لــمــاذا لـــم يــعــد الــســــوريـــون يـــحـــتـــفـــلـــون بــعــيــد الــجـــلاء ..؟

محمد خليفة 

 هذا العام مر السابع عشر من نيسان / ابريل في حياة السوريين كأي يوم آخر مليئا بالأوجاع والدموع والمرارة . لم يتذكر أحدهم أنه يختص بمناسبة مهمة هي عيد الجلاء , أو يوم الاستقلال الوطني , ذلك اليوم الذي حفظته الذاكرة الجمعية للسوريين الآباء أمثالنا , أو الأجداد الذين عاصروا الاستقلال في عام 1945 أو شاركوا في انجازه بالنضال ضد الاستعمار الفرنسي . .

بمقدور الباحث الاجتماعي اتهام جيل الابناء الحالي ( دون سن الثلاثين) بأنه جيل “عاق” جحد العيد الوطني الأسمى, وتنكر له , كأنه يسقطه من ذاكرته .

ولكن من المهم ملاحظة أن هذا الجيل العاق هو نفسه الذي تمرد على نظام الاسد “الأبوي” مما يمكن الباحث نفسه أن يضيف للعقوق الوطني تهمة الجنوح الى السلوك (الأوديبي) كحالة تمثل أعلى درجات العقوق ! إلا أن الموضوعية تحتم القول إن المناسبة المغدورة بحاجة لاعادة نظر وبحث في تعريفها وهويتها في ضوء الواقع الذي كان قائما قبل ثورة 2011 , ثم تحري الحقيقة الجنائية والادبية فيمن ارتكب جناية اغتيالها واسقاطها من الذاكرة التاريخية الوطنية , وأهال عليها ركام الازدراء والصدأ .

مناسبة الجلاء لم تسقط من وعي السوريين مرة واحدة , بل اهترأت تدريجيا على مدى نصف قرن . فكثرة الانقلابات العسكرية التي اعقبت جلاء القوات الفرنسية عام 1945 ايقظت الناس من حلم الاستقلال على كابوس مزعج هو أن هذا الاستقلال المزعوم لا وجود له في حياتهم ,سيما وأن كل واحد من الانقلابات مولته دولة كبرى أو مجاورة , وكل واحد من جنرالاتها مرتبط بدولة . وينسحب هذا الحكم على أكثر الزعماء المدنيين . ومن يقرأ مذكرات زعماء تلك الحقبة ووثائقها سيرى بوضوح أن الحياة السياسية في سوريا بين 1945 – 1963 لم تكن مشرقة وناصعة كما يصورها في السنوات الأخيرة كتاب رومانسيون تشدهم نوستالجيا مثالية الى حقبة رسمت العاطفة معالمها كرد فعل على الاستبداد المطلق للبعث , لأن المؤرخين يعلمون أن تلك الحقبة الجميلة عانت من أزمات بنيوية أهمها النفوذ الاجنبي المباشر , وأن أكثرية القوى السياسية كانت تتلاعب بها أصابع قناصل , وجواسيس الدول الغربية والشرقية ,والانظمة العربية الرئيسية , وشركات النفط التي تملك خطوطه في سوريا .

الحياة السياسية في تلك الحقبة كانت صراعاً بين أضداد وظلت لعقدين تتمحور بين وطنية هلامية ناشئة ومؤثرات أجنبية متضاربة, في جانب أول ,وفي جانب آخر بين (دولة) غضة العود تبني مؤسساتها وتبلورهويتها في مواجهة نزعات جهوية وطائفية دون الوطنية تسعى لفرض نفسها على حساب (الدولة) الضعيفة .

وظل الصراع سجالا , فتارة تتغلب النزعة الوطنية , وتارة تنهزم بنزعات دون الوطنية ومؤامرات اجنبية , وفي تارة أخرى تجنح الوطنية السورية الى الاعلى فتتبنى القومية العربية الاندماجية الى حد التضحية بالاستقلال الوطني, وتارة تهوي للاسفل فتتبنى ولاءات أدنى من الوطنية .

 تقييم التجربة ينتهي الى أن استقلال الدولة السورية كان مشروعا وفكرة قابلة لكل الاحتمالات والمؤثرات .

انقلاب 1963 وسرقة البعث للحكم واستيلائه على الدولة مثل ضربة قاصمة لمشروع بناء الدولة وطعنة قاتلة للتجربة الليبرالية الواعدة , بل وكان ضربة لمفهوم الوطنية السورية المعتدلة لصالح نزعات متماوجة يمينا ويسارا, عروبة مرة وطائفية مرة, استقرت أخيرا على طائفية قروسطية مرتكزة على عصبية عشائرية عائلية ضيقة رجعية ألغت الهوية القومية العربية, والهوية الاسلامية , فضلا عن الهوية الوطنية بمعناها الاصيل أي الانتماء الحر والواعي لوطن حر ومستقل, والولاء لدولة قوية تحمي استقلال البلاد وترعى حقوق مواطنيها . ولذلك لم يكن بلا معنى أن يهدر نظام البعث قيمة عيد الجلاء , ومنح المكانة الأولى في احتفالات الدولة للسابع من نيسان , أي عيد تأسيس حزب البعث الذي (يقود الدولة والمجتمع بنص دستورعام 1972 ). ومن يومها اصبح السابع من نيسان هو المناسبة الوطنية الأولى في روزنامة البعثيين الذين يحكمون ويملكون البلاد والدولة ويتحكمون بمصير الرعايا المقهورين .

 ثم اصبحت المناسبة الثانية الأهم في الروزنامة انقلاب 8 آذار 1963 . ثم حركة 22 شباط 1966 المرتبة الثالثة .

وبعد انقلاب حافظ الاسد في 16 تشرين الثاني الذي دعي حركة تصحيحية لكيلا يقطع نسبه الى حركة 1963 وحزب البعث شكليا دخلت سوريا عهدا غير مسبوق أبرز سماته عبادة الفرد , إذ أحيطت الحركة بهالة تفوق ما عداها من مناسبات وطنية أو قومية حتى اكتست قداسة لا تنافسها قداسة أخرى في التاريخ البعثي البديل للتاريخ الوطني , واكتسب الاسد شخصيا مزايا استثنائية فأصبح ملاكا مخلصا ( حسب رواية كوليت خوري أيام مع الايام ) , وكرست السلطة المطلقة للأسد ثم لاسرته الطابع الطائفي ما دون الوطني على حساب الهوية الوطنية , فسوريا هي سوريا الاسد , ولا سوريا بدون الاسد , وهو حبيب الشعب للابد . وككل الانظمة القائمة على عبادة الفرد أصبح تاريخ الوطن يبدأ بحكم القائد , وأصبح التعليم يركز على اعداد أجيال تتقن عبادة القائد وتدريب عبر منظمات الطلائع والشبية والحزب على ممارسة هذه العبادة , ويتوقف على اندماج الفرد في القطيع رمق حياته وحصوله على رزقه .

بهذه الطرق التي حاكت تجارب كيم ايل سونغ وستالين وماو تسي تونغ وكمال أتاتورك ..إلخ فرض الاسد ظله على سوريا ومسح كل ما يتعارض معه في الذاكرة , وخاصة عيد الاستقلال أو الجلاء الذي أصبح بمعانيه الوطنية نقيضا للقيم التي خلقها عهد الاسد , لا سيما وأنه خلق (احتلالا) لسوريا من نوع آخر , جعل الناس بسبب تفاقم القمع الى درجات وحشية يترحمون على ايام الاحتلال الفرنسي الاجنبي .

هكذا اهترأ عيد الجلاء خلال نصف قرن من حكم البعث والاسد, حتى إذا ظهر الجيل الثالث بعد الاستقلال لم يجد شيئا مما يدعى استقلالا, بل وجد استعمارا داخليا أقسى من الاستعمارالصهيوني يقوض مستقبله ووجوده, فثار عليه كما ثار أجداده على الاستعمار الخارجي , وطالب بالحرية الحقيقية وتحقيق الاستقلال الحقيقي , ورافضا الاحتفال بمناسبات تفتقر للمضمون , وتكتسي طابع النفاق والزيف .

هذا الجيل الذي يسعى للحرية في سوريا عانى من قهر يفوق ما عاناه اجداده في الثلاثينات والاربعينات حين كان الجندي الفرنسي لا يجرؤ على إزهاق روح طالب يتظاهر , أو تعذيب معتقل حتى ولو كان حاملا للسلاح , وكان يحترم قرارات القضاء والبرلمان , وينصاع لارادة السوريين إذا أصروا على الوحدة والاستقلال , بينما مارس عهد الاسد واجهزته الفاسدة الطغيان والسرقة واحتكر الحكم وصادر الحريات كافة .

هذا الجيل ثار عام 2011 وضحى حتى الآن بنصف مليون شهيد وربع مليون معتقل في سبيل التحرر من الاستعمار الداخلي , وهدم جدران المعتقل الذي بناه الاسد , وفتح نوافذ البلد لرياح الحرية الطبيعية , وتأسيس هوية وطنية حديثة وذاكرة بلا تشوهات وضلالات, وبذلك يبدأ تاريخ سوري جديد وانتماء لوطن يرتبط مواطنوه بأرضه وبدولته وبنظامه بشكل طوعي ورضائي وعاطفي , وطن يحتفي بأهله كما يحتفل اهله به .

*********************************************

هذا المقال منشور في العدد 272 من مجلة الشراع اللبنانية الصادر ببيروت في 24 / 4 / 2015

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى