لا تصدّقوهم

حسن النيفي

في مسعاها الهادف نحو ردم الشرخ المزمن مع إيران تحرص المملكة العربية السعودية على أن يكون مسار ( تصفير) المشاكل مع الخصم التقليدي متزامناً مع (تصفير مماثل) مع أذرعه أيضاً، ربما ليقين الرياض بأن تلك الأذرع هي أدوات تنفيذية عضوية في الاستراتيجية السياسية الإيرانية وليست ذات أدوار وظيفية يمكن لطهران الاستغناء عنها أو استبدالها، ولا تبدو إيران أقل حرصاً كذلك على أن تكون تلك الأذرع ذات حضور وفعّالية في أية عملية تفاوضية مع خصومها في المنطقة. ربما في هذا السياق تندرج زيارة فيصل المقداد وزير خارجية الأسد إلى جدّة يوم الثاني عشر من الشهر الجاري بدعوة من الخارجية السعودية، وكذلك لقاء نائب وزير الخارجية السعودي مع القيادة الحوثية في اليمن، مزامنة مع لقاء سعودي إيراني في الرياض لبحث استكمال إجراء عودة افتتاح السفارات بين البلدين.

لعلنا لسنا بحاجة إلى المزيد من التأكيد على أن الاستراتيجية الأمريكية حيال إيران والقائمة على مبدأ ( المهادنة والاحتواء) كانت الدافع الأقوى إلى الاستدارة السعودية الجامحة تجاه الصين وإيران، بل ربما كان الخذلان السعودي من الإدارات الأمريكية الثلاث الأخيرة المتعاقبة على البيت الأبيض كافياً لإجبار حكومة الرياض بالانعطاف إلى محاورة الخصوم والتفاوض معهم وفق معايير وموازين قوى غير متكافئة، فبالنظر إلى ما يريده كل طرف نجد أن ما تريده السعودية من إيران هو الأمن، والأمن أولاً وأخيراً، بينما لا تمنح إيران تقيّة شرّها دون أن تفرض شروطها السياسية المتمثلة بإعادة دمج نظام الأسد في محيطه العربي وكذلك شرعنة الوجود الحوثي في اليمن، أضف إلى ذلك أن إيران ما تزال تحتفظ بكل أوراقها المتمثلة بأذرعها السورية واللبنانية واليمنية والعراقية، بينما لم تستطع الرياض الاحتفاظ بأيٍّ من أوراقها، على الأقل في الساحة السورية، إذ من المفيد التذكير بأن (جيش الإسلام ) الذي كان القوة الضاربة في الريف الدمشقي والذي كانت تغذيه وتموله السعودية، استطاع الروس تدميره في العام 2018 ، ومن ثم ترويض قادته عبر التنسيق مع تركيا في مسار أستانا، وكذلك هيئة التفاوض التي كانت تتخذ من الرياض مقرّاً لها، فقد أصبحت مسلوبة الفاعلية بعد تشكيل اللجنة الدستورية التي باتت هي الطرف المفاوض مع نظام الأسد، فضلاً عن أنها باتت تخضع خضوعاً مباشراً للحكومة التركية، ولكن على الرغم من هذا كله، فما تزال الرياض حريصةً على أن تقرن خطوتها التطبيعية مع الأسد بالحديث عن حل سياسي للمسألة السورية، وذلك من خلال التصريحات التي تصدر عن الخارجية السعودية، الأمر الذي يدفع الكثير من السوريين للتساؤل: ما الذي تمتلكه الرياض من مفاتيح الحل في سورية؟ هل لديها تصور تم إنضاجه بناءً على تفاهمات إقليمية أو دولية وقد حان طرحه الآن؟ وما الذي يدعو الرياض للتواصل مع المبعوث الدولي ( غير بيدرسون ) تزامناً مع دعوة فيصل المقداد لزيارة رسمية إلى جدّة؟ ربما يجد المرء جانباً من الإجابة على التساؤلات السابقة فيما صدر عن الخارجية السعودية من تصريحات تؤكّد على ضرورة إيجاد حل للأزمة السورية مع ذكر بعض التفاصيل، كالإشارة إلى الحفاظ على سيادة الدولة السورية وسلامة أراضيها، وكذلك إلى ضرورة العودة الآمنة لللاجئين السوريين، ما يعني أن الرياض تريد إبلاغ الجميع أن عودتها نحو نظام دمشق لن تكون عودةً مجانية أي بمعزل عما يجري في سورية منذ اثنتي عشرة سنة، إلّا أن هذا الهمّ السوري الذي تحمله السعودية على عاتقها بات مختلفاً عما عبر عنه سفيرها لدى الأمم المتحدة السيد عبد الله المعلمي الذي كان أكثر دقّة وحزماً في توصيفاته لنظام دمشق، إذ طالما شهدت الأروقة الدولية، ورواق الأمم المتحدة على وجه الخصوص مناكفات حادة بينه وبين مندوب الأسد إبراهيم الجعفري الذي جفل أكثر من مرة ، حتى بات يخرج عن طوره نتيجة امتعاضه الشديد من مداخلات نظيره السعودي حين يتحدث عن جرائم الأسد كقصف المواطنين السوريين بالطيران وقتلهم بالسلاح الكيمياوي واعتقال عشرات الآلاف منهم في السجون، وبالمجمل فإن الموقف السعودي المُعلن طيلة السنوات السابقة كان متماهياً مع الموقف الأممي فضلاً عن تماهيه مع موقف معظم السوريين المطالبين بالتغيير، عبر تطبيق القرارات الأممية ذات الصلة بالقضية السورية وفي مقدمتها ما ينص على جوهر العملية السياسية المتمثل بإنشاء هيئة حكم إنتقالي، إلّا أن ما يصدر عن الرياض اليوم بخصوص الحل السياسي بات مختلفاً عمّا ذي قبل، ذلك أن وحدة الأراضي السورية و عودة اللاجئين وحتى الإفراج عن عدد من المعتقلين، فهذه الأمور هي من تداعيات حرب النظام على السوريين ولم تكن من الأسباب الدافعة لانتفاضة السوريين، فالذي أتاح المجال للتدخل الدولي الذي جعل من الأرض السورية مناطق نفوذ منفصلة عن بعضها هو نظام الأسد وليس المواطنين السوريين، والسوريون الذين هُجّروا وشُرّدوا من بيوتهم سواء داخل البلاد في المخيمات أو في بلدان اللجوء إنما دفعهم إلى ما هم عليه هو الخوف من الموت الذي تحمله طائرات النظام وبراميله وغازاته السامة ولم يخرجوا من ديارهم نتيجة خيارات أخرى، وكذلك عشرات آلاف المعتقلين والمعتقلات، عدا عمّن تمت تصفيتهم في مجازر موثقة لدى أكثر من جهة دولية، إنما اعتقلوا أو قُتلوا بفعل النظام ولا أحد سواه، فهذه الجرائم وسواها إنما ارتكبها النظام بحق السوريين لأنهم طالبوا بالحرية والتغيير، ولا يمكن التعاطي مع تلك الجرائم إلّا عبر القضاء العادل، لمساءلة الفاعلين، وتأسيساً على ذلك فإن العودة إلى المجرم كطرف مفاوض هو انتشال له من قفص الاتهام وتمويه على الجريمة، بل هو مكافأة للمجرم على إجرامه، وما يمكن قوله على الموقف السعودي في هذا السياق يمكن أن يقال مثله عن جميع الأطراف العربية التي تتدافع لإعادة احتضان الأسد، وهي في هذا التدافع لا تسيء إلى السوريين من خلال اصطفافها إلى جانب من أجرم بحقهم فحسب، واعتبار من كان أصلاً في المشكلة طرفاً في الحل، بل تسيء إلى مجمل قيم العدالة والكرامة وحقوق الإنسان.

كان يمكن للملكة العربية السعودية أن تفصح بوضوح عن رغبتها النابعة من مصالحها بإعادة احتضان الأسد، دون الإساءة إلى عدالة القضية السورية وكذلك دون الإساءة إلى تضحيات السوريين، ولا أحد يستطيع منعها من ذلك، وكذلك كان يمكنها أن تعلن ندمها أمام الأسد عن انحيازها إلى جانب معارضيه وتتبرأ من أي جهة مناهضة لحاكم دمشق، أمّا أن تصبح المعاناة المريرة للسوريين وتضحياتهم الهائلة على مذبح الحرية أقنعةً لمصالح الأنظمة التي يجمعها عداؤها المزمن لمصالح شعوبها، فتلك جريمة أخرى بحق السوريين، وفي هذه الحال ربما يصبح مضمون عبارة ( لا تصدّقوهم ) التي أطلقها في يوم ما ممثل السعودية في مجلس الأمن لا تعني خصمه آنذاك فحسب، بل ربما تعني الجميع.

المصدر: تلفزيون سوريا

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى