بتأمل واقع السوريين في تركيا وتفاصيل حياتهم وأحوالهم المادية والنفسية والأخذ بالاعتبار خفايا المجتمع وأسراره، فإن قناعاتهم وأفكارهم تغيرت طبقاً لتقاليد المجتمعات المُضيّفة وهي نتيجة طبيعية لاندماج الأعراق والأديان والأجناس، فالمجتمع السوري الفارّ من جحيم حرب شنها نظام مجرم عليه قد خاض رحلةً شاقة في تركيا كونها أكثر من استضاف السوريين ومدّت لهم يد المساعدة، ولعلّ رحلة الاستقرار المالي تُعتبر الأصعب في ذهن الإنسان لأنها شريان حياته وأسرته.
ومع دخول السوريون عالم الميديا والتواصل الاجتماعي صارت السياسة وأخبار سورية وتداعيات ثورتهم- خاصةً جرائم النظام وميليشياته الطائفية المكملة لدور الإجرام الروسي- صارت محور تفكيرهم ومنبت قناعاتهم، فوقعوا بين مطرقة أفكارهم المُتقلّبة والحقائق الماثلة أمامهم ببلدهم من جهة، وسندان الغُربة بتعايشها واندماجها بمجتمعات جديدة من جهة أخرى، وبالنظر لوضعهم في تركيا نجد بأنّ غالبيتهم تعيش حالة جديدة من الوعي، دليلها حملات مختلفة ذات أشكال متعددة من انتصار لقضية أو تحريض على فكرة بناءة معينة، ولا أدل من أنّ السوريين انتبهوا لخذلان العالم لهم وبالأخص من كان يزعم أنه صديقاً بالأمس، فأخذوا بالابتعاد عن العواطف والأوهام وبدأت القناعات تتشكل لديهم من جديد رغم صعوبة المرحلة.
فالمجتمع السوري اللاجئ أخذ يقتنع بفكرة طول إقامته في بلد اللجوء بعد أنْ كان يرفضها ويترقب أي حل يُعيده إلى بلده، وبدأ يقتنع بضرورة العمل بشكل عام والتجاري المستقل بما في ذلك السمسرة والتنقل من عمل لآخر وصولاً للاستقرار على اعتبار إقامته في تركيا ستطول، فمن الصعب تخيل استمرار الفرد السوري بالعمل الشاق الذي يجني به دخلاً مُتواضعاً، فبدأ هذا الفرد يقتنع بأهمية التخطيط لحياته عموماً بعد أنْ كان تخطيطه مُقتصراً على لقمة العيش أو توفير المسكن والملبس، هكذا رأينا العديد من الشابات والشباب يتركون أعمالهم ويلتحقون- أو يدرسون مع عملهم- بالجامعات التركية طمعاً في مستقبلٍ أفضل، وبدأت العديد من المشاريع التنموية تظهر لاستغلال اليد العاملة لتحقيق مصلحة أكبر للسوريين؛ حتى النساء اللاجئات السوريات أدركنَ صعوبة الحال وبدأت الكثير منهنّ بتأسيس ورشات عمل تضمّ كوادر تعليمية ومهنية كفوءة.
وتُعدّ مسألة اللاجئين السوريين، من أبرز القضايا المثيرة للجدل في الشارع التركي على المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وغالباً ما تسعى الأحزاب المعارضة إلى تحقيق مكاسب سياسية وانتخابية من خلال التسويق لفكرة أن السوريين أثّروا سلباً على المؤشرات الاقتصادية التركية، لكسب أكبر شريحة من المجتمع، فضلاً عن العنصرية التي يتعرضون لها، وتجلت مؤخراً بشكلٍ أكبر وأوضح، إذ باتت مسيّسة إلى حدٍ كبير، وقد ألقت بظلالها على الانتخابات القادمة بعد أسبوعين، وتغيرت أبعادها بعد عدة تصريحات عنصرية تعكس خطابات لأحزاب سياسية معارضة؛ معاكسة لما يوجد من حقائق على أرض الواقع، لكنها تثير التوتر وتجعل التعامل مع هذه المسألة أكثر صعوبة.
وحول ذلك انتشر مشهدان على مواقع التواصل الاجتماعي في تركيا، أحدهما يتحدث عن هجرة آلاف السوريين من تركيا- والتي زادت إثر الزلزال المدمر في 6 شباط/ فبراير الفائت، هذا الزلزال الذي كان بدوره اختباراً للعلاقات بين اللاجئين السوريين والمضيفين الأتراك-، والآخر يُظهر الورش وأماكن العمل في عدد من المدن التركية وهي فارغة بعد رحيل العمال السوريين، وأشار أكثر من باحث موضوعي إضافة لتصريح معروف لوزير الداخلية التركي، إلى أن خروج السوريين من فئة العمل الاقتصادي من تركيا ’’قد يشكل مشكلةً لأصحاب العمل الأتراك بسبب الغياب المفاجئ لقوة عاملة رخيصة ومن دون بديل جاهز‘‘، كما أدت عودة اللاجئين السوريين لبلدهم أو هجرتهم، إلى نقص القوى العاملة في عديد القطاعات في تركيا، لا سيما قطاع النسيج، وبحسب صحيفة ’’تركيا غازيتسي‘‘، فقد قال أرباب العمل ’’إن العمال الأتراك لا يقبلون رواتب العمال السوريين‘‘ وأشارت إلى ’’أن قطاع الغزل والنسيج يشهد نقصاً بنسبة 60% من العمالة، فيما يعاني قطاع الجلود نقصاً قدره 10 آلاف عامل، وانخفض الإنتاج في بعض المصانع إلى 30%‘‘؛ فضلاً عن الفيديوهات الكثيرة التي انتشرت وتُظهر ورشاً خاليةً من عمّالها.
وذهب أحد الباحثين الأتراك المتخصص بشؤون السوريين في تركيا للقول ’’من الطبيعي في ظل الظروف الحالية أن يفكر الشباب السوري في السفر إلى خارج تركيا، حيث يعمل معظمهم من دون تأمين صحي واجتماعي، إذ أشارت دراسة نشرتها “منظمة العمل الدولية” في 2020، إلى أن 97% من السوريين في تركيا يعملون بشكل غير شرعي من دون تصريح عمل، كما أنهم يواجهون الحملات العنصرية التي انتشرت ضدهم، بالإضافة للتصريحات حول تطبيع العلاقات مع النظام، والتي خلقت خوفاً وقلقاً لدى الكثير من السوريين مما دفعهم للبحث عن مكان بديل غير تركيا..، ونظراً لعدم وجود أعداد وإحصائيات رسمية للمغادرين بطرق غير شرعية، فإن قطاعات كثيرةً تأثرت بذهابهم، مثل النسيج والألبسة والجلديات، وقطاعات أخرى مثل قطاع الإنشاءات، لأن الكثير من قطاعات العمل سيطر عليها السوريون لانخفاض أجورهم، كما أن تركيا ستعاني خلال الفترة القادمة من نقص كبير في الأيدي العاملة وسينعكس ذلك على كميات الإنتاج وزيادة أسعار المنتجات، وقد تُغلق الكثير من أماكن العمل التي تعتمد على العمالة السورية‘‘.
وتُعدّ تركيا من البلدان الرئيسة التي تعتمد بشكل رئيس على العمالة المحلية، بالإضافة إلى وجود عمالة خارجية يمكن وصفها بالثانوية، لكن قدوم اللاجئين السوريين إلى تركيا غيّر واقع العمالة الأجنبية في البلاد، وأوضحَ أحد المستثمرين السوريين في تركيا بأن ’’اللاجئين السوريين أثروا على الدورة الاقتصادية التركية، وذلك تبعاً لأسباب عدة، من أهمها: قطاعات العمل، وتكلفة العمالة، ويَظهر ذلك من خلال القطاعات التي تركز عمل اللاجئين فيها، ووفقاً للدراسات الأكاديمية والإحصائيات الرسمية فإن جزءاً كبيراً منهم يتركز في قطاعات التصنيع كالأقمشة والأحذية والزراعة والأعمال الحرة، وغيرها من القطاعات الإنتاجية، وهذه القطاعات ذات أثر واضح على القيمة المضافة، والتي بدورها تُعدّ رافعةً رئيسةً لمختلف المؤشرات الاقتصادية‘‘؛ وقد تعرضت العمالة السورية- خاصة الشباب- لحالة من الاستغلال سواءٌ من أرباب العمل السوريين أو الأتراك.
إن فهم الحياة المادية شيء رئيسي ومتابعة الحالة النفسية للاجئين السوريين أمر ضروري، لكن أيضاً يجب الوقوف على القناعات التي تُشكل أساس ما جرى ومؤداه، وفهم طبيعة التغيرات الفكرية التي عاشها ويعيشها المجتمع السوري عموماً والفرد السوري خصوصاً، باعتبار أنّ ضبط هذه التغيرات أو التحكم فيها سيؤدي تلقائياً إلى التغيير المالي والنفسي وما يليه استناداً إلى فلسفة أن الأفكار تصنع الأموال، وهي تُلخص جذور المشكلة التي عانى منها اللاجئون السوريون وأخذوا بتجاوزها تدريجياً.. ويستعدون لمشوارٍ جديد في بلادهم ما إن تهدأ عاصفة الحرب عليهم والقتل والتدمير.
المصدر: إشراق