فصول من كتاب ” الأحزاب والقوى السياسية في سوريا 1961 ـ 1985″ الحلقة السادسة عشر

رجاء الناصر ـ مخلص الصيادي

نظرة تحليلية … مأزق الأيدولوجيا وامتحان السلطة  6 / 8

 

البعث والسلطة

 في العام 1963، ما بين 8 أذار/ مارس، و، 18 تموز / يوليو، حقق حزب البعث في سوريا سيطرته الناجزة على سوريا، وأصبحت الفرصة أمامه متاحة ليكشف للجماهير، روحية الحزب، وانقلابيته، وأخلاقيته، والثورة الجذرية التي كانت باستمرار الخلفية التي سند بها شعاراته، وأيضا الخلفية التي وجه من خلالها نقده للقوى الأخرى، وللنظم الأخرى، وفي المقدمة منها النظام الناصري.

ولأن ما مقدمه ـ كنموذج ـ بعد استلامه السلطة حاء مخيبا للآمال، فإن عدد من المفكرين، والدراسين لتاريخ هذا الحزب، درجوا على اعتبار هذا التاريخ ليس كلا موحدا، وإنما ينقسم إلى قسمين أساسيين: قبل وبعد، والفارق بينهما استلام السلطة، أو عمليات التحضير لاستلامها، أو قرار حل الحزب، وإذا كنا نعتبر هذا التقسيم شكلي إلى درجة كبيرة فمن المفروض أن نعرض بعضا من آراء هؤلاء، وأن نبسط نقدنا لهذه الآراء من خلال متابعة مسار الحزب، وعلاقته بالسلطة.

ـ الدكتور جمال الشاعر يرى أن مسار الحزب قد انقطع واختلف بقرار الحل ذاته، فيقول*:” حل الحزب خلق بنظري مشكلة جديدة، وبالرغم من أنني بقيت بالحزب إلى سنة 1975، إلا أنني أعتقد أن حزب البعث قد اختلف مساره عندما أعلن الأستاذ عفلق حله سنة 1958.

ـ والأستاذ منير شفيق يرى تطور الحزب على مرحلتين: الأولى حتى أواخر الخمسينات، ** “أما المرحلة الثانية أي مرحلة الستينات ن فهي التي عرفت محاولات تحويل الحزب إلى حزب من طبيعة أخرى، أو ما شابهه، ولعل التجربة أثبتت خطأ مثل هذا التوجه نحو التطور، لأنه مخالف لطبيعة الأشياء”.

أما الأستاذ صلاح البيطار***، فإنه يشير إلى هذا التغاير بين المرحلتين لكن نقطة الفصل يراها عقب توقيع ميثاق الوحدة الثلاثية، وحتى انقلاب 23 شباط / فبراير

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* ندوة القومية العربية في الفكر والممارسة، مرجع سابق ص 369

** المرجع السابق ص406

*** المرجع السابق 434ـ 435

1966 وذلك حينما “دخل حزب البعث نفق الأزمات التي أدت إلى أن مجموعة “حزبية” انقلبت على القيادة الشرعية، واستخدمت القوة، “وقبل ذلك كانت السلطة” قد دبت عند عدد منها روح انفصالية، ولاسيما عند بعض الضباط الذين كانوا في السلطة.

إن نقد هذه الرؤى يستلزم الوقوف على أمرين اثنين، ومتابعة جدل العلاقة بينهما:

الأمر الأول: رؤية الحوب لدوره ومكانته في حركة المجتمع، والسلطة.

الأمر الثاني: علاقة الحزب بالقوات المسلحة، ودور العسكر في حركة الحزب.

وشرط صحة التفريق بين المرحلتين، لا نقيسه نحن باستمرار سيطرة القيادة التاريخية، أو الشرعية، على مؤسسات الحزب، فهذا شأن داخلي جدا، وليس له دلالة في هذا الجانب، وإنما نقيسه في مدى تمثل أو تناقض حزبيي المرحلة الثانية، وهم في قمة السلطة مع ما تربوا عليه من أفكار ومفاهيم تحدد مكانتهم ومكانة حزبهم في حركة المجتمع، ومن زاوية القياس هذه نرى:

1 ـ رؤية الحزب لدوره: بشكل مبكر جدا كشف الحزب عن حالة من التضخيم المرضي في رؤيته لدوره ومكانته، ليس فقط على جبهة العمل السياسي، وإنما على جبهة العمل الفكري، وقد زاد من أثر هذا التضخم أن البنية الداخلية للحزب كانت أضعف بكثير من أن تتحمل نتائج، ولا نقول مسؤولية، مثل هذه الرؤية.

في كتابات الحزبيين، فإن الحزب لديهم هو الذي قاد ن وأنضج كل الأجواء الإيجابية في الحياة العربية، وعلى وجه التخصيص في المشرق العربي، وحينما يشار إلى قوة ما أخرى، فإن إيجابيتها كانت بمقدار تأثرها بهذا الحزب.

فالوحدة صنعها الحزب، والفكر الاشتراكي القومي أتى به الحزب، ونضال الحزب منع انحدار سوريا إلى المعسكر الرأسمالي في الخمسينات، ونضاله أسقط حكم نور السهيد في العراق، وكان القوة القومية الحاسمة في الأردن ولبنان، بل أكثر من ذلك فإن وجود الحزب هو ما حصن هذه الأمة من أن تتشوه بحركات الالحاد.

إن الاشعاع الفكري والنضالي للحزب هو الذي صنع تاريخ هذه الأمة في هذا الجزء منها، وألقى بظلاله على مرحلة كاملة في كل الأرض العربية.

يقول عفلق*:”لو لم نكن نحن، ولو لم تكن حركتنا موجودة، لتهدد المجتمع العربي

بأن شوهه الالحاد، إذن بمقاومتنا الرجعية الدينية بدون اعتدال، وبدون مسايرة، وبمواقفنا الجريئة، ننقذ مجتمعانا العربي من تشويه الالحاد”.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* ميشيل عفلق: في سبيل البعث ص 215 ط20  دار الطليعة ـ بيروت 1987

وإذ خلفت نكبة فلسطين عام 1948 ردود أفعال عديدة في الوطن العربي على شكل ثورات وانقلابات، وحركات تحرير، تعمل أم تتحرك ، من خلال شعار الرد على الأوضاع التي سمحت بضياع هذا الإقليم العربي، في مصر وسوريا والأردن والعراق ولبنان، وكذلك في أقطار المغرب العربي، فإن مؤسس الحزب يربط بين هذه ” الظاهر الإيجابية” وبين وجود حزب البعث العربي الاشتراكي، ويجعل هذا الرابط ، طبيعة تبعية، حيث ضمن وجود هذا الحزب لهذا التيار أن يأخذ صفاته الإيجابية، وأن يحقق وجهه المشرق، ولم لم يكن الحزب موجودا لما أعطت هذه التغييرات والحركات آثارها الإيجابية، يقول عفلق*:”وما كانت كارثة فلسطين لتحدث كل هذا الأثر العمليق، ولتعطي كل هذه النتائج الإيجابية لو لم يسبقها قبل بضع سنوات في سوريا والأردن والعراق ولبنان، اتجاه عربي واضح الأهداف، قائم على أسس نظرية نضالية جديدة، غير وجه العرب العميق في هذه المرحلة من تاريخهم وتاريخ الإنسانية، وهو الاتجاه الذي مثلته حركة البعث”.

ولم يكن مؤسس الحزب يلقي بهذا الكلام جزافا دون سند من قناعة أو فكر، وإنما يأتي حديثه هذا كملاحظة عملية مؤسسة على نظرته وفلسفته للحزب، فالحزب عنده**:”قدر الأمة العربية” في هذا العصر، وهو***”صورة الأمة المثالية فوق أشخاصه وقادته”، والأرض العربية عطشى لهذا القدر الممثل بالحزب، لذلك هي تنتظر دخول الحزب إليها **** ” فثمة أقطار عربية تنتظر أن تدخلها فكرة البعث لتتفاعل مع نضاله وتغنيه”.

وإذا كان هذا هو شأن البعث كحزب، فإن البعثيين مصنوعون على نفس الهيئة، هم أداة هذا القدر، وحملته ***** ” مجسدي صورة الأمة المثالية، بهم تستعيد الأمة حيويتها، ورسالتها، إنهم ليسوا بأقل بطولة من (قتيبة وابن نصير)، وإذا كان عصر الرشيد والمأمون قد اتسع لإنتاج الفلسفات، والآداب، فسيكون كل واحد من أبطال اليوم في نظر الجيل الآتي موضوع ملحمة خالدة، وتكون تضحيته منشأ فلسفة جديدة.

إنهم يصنعون عهد بطولة وطفولة، ويخلقون جوا صادقا وصافيا حولهم، يحملون قدر

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* ساطع الحصري، الإقليمية جذورها وبذورها، ص 155 مركز دراسات الوحدة العربية، 1985، وأيضا عفلق: المرجع السابق ص 267.

** عفلق المرجع السابق ص40

*** عفلق المرجع السابق ص36

**** المرجع السابق ص53

***** المرجع السابق ص 116

الأمة ورسالتها، وينقلون العرب كل العرب إلى” الحياة البعثية”، وفي هذه الحياة البعثية فإن قيمة الأشخاص لا تكون *” إلا بمقدار ما يتمثلون هذه الفكرة، وبمقدار ما يكونون صورة قريبة منها، وتعبيرا صادقا ومنسجما معها، أي بمقدار ما يطيعونها، فالقادة الحقوقيون هم الذين يعرفون أن يطيعوا الفكرة، كما أن الأعضاء المخلصين هم الذين يطيعون الفكرة من خلال توجيه القيادة”.

هذه النظرة زرعها مؤسس الحزب في عقل وعقيدة الحزبيين، وربى عليها عواطفهم، فأصبح لديهم مقاييسهم الخاصة، ونحن نعتقد أن هذه النظرة وقفت خلف كثير من الانحرافات التي وقع بها الحزب، وهي تفسر جانبا من جوانب ممارسة الحزبيين حين تسلم الحزب السلطة في أكثر من إقليم عربي، وهي أيضا تساعدنا في فهم خيبة ألأمل المريرة التي تجسدت في كتابات الحزبيين الأوائل الذين تركوا الحزب وكتبوا عن تجربتهم معه.

بعيدا عن السلوب الأدبي والعاطفي الذي يسم كل أحاديث وكتابات المؤسس، فإن صميم فكره يعبر عن موقف مثالي، استعلائي قل نظيره*، وبقليل من التجاوز نستطيع القول إنه قد اختصر نهضة العرب المعاصرة بالبعث، واختصر البعث بالقيادة، وأوجب على الأعضاء حتى يكونوا مخلصين أن يطيعوا الفكرة التي تجسدها القيادة، أي أن يطيعوا القيادة.

من هذا الفهم كانوا يطالبون بأن توضع سوريا ـ إبان الوحدة ـ تحت حكم البعث، ووصل بهم الأمر إلى حد طلب تشكيل لجنة حكم سداسية** ” ثلاثة بعثيين ـ وثلاثة مصريين”، وحينما رفض هذا الطلب، وصار الخلاف بينهم وبين قيادة الوحدة، اعتبروا أمر الوحدة قد انتهى، واستقالوا جماعة، وطعنوا في شرعية النظام القائم، ثم ايدوا الانفصال، وبعد أن سقط الحكم الرجعي في سوريا، قاموا يريدون وحدة تحقق لهم السيطرة ذاتها التي طلبوها في عهد الوحدة الأول، ومشكلتهم مع عبد الناصر أنه باستمرار كانت متنبها لهذه العقلية، عقلية اختصار الوطن بالحزب، والحزب بالقيادة، وكان رافضا باستمرار لهذه العقلية، لذلك نلاحظ كثرة تكرار عبد الناصر لفكرة أنه إذا كانت الوحدة المطروحة مع البعث فإنه غير قابل بها، ولفكرة المطرقة والسندان التي يحاول بعثيو العراق وسوريا أن يضعوا عبد الناصر ومصر بينهما.

مشكلة هذه التربية، هذه العقلية، أنها غرست إذ غرست في جسم الحزب، فأصبحت عصية على الضبط، فالقيادة لم يكن لها من الاحترام والرصيد ما يؤهلها حزبيا من أن تلعب دورها على أي مستوى، وحين انفلت العقال، وسيطر الحزبيون، أو

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*  المرجع السابق ص36

** نجد ملامح مشتركة في هذ النظرة إلى الذات بين فكر عفلق، وفكر أنطوان سعادة مؤسس الحزب القومي السوري الاجتماعي.

العسكريون الحزبيون على السلطة، قاموا تجسيد هذه المفاهيم ذاتها.

ـ فما دام الحزب روح الأمة، والحزبيون حاملو رسالتها، فإن بقية القوى الأخرى لا لزوم لها، لأنها مخالفة لهذه الروح، ومعيقة لتحقيق الرسالة، وهكذا تمت تصفية القوى الأخرى في سوريا، كما في العراق، في عهد مدنيي الحزب، كما في عهد عسكرييه.

ـ وما دامت ” الحياة البعثية” أمل الأمة، فقد تم تشكيل” الحرس القومي” حتى يدخل الأمة في رحاب أملها.

ـ وحينما أبدت الجماهير عموما، والقوى الوطنية المنظمة رفضها لهذا المنطق، فقد ووجهت بأشكال من العنف لم يسبق لها مثيل في تاريخ هذا الوطن.

وهكذا نستطيع أن نتابع أثر هذه التربية على البعث في أكثر من مكان.

لقد كانت أولى مشاكل هذه التربية أنها انتصبت عائقا في وجه قيادة الحزب التاريخية، إذ ظهر جليا أن كل المباحثات، والأحداث، والمواقف، التي أوصلت إلى ميثاق الوحدة الثلاثية بين سوريا والعراق والجمهورية العربية المتحدة، كانت من الجانب السوري والعراقي أي من الجانب البعثي، بمثابة ذر الرماد على العيون، في محاولة لكسب الوقت، حتى تتمكن القوى الفاعلة في البعث من تمتين قبضتها على السلطة.

ميشيل عفلق، صلاح البيطار، والعديد من قيادات البعث الفكرية والسياسية، كانت في هذه المحادثات تجادل، وتحاور، وتعتقد أنها تصنع شيئا، والحقيقة أنها لم تكن أكثر من أداة، وأن مركز القرار لم يكن أبدا في يدها… وبعد ان خلعت هذه القيادة من سوريا، وتبرأت منها حركة 23 شباط / فبراير 1966، فإنها اعترفت ـ بشيء من الاستحياء ـ أن الأمر لم يكن بيدها، ثم جاء صلاح البيطار ليشير إلى تمكن الإقليمية في عدد من العسكريين، وليعزو ذلك إلى ضعف التثقيف السياسي عند العسكريين.

والحقيقة أوسع من ذلك وأشمل، إنها “طبيعة التربية حينما تتفاعل مع تاريخ الحزب ومع ثغراته، ومع منهجه”، فالإقليمية المتسربة إلى الحزب لم تكن ـ كما حاول أن يصورها البيطار ـ خاصة بالقطاع العسكري، أو بجزء منه، وإنما كانت موجودة بشكل واسع في القطاع المدني، وكانت ” قومية ” القيادة التاريخية للحزب تعبيرا عن موقف الأقلية دائما.

لقد تسرب الموقف القومي من جسم الحزب وعقله، كما تتسرب الماء من بين ذرات الرمل، ولم يعد من أثر له غير جزر ضعيفة ما لبثت أن نزعت نفسها من الحزب قبل أن تزحف عليها الإقليمية، وهذه الحقيقة ليست افتراضا أو تخيلا، وإنما هي تعبير دقيق عن حالة الحزب، ولتأكيدها نعود ونمحص بعضا مما عرضه علينا الأستاذ العيسمي في كتابه عن حزب البعث العربي الاشتراكي.

في تحديده لنتائج قرار إعادة بناء الحزب، فإن العيسمي يحدد ولادة ثلاث اتجاهات حزبية:

ـ القطريون: الذين رفضوا إعادة بناء الحزب وفق قرار المؤتمر القومي السادس، وأيدوا الانفصال دون الاشتراك في السلطة، ووقفوا ضد إعادة الوحدة مع مصر وعبد الناصر.

ـ جماعة أكرم الحوراني، ويتميزون عن الأول بأنهم ساهموا بقوة في حكم الانفصاليين وتصرفاتهم.

ـ وقطريون هم جماعة عبد الوهاب الشميطلي انشقت عن الحزب، ورفضت تجديد الوحدة تحت أي اعتبار.

ويخرج عن إطار هذه الاتجاهات الثلاثة، البعثيون الناصريون الذين طلقوا الحزب، وأدانوا قيادته، وعملوا تحت شعار إعادة الوحدة، وانتظموا في إطار “الوحدويين الاشتراكيين”، كذلك يخرج عن هذه الاتجاهات، اتجاه القيادة القومية لحزب البعث التي يقف على رأسها القادة التاريخيون.

إن تحديد العيسمي لهذه الاتجاهات، تحديد لا يجعلنا نرى الصورة بوضوح، لأن الاتجاهات الثلاثة في جوهرها لا تعدو أن تكون واحدة، اتجاه إقليمي، والفارق بينها ـ إن وجد فارق ـ هو فارق تكتيكي، أي طريقة ممارسة هذه القناعة.

كذلك فإن هذا التحديد لا يكشف الأوزان الحقيقية لهذه التيارات ضمن الحزب، أو في ساحة العمل الجماهيري، وأيضا لا يكشف هذا التحديد امتداد هذه التيارات خارج حدود الإقليم السوري.

وفي الحقيقة فإن هذا التصنيف شكلي، وغير مفيد، وإذا أردنا أن نرسم الصورة بوضوح فيجب علينا أن ننظر إلى الأمور من منظور آخر:

ـ كان هناك اتجاها ناصريا قوميا في سوريا والأردن وفي العراق، وفي أكثر من ساحة يتواجد عليها البعث، وهذا الاتجاه لم يرض أن يعمل من خلال إطارات الحزب مجددا، فأنشأ لنفسه إطاراته الخاصة، وعمل على تجميع حركة جماهيرية ناصرية كان لها الوزن الأرجح على ساحة العمل الجماهيري.

ـ وكان هناك اتجاه إقليمي، وقد ضم هذا الاتجاه غالبية الحزبيين في سوريا ولبنان والعراق، ولتغطية الطبيعة الإقليمية فيه رفع لواء اليسار، وتدثر خلف هذا اللواء بشعارات متعددة من: تعميق الصراع الطبقي، إلى حرب التحرير الشعبية، إلى الوحدة الطبقية والمدروسة، إلى الوقوف ضد سياسة مؤتمرات القمة، وكان في شعاراته هذه يلاحق خطوات عبد الناصر لكن في الاتجاه المقابل المناقض، وكان الهدف الرئيسي لهذه الشعارات إجهاض أي محاولة، أو ظرف يمكن من الاقتراب من الجمهورية العربية المتحدة وجمال عبد الناصر.

ـ وأخيرا كان هناك اتجاه القيادة التاريخية للحزب، وهو اتجاه مائع عام، لا يجد سندا حقيقيا في جسم الحزب إلا ما يتخلف عن طبيعة كل مرحلة وتكتيكاتها، وكان هذا الاتجاه يعمل جاهدا لاستعادة مكانته ضمن الحزب، من خلال نظرات تكتيكية مجزأة للقضايا الاستراتيجية الكبرى، وكان شبح عبد الناصر من جهة، والناصريين من جهة أخرى يخيم على رجالات هذا الاتجاه، ويظهر هذا الأمر واضحا من متابعة مواقفهم في محادثات الوحدة الثلاثية.

بشكل عام ـ وبعد استبعاد الاتجاه الناصري ـ فإن “القضية” لم تكن محور صراع داخل تيارات الحزب، ولو بدا الأمر كذلك ظاهريا وجزئيا، لقد كان الصراع على السلطة، ومركز القرار، هو المحرك الرئيسي، وقد غذى هذا الصراع افتقاد قيادة الحزب التاريخية لما يؤهلها ـ في نظر الحزبيين ـ للبقاء في مكانها.

لقد اقترب الحزب من السلطة، وأينعت فيه كل معالم التربية التي غرسها المؤسس في بنيانه، وبدأ الحزبيون يشعرون أن قيادتهم التاريخية صارت عقبة في طريقهم، وكان لابد من تخطيها، ولا يعود مهما هنا أن ننظر فيما إذا كان مدنيو الحزب هم الذين جسدوا هذه التربية أم العسكريون فيه، فإن أصحاب القرار ومركز القوة، هم دائما أداة تسيير وتحديد الاتجاه والمعالم.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى