الذين كان يشرف عليهم فيلق من الضباط الموالين لصدام وغالبيتهم من السنّة، وقد خضعوا لتدريب ضعيف ونظام انضباط صارم، وبدا أن السؤال مفتوح حول مدى قابلية الجيش العراقي للإنقاذ، أو إذا كان من الأفضل حله تماماً واستبداله بجيش جديد يبنى من الصفر وفقاً للمعايير الغربية، فلا يعود مقسماً على أسس طائفية.
وفي ذلك السياق تذكر فيث أن “حججاً قوية قدمت من ممثلي طرفي الجدل، أولئك المؤيدين لإصلاح الجيش من جهة والمطالبين بحله من جهة أخرى، ولم يتضح لي ما هي الإجابة الصحيحة”.
وبعد درس المسألة قرر المخططون الأميركيون الإبقاء على الجيش بافتراض أنهم سيكونون قادرين على استخدام هيكله التنظيمي وقواعده وأفراده ومعداته كركيزة في جهود إعادة الإعمار، إضافة إلى ذلك استسلم الجيش العراقي بشكل جماعي أثناء حرب الخليج، واحتجزت القوات الأميركية عشرات الآلاف من أسرى الحرب، وتوقع المخططون الأميركيون حدوث شيء مماثل مرة أخرى، ولكن هذه المرة يمكن تشغيل الجنود المأسورين في إعادة الإعمار.
في الاجتماعات التي عقدت في مارس طلب رامسفيلد من فيث إبلاغ بوش و”مجلس الأمن القومي” أن غارنر توصل إلى خلاصة مفادها أن الجيش يستحق الإنقاذ، ويستذكر فيث أنه “كان ينتظرنا عمل ضخم في إعادة الإعمار، والجيش العراقي يملك منشآت ووسائل نقل ويتضمن أفراداً يتمتعون بالمهارات”، وقد ضمت صفوف الجيش العراقي خبراء في تكنولوجيا الاتصالات والطرق والبناء وما إلى ذلك، ووفق فيث فهذه “كلها أمور شدد غارنر بأننا سنحتاج إلى الاعتماد عليها من أجل إعادة الإعمار”.
وبالتالي وصل الأمر إلى حد أن الـ “بنتاغون” تعاقد مع شركة تعمل في المجال الدفاعي مقرها شمال فيرجينيا، شركة “الموارد المهنية العسكرية”Military Professional Resources Inc التي ساعدت في إعادة بناء الجيش الكرواتي في تسعينيات القرن الماضي، من أجل الإشراف على الجهود الرامية إلى إصلاح الجيش العراقي. ويستذكر غارنر، “غادرت بعد أن حصلت على موافقة رامسفيلد والرئيس [بوش الابن] على إعادة إحياء الجيش، ولم نفكر في إعادة الجنرالات إلا واحداً أو اثنين منهم ربما، ولا في إجراء تدقيق في خلفية العقداء، وفي المقابل أردنا إعادة كل من كان يحمل رتبة مقدم ونزولاً”.
في اجتماع مع الصحافيين في الـ “بنتاغون” في الـ 11 من مارس أدلى غارنر بمعلومات موجزة أمام الصحافة عن المحادثات التي جرت في ذلك الأسبوع في البيت الأبيض، موضحاً أن الولايات المتحدة تأمل في إعادة تسليم زمام الأمور بسرعة إلى العراقيين. وصرح غارنر، “نعتزم البدء فوراً في عملية إعادة تسليم بعض المسؤوليات للعراقيين، وكل يوم سنسلمهم مزيداً من الأمور”.
ومضى يشرح أنهم لن يحلوا الجيش العراقي وسيستخدمونه في عملية إعادة الإعمار، وأشار إلى أن ذلك كان يهدف بشكل جزئي إلى تجنب ترك هذا العدد الكبير من الرجال العاطلين من العمل في الشوارع، وأشار إلى إن الهدف يتمثل في إعادة العراق إلى العراقيين في غضون أشهر.
عشية الحرب ظهر إجماع واسع بين كبار المسؤولين في البيت الأبيض والـ “بنتاغون” على أن اجتثاث البعث يجب تنفيذه على نطاق ضيق ومحدود من دون المساس بالجيش العراقي، ولم تعترض أية شخصية بارزة على ذلك.
الحقائق على أرض الواقع
بدأ الغزو في الـ 20 من مارس، وفي غضون ثلاثة أسابيع اقتحم التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة بغداد وسقطت الحكومة العراقية، وسار كل شيء تقريباً وفقاً للخطة، وربما بأفضل مما توقعه المخططون، بيد أن الصور من العاصمة سرعان ما أصبحت مثيرة للقلق.
في الواقع انتشر النهب على نطاق واسع وبدا الجيش الأميركي غائباً تقريباً فيما كانت المباني الحكومية العراقية تحترق، وتجاهل المسؤولون الأميركيون الاضطرابات المدنية باعتبارها مرحلة موقتة أو حتى علامة على القوة، إذ بات بإمكان العراقيين اتخاذ خيارات شخصية جديدة، وآنذاك أدلى رامسفيلد للصحافيين بجملته الشهيرة، “الحرية غير مرتبة والأشخاص الأحرار لديهم الحرية في ارتكاب الأخطاء والجرائم والقيام بأمور سيئة. هذه الأشياء تحدث”.
لكن مع مضي الوقت أصبحت المشاهد في بغداد أكثر فوضوية، ولم تتسن لغارنر فرصة وضع خططه موضع التنفيذ، وحصل خلاف بينه وبين الجلبي المدعوم من فيث ورامسفيلد ونائب الرئيس ديك تشيني والراغب في الاستيلاء على السلطة وحكم البلاد بنفسه. (وفق ما يذكره غارنر، “لقد التقينا في الناصرية في الـ 15 من أبريل وكرهنا بعضنا بعضاً على الفور). كذلك واجه غارنر أيضاً مشكلة أن الولايات المتحدة لا تملك خطة مفصلة حول كيفية التعامل مع العراق بعد الغزو، وإضافة إلى ذلك افتقرت أميركا إلى العدد اللازم من الجنود من أجل الحفاظ على النظام، واتضح أن الافتراضات الموضوعة وفق مشروع “إكليبس 2” كانت متفائلة للغاية، وفي موازاة ذلك لم تكن هناك خطط طوارئ للتعامل مع دولة أصبحت فجأة بلا قانون.
وسرعان ما شعر غارنر بأن الوقت ينفد، وما أثار الحيرة أن الولايات المتحدة بدأت تسحب قواتها من البلاد وتعود للكويت على رغم هشاشة الوضع الأمني.
في يومه الأول في بغداد التقى غارنر القائد الأميركي المحلي الذي أخبره أن القوات الأميركية تعاني صعوبة في حماية ما يقرب من 250 موقعاً مختلفاً في جميع أنحاء البلاد، وفكر غارنر آنذاك بأنه “حالياً نحن نؤدي دور المحررين، بيد أن نافذة التحرير تلك ستغلق في مرحلة معينة ومهمتنا تتمثل في إبطاء هذا الإغلاق، وحينما تغلق هذه النافذة سنتحول إلى قوة محتلة، وفي تلك الحال سنعجز عن فعل ما يتيعن علينا فعله”.
وفي المقابل عانت هيئة “أورها” التي تولى غارنر رئاستها نقصاً حاداً في الموظفين، ويرجع ذلك جزئياً إلى أن رامسفيلد عارض تعيين عدد من موظفي وزارة الخارجية فيها بمن فيهم واريك، وحاول غارنر المضي قدماً بأفضل ما في وسعه لكن مسؤولين أميركيين رفيعي المستوى في الـ “بنتاغون” شرعوا بإعادة التفكير في بعض القرارات الأساس التي اتخذت في شأن عراق ما بعد الحرب، وبالتالي فقد أبقوه عمداً بعيداً من أجواء ما يجري، ووفق ما تبين من التاريخ الرسمي للاحتلال الذي أعدته “مؤسسة راند” في وقت لاحق، “لم يكن أحد في واشنطن يبلغ غارنر بالتغييرات المهمة في نهج الاحتلال أثناء إعادة النظر فيه، ويرجع ذلك جزئياً إلى أن الشخص الوحيد الذي كلفته واشنطن إبقاء غارنر على اطلاع كان وزير الدفاع رامسفيلد”.
واستكمالاً خسر غارنر دعم واشنطن بعد اتهامه بالفشل في إعادة النظام بسرعة إلى العراق، وفي الـ 24 من أبريل خلال أحد الأيام الأولى التي وجد فيها غارنر في بغداد، اتصل به رامسفيلد وأخبره أن بريمر سيحل مكانه باعتباره المبعوث الرئاسي إلى العراق، ولطالما عرف غارنر أنه سيستبدل في النهاية، وقد أخبر فيث ممازحاً إن بوش أراد “شخصاً مرموقاً” لإدارة العراق.
في المقابل لم يتخيل غارنر أبداً أن تعيينه لن يدوم سوى بضعة أيام، ولم يقع غارنر ضحية السياسات البيروقراطية في العاصمة وحسب، بل ضحية الواقع العراقي أيضاً.
لقد كانت فكرة أن تعتمد هيئة “أورها” [التي يترأسها غارنر] نهجاً متهاوناً مجرد حلم بعيد المنال، وبدا اسم الهيئة بحد ذاته، الذي يؤكد على “إعادة الإعمار والمساعدة الإنسانية”، متفائلاً إلى حد كبير بالنظر إلى أن ما احتاج إليه العراق قبل كل شيء تمثل في مجرد توفر أي مؤشر على وجود سلطة فاعلة.
المأمور الجديد
لقد مثل بريمر بداية جديدة للولايات المتحدة في العراق، وقاد منظمة اعتبرت خليفة لـ “هيئة إعادة الإعمار والمساعدات الإنسانية”، لكنها كانت أقوى وأعلى مكانة وأُطلق عليها آنذاك تسمية “سلطة الائتلاف الموقتة” CPA.
وفي مؤشر على التهور في عملية صنع القرار في ذلك الوقت، فحينما أنشأت إدارة بوش “سلطة الائتلاف الموقتة” لم تكلف نفسها عناء إصدار أمر فعلي بإيقاف هيئة “أورها”، بل إن وما حدث ببساطة لم يكن سوى توقف مكتب “أورها” عن العمل.
فاجأ تعيين بريمر الجميع تقريباً في واشنطن، ويذكر أن أوساط صنع القرارات الحقيقية كانت ضيقة جداً في ذلك الوقت، إذ انحصرت إلى حد كبير بمكتبي تشيني ورامسفيلد، حتى إن الأخبار كانت تصل إلى الشعب وكبار المسؤولين في الإدارة في الوقت نفسه بعد الإعلان عن التعيين الجديد، وكان تينيت متجهاً إلى مقر “وكالة الاستخبارات المركزية” فاتصل بباول وسأله: “ماذا تعرف عن هذا الرجل، بول بريمر؟”.
بيد أن التعيين والتفويض الشامل المصاحب له جاءا متناسقين مع المقاربة المستجدة التي وضعها رامسفيلد وتشيني، ووفق ما يشير إليه روبرت غرينير الذي مثل “وكالة الاستخبارات المركزية” في العملية المشتركة بين الوكالات الأميركية الحكومية في العراق، “أتذكر على وجه التحديد نائب الرئيس أثناء قوله ‘أمامنا خياران، إما الشرعية أو السيطرة، ويتوجب علينا أن نختار السيطرة'”.
واستنتج بريمر من اجتماعات ما قبل المغادرة التي عقدت في واشنطن أن العراق بحاجة إلى نهج أكثر صرامة وإصلاحات أكثر شمولاً مما سعى إليه غارنر، وجعلته اجتماعات الإحاطة بالتفاصيل يشعر كأنه يتجه نحو بلد ينهار. في الواقع عانى العراقيون آنذاك نقصاً في الكهرباء والمياه، فيما جاب اللصوص الشوارع ولم تستسلم الأجهزة الأمنية بشكل جماعي، بل إنها تلاشت ببساطة، وإذاً كان العراق يحتاج بسرعة إلى شخص أكثر صرامة.
ووفق ما لاحظه بريمر تبيّن أن كل افتراض قدمته الولايات المتحدة حول المرحلة الرابعة كان خاطئاً، وقد عقدت الآمال على أن تصمد الدولة العراقية أمام الغزو من دون أن تتأذى في الغالب، وأن تتمكن الولايات المتحدة من التدخل بلطافة من أجل توفير الغذاء والمساعدات وتأمين البنية التحتية النفطية ومن ثم تسليم المفاتيح إلى العراقيين، ويستذكر بريمر في إحدى المقابلات أنه “كان من المهم أن نتذكر اسم الهيئة التي تولى جاي غارنر رئاستها، هيئة إعادة الإعمار والمساعدات الإنسانية، فالافتراض الكامن وراء هذا الاسم هو أننا سنواجه الوضع نفسه الذي واجهناه بعد حرب الخليج الأولى، أي هجمات جماعية على حقول النفط وتحركات جماعية للاجئين والمساعدات الإنسانية”.
وفي السياق نفسه شارك والتر سلوكومب، أحد كبار مساعدي بريمر، في جلسات الإحاطة العاجلة في العاصمة أثناء استعداده مع رئيسه للتوجه إلى بغداد، ويتذكر كيف دهش بما عرفه، ولم يكن للعراق حكومة أو جيش فاعل، وكان اقتصاده وبنيته التحتية مشلولين بسبب العقوبات والفساد وسوء الإدارة.
وفي الواقع دمر الجنود الهاربون والعراقيون الانتهازيون كل مكاتب “حزب البعث” وكل قواعده العسكرية ونهبوها، واختفت جميع المعدات تقريباً، ويستذكر سلوكومب، “لقد أزالوا الأسلاك من الجدران حتى أنهم سرقوا المبولات”.
وآنذاك بدا من المنطقي أن يوصي بريمر وسلوكومب بإلغاء الخطط السابقة الرامية إلى الإبقاء على الجيش العراقي واستبدالها بخطة تهدف إلى تدريب جيش جديد، وبعد أن قدم الاثنان خطتهما الجديدة إلى رامسفيلد الذي وافق عليها، بدأ سلوكومب وآخرون في الـ “بنتاغون” بصياغة ما أصبح لاحقاً الأمر المصيري الذي اقتضى حل الجيش العراقي، وبحسب سلوكومب “قررنا آنذاك وقلنا فلنبدأ من الصفر”. وأضاف، “كانت الرواية لتكون مختلفة لو أن الجيش لم يتضرر. لا أعرف كيف لكن الأمر كان ليختلف تماماً”.
أوامر من؟
ثم ظهرت مشكلة البعثيين، ففي الأول من مايو (أيار)، وهو اليوم الذي أعلن فيه بوش انتهاء العمليات القتالية الرئيسة أمام لافتة كتب عليها “أنجزت المهمة بنجاح”، بدأ بريمر اجتماعاته في واشنطن، وفي ذلك الصباح نشرت مقالة في صحيفة “نيويورك تايمز” للمراسلة جوديث ميلر. ونقلت ميلر عن الجلبي انتقاده للمقاربة المحدودة والضيقة التي اعتمدها غارنر في اجتثاث البعث، وذكرتْ أن المنفي العراقي [الجلبي] ضغط على إدارة بوش من أجل حملة تطهير أكثر شمولاً، ثم وردت شكاوى إضافية في الأيام التالية حينما عين فريق غارنر مسؤولاً حزبياً سابقاً مثيراً للجدل في منصب وزير الصحة، وأعاد تعيين قادة حزب البعث القدامى في جامعة بغداد، وهي خيارات واعية اتخذها الفريق في العراق ومبررة على أساس أن أي جهد لإعادة البناء يتطلب مؤسسات عاملة في ذلك الوقت.
في التاسع من مايو رضخ رامسفيلد للضغوط ووعد علناً بإجراء عملية تدقيق أكثر شمولاً، وفي اليوم نفسه وخلال اجتماع في الـ “بنتاغون”، سلم فيث إلى بريمر أمراً يقتضي اجتثاث البعث على نطاق أوسع مما جرى تصوره في الأصل. وأورد فيث أن ذلك الأمر [اجتثاث البعث] نال الموافقة في إطار العملية المشتركة بين الوكالات.
بالنسبة إلى بريمر بدت تلك اللحظة صغيرة وتافهة في وقت كان يشهد مسائل أصعب بكثير، وبالتالي فقد وضع أمام أمر واقع ومحسوم توجب أن يعلن عنه في الوقت المناسب، وفي ذلك السياق يستذكر بريمر أنه “بما أن فيث هو الذي سلمني الورقة افترضت أنها مكتوبة في مكان ما داخل الـ ’بنتاغون‘ ألقيت نظرة عليها وأخبرني فيث أن المرسوم نال الموافقة بموجب عملية مشتركة بين الوكالات”.
تمثلت المشكلة بعدم إطلاع أي أحد خارج دائرة محدودة من المساعدين على الوثيقة قبل أن يسلمها فيث إلى بريمر، على ما يبدو، وفي الواقع لم تكن هناك عملية رسمية مشتركة بين الوكالات على الإطلاق، وأشار ميلر، كبير مديري “مجلس الأمن القومي”، إلى أن الوثيقة “لم تكن صادرة عن البيت الأبيض، فلو كان ذلك صحيحاً لأرسلت من مكتبي أو من مكتب الأشخاص العاملين معي”.
وعوضاً عن ذلك يبدو أن مسودة المرسوم كان مصدرها مكتب ويليام لوتي، نائب وكيل وزارة الدفاع لشؤون الشرق الأدنى وجنوب آسيا، وضمن مكتب لوتي كان مستطاعاً أن يشرف على المرسوم المقترح فرع معني بالسياسات يعرف باسم “مكتب الخطط الخاصة”، وقد ترأس ذلك المكتب الذي يضم فريقاً مكوناً من حوالى 15 شخصاً، أبرام شولسكي، المتمرس المحنك من أيام إدارة ريغان.
وعلى رغم أن الفريق أعطي عن قصد اسماً غير مباشر [لا يعبر عن غاياته المباشرة]، إلا أنه ركز في الحقيقة على العراق وإيران بشكل أساس، ورفض لوتي إجراء مقابلة في خصوص هذه المقالة، ولكن وفق ما ذكره شولسكي في إحدى المقابلات فإن مسودة الأمر لم تتبع الخطوات الاعتيادية.
وبحسب شولسكي، “لم يكن هناك إجراء حقيقي مشترك بين الوكالات، ومن شأن إجراء كذلك أن يكون غير رسمي في تلك المرحلة”.
ويستذكر شولسكي أيضاً أن اللهجة الأوسع نطاقاً المستخدمة في نص الأمر تأثرت جزئياً بذكريات من مرحلة ما بعد “حرب الخليج”، حينما شجعت الولايات المتحدة انتفاضة شيعية ضد صدام لكنها تراجعت بعد ذلك عن دعم جهود الإطاحة بالنظام، ولكن هذه المرة حرصت واشنطن على أن يفهم الشيعة أن نظام صدام ولّى إلى الأبد.
كان الأمر الأصلي الذي سلم إلى بريمر قد أجرى بعض الحسابات التقريبية حول مقدار البيروقراطية التي يجب إزالتها، وقد تأثرت تلك الحسابات بألمانيا ما بعد الحرب، إضافة إلى تجربة إعادة بناء دول أوروبا الشرقية على غرار بولندا بعد سقوط “الستار الحديدي”. [يطلق تعبير “الستار الحديدي” على الحاجز السياسي والاقتصادي والمعنوي والثقافي الذي فصل بين بلدان الكتلة الاشتراكية وبين العالم الرأسمالي الواسع خلال حقبة “الحرب الباردة”]
وتضمنت المسودة تصوراً بإقصاء الطبقات الثلاث العليا من القادة البعثيين واستبعادهم في المستقبل من مواقع المسؤولية في العراق، وفي المقابل النظر إلى كل حالة على حدة للأفراد المنتمين إلى الطبقة العليا الرابعة.
وحينما شرع بريمر بالتحضير لرحلته إلى العراق شعر بالثقة لأنه منح سلطة رئاسية كبيرة، ولأن مهمته تمثلت في تحقيق تغيير دائم في العراق، وقد ألغيت الخطط الأميركية الأكثر تفاؤلاً بكثير التي وضعت في الأساس لعراق ما بعد الحرب، بيد أن بريمر ومسؤولين آخرين كانوا واثقين من أن النجاح لا يزال في متناول اليد.
توسيع نطاق المهمة
حينما وصل بريمر إلى العراق على متن طائرة الشحن التابعة لسلاح الجو الأميركي، انصب تركيزه على الديكتاتور العراقي المخلوع، وعلى رغم احتلال القوات الأميركية معظم البلاد ظل صدام وعدد من كبار مسؤوليه، بمن فيهم ولداه عدي وقصي، هاربين، وفي ظل تلك الظروف بدت جهود اجتثاث البعث المتواضعة المقترحة خلال الشتاء في واشنطن غير كافية، وقد خشي المسؤولون الأميركيون من أن “حزب البعث” لم يغرق بعد في غياهب النسيان، وكذلك خاف العراقيون العاديون من أن يرحل الأميركيون بسرعة مما يسمح لصدام بالنهوض من تحت الرماد والعودة للسلطة ومعاقبة كل من تعاون مع الغزاة.
ووفق ما يستذكره بريمر عن الديكتاتور الهارب، “لقد كان لوجوده أو بشكل أكثر دقة، لغيابه، تأثير في كل ما كنا نفعله”. واستناداً إلى ذلك ظهرت تلك المسودة التي حملها بريمر في حقيبته والرامية إلى اجتثاث أوسع للبعث، وهو إجراء من شأنه أن يضمن أن صدام وحزبه لن يحظيا بفرصة النهوض من جديد.
يستذكر دي ريتا، مساعد رامسفيلد، الذي تشارك مع بريمر غرفة موقتة في بغداد، أن بريمر كان يريد أن يستهل مهمته بأوامر ومراسيم مفعمة بالحماسة والقوة، ولكن حينما عمم بريمر مسودة أمر اجتثاث البعث وأبلغها إلى قادة عسكريين أميركيين آخرين في الميدان، واجه مقاومة فورية.
في الواقع لقد تغلغل “البعث” في البيروقراطية العراقية بشكل أعمق مما نوقش في البيت الأبيض ووافق عليه أصلاً في مارس، والآن سيتم عزل جميع أعضاء الحزب الكبار من مناصبهم وسيحظر عليهم العمل في المستقبل، والأسوأ من ذلك أن المسؤولين الذين يشغلون أعلى ثلاث طبقات من القيادة في كل وزارة وفي جميع المؤسسات الحكومية الأخرى، بما في ذلك الجامعات والمستشفيات، سيستجوبون في شأن أي صلات لهم مع “حزب البعث” مع إخضاعهم لتحقيق جنائي محتمل.
إذاً ما بدأ في يوم من الأيام كجهد محدود الأهداف لإزالة حكومة صدام والمقربين منه أصبح من الممكن أن يطاول الآن كل مبنى حكومي محلي في البلاد، ولم يكن غارنر الذي وافق على البقاء هناك لفترة انتقالية سريعة ريثما يستلم بريمر مكانه، سعيداً بضمون الأمر [المرسوم القاضي باجتثاث البعث]، وبعد دقائق من قراءته المسودة يستذكر غارنر أنه نزل مع رئيس فرع “وكالة الاستخبارات المركزية” في بغداد، تشارلز سيدل، إلى مكتب بريمر للاحتجاج، وأعرب غارنر عن قناعة مفادها، “لن تتمكن من إدارة البلد”. وأضاف سيدل، “سعادة السفير سيكون لديك 50 ألف عدو في هذه المدينة قبل غروب الشمس”، ولكن من وجهة نظر بريمر فلقد تلقى أمراً من واشنطن وبات متوجباً عليه أن ينفذه، وفي الـ 16 من مايو وقع بريمر “الأمر رقم 1” الصادر عن “سلطة الائتلاف الموقتة”.
كذلك بدا أن مسودة الأمر الأخرى التي نصت على حل الجيش العراقي كانت مبررة بالنسبة إلى بريمر وسلوكومب وفيث في ضوء الواقع على الأرض، إذ رأى بريمر أنه على رغم استمرار بعض الوزارات المدنية العراقية في العمل إلا أن أجهزة الدولة الأمنية، أي الجيش والأمن الداخلي وقوات الاستخبارات، كان لها شأن آخر، فلقد ثبت أن الآمال الباكرة المعقودة على أن الجيش العراقي قد يساعد في إعادة الإعمار والمساعدات الإنسانية لم تكن سوى آمال عقيمة، وعوضاً عن ذلك اختفى الجيش، فقد تلاشى أفراده ونهبت منشآته ومعداته أو دمرت، ووفق سلوكومب، “لم تكن هناك نية في الحفاظ على الجيش العراقي على حاله، وفي لغة الـ ’بنتاغون‘ لقد سرح الجنود أنفسهم بأنفسهم”.
بحلول ذلك الوقت بدا لبريمر أن إعادة تشكيل الجيش العراقي القديم لا تقل صعوبة عن إعادة إنشائه من الصفر، بيد أن بداية جديدة من شأنها أن تسهم في تجنب إثقال كاهل الجيش بأعباء غير ضرورية متمثلة في العلاقات مع صدام والتسلسل الهرمي الطائفي، وقد شرح فيث كيف تغير تفكيره وتفكير الآخرين منذ الشتاء، “كل الحجج المؤيدة للإبقاء على الجيش على غرار امتلاكه مرافق ومواصلات قد اختفت، وظهرت حقائق جديدة على الأرض”.
وكذلك جادل مشاركون آخرون بأن الجيش العراقي قد اختفى إلى الأبد، ومثلاً أشار ميلر إلى أن الأميركيين ألقوا مناشير ووزعوا منشورات تشجع الجنود العراقيين على العودة لمنازلهم وانتظار أوامر العودة لقواعدهم، وأضاف “قلنا للناس غادروا وسنعاود الاتصال بكم”. وحتى قبل ذلك بدأ الجيش الأميركي محادثات مع ضباط عراقيين ودودين حول إعادة تشكيل السلك، وقد عمل أحد مساعدي غارنر، وهو كولونيل يدعى بول هيوز، جاهداً على الاتصال بوحدات الجيش القديمة، ويستذكر غارنر، “توفر لدينا حوالى 40 ألف جندي جاهزين للعودة”، وبالتالي سيكون لقرار بريمر أن يؤدي إلى قطع تلك المناقشات ويخلق في نهاية المطاف مرارة دائمة بين الضباط العراقيين السابقين.
لغز بين الوكالات
على غرار ما حصل مع الأمر القاضي باجتثاث البعث، قوبلت فكرة حل الجيش العراقي بمقاومة على أرض الواقع، وشعر غارنر وفريقه أن ذلك سيؤدي إلى إلغاء كل شيء عملوا على تحقيقه، ويتذكر مايكل بارون الذي كان آنذاك عقيداً في الجيش عمل كمستشار كبير لـ “سلطة الائتلاف الموقتة”، “ظهرت قيادة عراقية جديدة تقول نحن على استعداد للعمل معكم”، ويضيف “لقد تطلعنا إلى إعادة تلك القوات الأمنية، أي الجيش والشرطة، تحت قيادة جديدة تتعاون مع التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة، وفجأة دحض الأمر رقم 2 كل ذلك”.
آنذاك فضل غارنر مع سيدل وبعض العسكريين الأميركيين إشراك جنرالات عراقيين ودودين في القوة العسكرية الجديدة، وفي المقابل خلص بريمر وسلوكومب إلى أن ذلك الأمر سيكون غير عملي، ومن وجهة نظرهما فإن المجندين الشيعة المضطهدين الذين عادوا لمنازلهم بسعادة أثناء الغزو لن يهرعوا لتلبية دعوة مجموعة من كبار الضباط السنّة المرتبطين بالنظام القديم.
وعلى رغم عدم وجود عملية رسمية مشتركة بين الوكالات للموافقة على “الأمر2” الصادر من “سلطة الائتلاف الموقتة”، يستذكر سلوكومب إبلاغ خطة حل الجيش لكل شخص ينبغي أن يعلم بها في واشنطن وبغداد، وكانت تكنولوجيا الاتصالات في العراق عام 2003 لا تزال صعبة ومحفوفة بالأخطار، ولكن جرى إرسال المسودة إلى الـ “بنتاغون”. وأوضح سلوكومب إنه أجرى عدداً من المكالمات الهاتفية واستمع إلى التغييرات النهائية التي طرأت على المستند أثناء مشيه ذهاباً وإياباً خارج القصر الجمهوري في بغداد، حيث عملت “سلطة الائتلاف الموقتة” على تأسيس مقر لها.
وفي إشارة إلى التعديلات الصغيرة التي أجريت، أوضح سلوكومب مستخدماً لغة بيروقراطية، “يمكنني أن أتذكر بوضوح أنني كنت أقف في الخارج في حرارة تصل إلى 120 درجة فهرنهايت [49 درجة مئوية] أراجع بعض التعديلات الطفيفة والتافهة مع أشخاص في الـ ’بنتاغون‘ عبر شبكة اتصال ضعيفة وغير ثابتة من طريق الأقمار الاصطناعية، ونالت مسودة الأمر [بحل الجيش العراقي] موافقة بغداد والقيادة العسكرية العليا، ولكن لمجرد أن أحدهم يقول ’أنا أوافقك الرأي‘ فهذا لا يعني أنه يعتقد أنها فكرة جيدة، لكن لا يمكنه الادعاء بأنه لم يكن على علم في شأنها”.
وكذلك اتفق كبار القادة المدنيين في الـ “بنتاغون” ممن حصلوا على الموافقة الرئاسية في مارس للإبقاء على الجيش مع رؤية بريمر الجديدة، وتقبلوا الحجج التي قدمها حول الظروف المتغيرة، ويتذكر غرينير محادثة جرت مع موظف في مكتب لوتي أخبره بوجه خال من أي تعبير، “إذا أعدنا قيادة الجيش العراقي فسيكون ذلك بهدف أن نرديهم [إطلاق النار عليهم]”، ولكن على رغم أن مسؤولي وزارة الدفاع راجعوا نص الأمر بعناية، فلا يبدو أنهم شاركوه مطلقاً مع المسؤولين خارج الـ “بنتاغون”، ويتذكر سلوكومب أن مكاتب “سلطة الائتلاف الموقتة” أهملت المستند لمدة أسبوع تقريباً قبل أن يدفع بريمر الفريق إلى وضع اللمسات الأخيرة عليه.
وحينما أعلن بريمر عن مضمون ذلك الأمر الذي وُضع قيد الدرس في مؤتمر عبر الفيديو مع فريق الأمن القومي في البيت الأبيض، تفاجأ قادة آخرون في الإدارة بالمعلومات التي سمعوها، وأوضح ميلر، “لم يكن أحد من المشاركين في الاجتماع يعرف ما كان يجري، باستثناء دون رامسفيلد ودوغ فيث وربما نائب الرئيس، وجاءت الطريقة التي عرضت فيها تلك القرارات على مجلس الحرب عبر القول بكل بساطة “هذا ما سنفعله”. حتى الرئيس بدا متفاجئاً، وبعد 10 ثوان من الصمت قال بوش لبريمر، “جيري أنت ممثلنا في موقع الحدث”.
نظرياً وعملياً
بالنسبة إلى فيث كانت تلك لحظة مميزة في الحرب، إذ شكلت مؤشراً رئيساً على كيفية تطور المرحلة التالية من الاحتلال، وأراد رامسفيلد وبوش إعطاء بريمر مساحة لاتخاذ القرارات، بخاصة أنه بدأ للتو، ويستذكر فيث أن رامسفيلد كان مديراً يدقق ويتدخل في الشاردة والواردة، لكن وزير الدفاع لم يستخدم نزعته تلك خارج حدود وطنه، بل كان يميل إلى وضع ثقته في الأشخاص الذين يديرون العمليات في الجانب الآخر من العالم والإذعان لما يخبروه، وعلى حد تعبير فيث “لقد أراد حماية جيري بريمر من أولئك الذين يستخدمون، وفق مثل شائع، “مفكات بطول 5 آلاف ميل” [ أي الأشخاص الذين يتحكمون بالأمور والقرارات عن بعد من دون دراية بما يجري فعلاً على أرض الواقع].
عند النظر إلى الوراء رأى بريمر أن ندمه في شأن “أمر سلطة الائتلاف الموقتة رقم 2″، ينبع في المقام الأول من عدم استعداده لما اعتبره المرحلة الثانية من الأمر المتمثل في خطة ترمي إلى دفع أجور الجيش المُسَرح، ولم يكن في نية بريمر وسلوكومب رمي الجيش العراقي بأكمله إلى الشارع، لكنهما تطلعا إلى منح الجنود السابقين شكلاً من أشكال الإعانات. (على حد تعبير سلوكومب “نحن نعلم أنك إذا لم تدفع للجيش فإن شخصاً آخر سيفعل”)، ولكن وسط فوضى ما بعد الغزو لم تكن الآليات لتحقيق ذلك جاهزة بعد، وكان بريمر وسلوكومب أول من يعترف بذلك، ولم تمتلك “سلطة الائتلاف الموقتة” سجلات موثوقة عن رتب الجيش، ولم تكن عائدات النفط قد بدأت تتدفق لاستخدامها من أجل دفع الأموال لهم، وأسهم التضخم الكبير للدينار العراقي في زيادة التعقيدات من ناحية صرف الرواتب المتأخرة أو المعاشات التقاعدية أو الإعانات التي رغبت “سلطة الائتلاف الموقتة” في تسديدها، وإضافة إلى ذلك تحدث سلوكومب عن مدى عدم الملاءمة سياسياً الذي يتضمنه دفع رواتب جنود النظام السابق قبل وجود نوع من الإجراءات الموثوقة لتعويض ضحاياهم، وكأن سلوكومب قد توقع ما سيجري لاحقاً، فبعد وقت قصير من صدور الأمر ما لبث الجنود المسرحون في جميع أنحاء البلاد أن احتجوا مطالبين بدفع رواتبهم، وخلف الكواليس سارعت “سلطة الائتلاف الموقتة” إلى وضع خطة عمل عسكرية للجيش العراقي، وأفاد بريمر أنه يتذكر تلك اللحظة في منتصف يونيو (حزيران) حينما دخلت ميغان أوسوليفان، إحدى مساعديه، إلى مكتبه في القصر حاملةً جدول بيانات ضخم يحدد أخيراً الخطوط العريضة للجيش العراقي، وهي الخطوة الأولى للبدء في الدفع للجنود السابقين التي شهدت في نهاية المطاف تأخيراً لأكثر من شهر عن وقت صدور “أمر سلطة الائتلاف الموقتة رقم 2”. وصرح بريمر أنه “من بين الأمور التي أندم عليها أننا لم نعلن في الوقت نفسه عن خطة ترمي إلى منح جميع هؤلاء الأشخاص معاشات تقاعدية، ولقد أجلنا الإعلان عن الدفع لأننا لم نكن نملك المال لفعل ذلك، وكانت هذه غلطة”.
وأشار إلى أنهم حينما بدأوا بالدفع أدى ذلك إلى تهدئة احتجاجات الجنود بسرعة، وفي المقابل واجه “الأمر رقم 1” الذي أصدرته “سلطة الائتلاف الموقتة” مشكلات التنفيذ الخاصة به، ففي الأشهر التي تلت ذلك تبين أن اجتثاث البعث أكثر تعقيداً وقسوةً مما دعا إليه “الأمر رقم 1”. وسيطر الجلبي وحلفاؤه على العملية التي لم تحدد لها الولايات المتحدة مبادئ توجيهية واضحة، ومع حلول أبريل 2004 اعترف بريمر نفسه علانية بأن “الأمر رقم 1 نفذ بشكل سيئ وطبق على نحو غير متساو وغير عادل”.
واعترف سلوكومب بأنه وآخرين فوجئوا بالطريقة التي سارت بها خطة اجتثاث البعث، ووفق سلوكومب “فمن الناحية العملية أسيئ استخدامها واُستعملت أداة للتخلص من الناس كمديري المدارس في المدن المتوسطة الحجم، ولقد فاتتنا فكرة أنه في أي مجتمع سيكون هناك قدر كبير من تسوية الحسابات وتبادل المصالح”.
لكن سلوكومب أكد أن هذا لا يعني أن ما فعلوه لم يكن سوى غلطة، “لم يقل أحد أن حل الحزب النازي كان غلطة كبيرة”.
بداية النهاية
كان الأمران الصادران عن بريمر والحاملان لبصمته بمثابة نقطة تحول في مغامرة إدارة بوش في العراق، وتبخرت أي أوهام في شأن عملية دخول وخروج سريعة، وآنذاك أشار الأمران (1) و(2) إلى أن الولايات المتحدة ستحتل البلاد لفترة طويلة بهدف إعادة تشكيل العراق بشكل جوهري، واستبدلت عملية التسليم السريع بعملية إعادة بناء مفتوحة، وبحسب ميلر “المفارقة في أمري سلطة الائتلاف الموقتة رقم (1) و(2) تتمثل في أن بريمر نقض تماماً الرؤية التي رسمها الرئيس بوش للعراق، ولا أعرف شيئاً عن إمكان الدخول والخروج بسرعة، لكن لم تتسن لنا الفرصة قط للمحاولة”.
وعلى رغم ذلك لم تكن فكرة الحرب السريعة والسهلة واقعية منذ البداية، وأشار عدد ممن شاركوا في عملية صنع السياسات في ذلك الوقت إلى حدوث عملية تضخيم في شأن التأثير الفعلي لأمري “سلطة الائتلاف الموقتة” رقم (1) و(2)، ولم تكن المشكلة الحقيقية في الأمرين بحد ذاتهما، بل إنهما اندرجا ضمن أعراض النقص في التخطيط قبل الغزو وعدم وجود عملية صنع قرار واضحة بعده، وفي ذلك الإطار يستذكر غارنر أن ” كل شيء صممه أشخاص في واشنطن لم يسبق لهم أن زاروا العراق، ولقد كانت سلسلة أوامر سيئة وغير مدروسة بشكل كاف”.
وفي الواقع أعطى الأمران دلالة على وجود مشكلة أكبر تتجسد في التحدي شبه المستحيل الذي واجهته الولايات المتحدة حينما اختارت غزو العراق، فانهيار نظام صدام يتطلب بديلاً يحل مكانه وعملية إيجاد بديل ستشمل حتماً خيارات صعبة لا نهاية لها، وعقبات غير متوقعة، وعواقب غير مقصودة، بغض النظر عن مقدار التخطيط الذي قامت به واشنطن، وعلى رغم أن التخطيط المتهور والوجود العسكري الأميركي الضئيل لم يتركا بالتأكيد أي هامش للخطأ، إلا أن اتخاذ قرارات أكثر حكمة من شأنه ألا يكون كافياً، ومن المستحيل إثبات ما كان ليحدث في سيناريو واقعي بديل، وعلى رغم أن خطة ضيقة في اجتثاث البعث مع جهود متضافرة لإنقاذ الجيش العراقي ربما كانت سترسم سياسات أفضل، إلا أنها بالتأكيد لم تكن لتضمن السلام في العراق، وكان الأمران مجرد بداية لما تحول في نهاية المطاف إلى سلسلة من 100 مرسوم من هذا القبيل أصدرتها “سلطة الائتلاف الموقتة” التي استمرت 14 شهراً حتى يونيو 2004 حين سلم الحكم في النهاية إلى حكومة عراقية موقتة، وبحلول خريف عام 2003 صعد التمرد الذي ضم عناصر النظام السابق والجنود المسرحين إلى ذروته، وقد باتت بقية القصة مشهورة، أي فضيحة سجن أبو غريب وفضائح أخرى عن جرائم الحرب التي ارتكبتها الولايات المتحدة وزيادة عدد القوات الأميركية والانسحاب الأميركي وظهور “تنظيم الدولة الإسلامية”، وإضافة إلى أن ذلك كله جرى في ظل عدم الاستقرار السياسي المستمر والعنف والنفوذ المتزايد لإيران، العدو الرئيس للولايات المتحدة في المنطقة، وتبين من فهم طبيعة الحوادث بعد 20 عاماً على وقوعها أنه من الأفضل عدم التفكير في أمري “سلطة الائتلاف الموقتة” 1و 2 باعتبارهما غلطتان لو أمكن تجنبهما لأضحى إنقاذ العراق ممكناً، فلقد شكلا مؤشرين في شكل باكر على أن الرؤى العظيمة التي رسمتها إدارة بوش للعراق لم تكن سوى مجرد أمنيات على ورق وبعيدة عن الواقع الذي أعقب الغزو، وقد شكل لغز نشأة الأمرين وأصولهما الغامضة دلالة على فوضى في صنع السياسات أدت إلى حرب غير ضرورية وسيئة التخطيط، وفي الحقيقة فإن حرب العراق كان محكوماً عليها بالفشل قبل أن يعبر أول جندي أميركي الحدود.
غاريت أم. غراف مؤلف كتاب “ووترغايت: تاريخ جديد”
مترجم من فورين أفيرز، مايو (ايار)/ يونيو (حزيران) 2023
المصدر: اندبندنت عربية