قبل 20 سنة بالضبط ، وقعت كارثة سقوط بغداد فى 9 أبريل 2003 ، وانتشرت المشاهد “الهوليوودية” المصنوعة لإسقاط تمثال “صدام حسين” فى ساحة “الفردوس” ، بعدها اختفى “صدام” نفسه عن الأنظار ، وتوالت الحوادث العاصفة على مدى قارب الأربع سنوات ، وإلى أن كان الحدث الجلل فجر يوم 30 ديسمبر 2006 ، الموافق وقتها لأول أيام عيد الأضحى والفداء ، فقد قرر المحتلون وأشياعهم وقتها إعدام الزعيم العراقى ، الذى أبدى صمودا وثباتا مذهلا تحت حبل المشنقة ، وهو ينطق الشهادتين مبتسما مستبشرا ، ويهتف بحياة العراق وفلسطين والأمة العربية .
والذى يعرف “صدام” ، وقد رأيته لمرة واحدة عن قرب ، ولثوان معدودة فى زيارة يتيمة لبغداد عام 1994 ، وحين تابعت كغيرى مشهد إعدامه بعدها بسنوات ، لم استغرب أبدا ثباته الأسطورى ، فقد كان الرجل كأنه قد من حجر ، تهيبت وقتها من مصافحته ، أو لعلنى لم أرد المشاركة فى زحام يتسابق إلى تحيته ، أو حتى إلى لمس ردائه العسكرى ، فقد كنت مسكونا بقراءات وروايات مفزعة عن قسوته ، وعدم تردده حتى فى إعدام أقرب رفاقه ، إن أحس منهم خيانة أو شك فيها ، لكن متابعتى اللاحقة لمجريات محاكمته مع رفاقه ، ربما تكون أضاءت جوانب خافية ، قلم يخنه أبدا واحد من رفاقه الذاهبين للإعدام ، ولم تخذل أسرته قبلهم شجاعته ، فقد اختار إبناه وحفيده الموت بالرصاص فى معركة مع الغزاة ، ولم يرتكب الدنية أحدهم ، ولا آثر النجاة ، وحتى إبنته “رغد” التى تعيش خارج العراق إلى اليوم ، ظلت شامخة مرفوعة الرأس كأبيها ، ولم تنجرف لحظة إلى مشاعر تحرفها عن الوفاء لذكرى الأب ، الذى لم يتردد فى إعدام زوجها وصهره “حسين كامل” حين خان وباع .
وليست القصة فى مثال “صدام حسين” النادر ، ولا فى ديكتاتوريته المشهودة ، وإن كانت هذه الديكتاتورية من لزوم ما يلزم لتأكيد عراقيته ، فالعراق بلد صعب المراس ، وتاريخه موسوم بالدم من أول تكوينه الأحدث قبل قرن من الزمان ، فلم يمت حاكم فعلى للعراق على فراشه ، لا فى زمن الحكم الملكى الوافد مع الاحتلال البريطانى ، ولا فى زمن الحكم الجمهورى بعد ثورة 1958 ، وقد هرب “صدام” من العراق بمعونة المخابرات المصرية بعدها ، وكان محكوماً بالإعدام ، ومتهما وقتها بالمشاركة فى تدبير خطة لقتل “عبد الكريم قاسم” أول حاكم جمهورى ، وقد انتهت حياته سحلا ، ووقعت مذابح دامية بين الشيوعيين والبعثيين والناصريين ، وذهب الرئيس “عبد السلام عارف” ، ثم شقيقه الرئيس “عبد الرحمن” ، ضحايا للمقتلة وتوالياتها ، وإلى أن صار “صدام” رئيسا فعليا للعراق ، ومن وراء ستار “أحمد حسن البكر” بعد “انقلاب البعث” أواسط 1968 ، ثم أصبح رئيسا رسمياً منفرداً من عام 1979 حتى وقع الغزو الأمريكى ، وعبرنحو ربع قرن ، كان العراق خلالها فى حالة حرب مستديمة ، مع إيران “الخمينية” ، ثم تحت حصار طال إلى 13 سنة بعد غزو الكويت ، وفى زمنى السلم والحرب ، ظل العراق مثالا مزدهرا لتنمية هائلة ، ساعدته عليها موارد بترولية ومائية منظورة ، أضيفت إليها استقلالية قرار ، ذهب إلى إندفاع ورعونة ، كانت بعضا من سيرة “صدام” ، الذى لم يسرق العراق ، ولا خان علمه ، وإن أنهك خصومه الداخليين على نحو دموى ، ساق إليه التكوين العراقى المشحون بثارات تاريخية وطائفية قاتلة الطباع ، جعلت اجتماع طوائفه وأعراقه أشبه ما يكون بلقاء خناجر مسمومة ، حبسها “صدام” فى غمدها طويلا ، وحفظ للعراق استقرارا ، استمر على مدى يقارب نصف عمر البلد السياسى ، ثم بدا أن ذهاب “صدام” ، قد ذهب أو كاد بالعراق الحديث الذى نعرفه ، فقد تحطم البلد بالغزو الأمريكى ، ثم باستيلاء إيران على مراكز القوة والنفوذ فيه ، وحل جهاز الدولة والجيش العراقى الوطنى ، و”فدرلة” العراق التى أدت لتفكيكه ، وتحويل البلد إلى مقتلة بالجملة ، وإلى مرعى لفساد طافح ، لم يشهد العراق له مثيلا ، لا فى الزمن الملكى ، ولا فى العهد الجمهورى ، والأهم ، أن معنى الوطن أو الوطنية فى العراق ، ذهب بلا عودة حتى تاريخه ، وتوالت أسماء الأشخاص والأحزاب والرؤساء ورؤساء الوزارات بلا معنى جدى ملموس ، فقد كان “صدام” على ما يبدو ، آخر رئيس أو حاكم فعلى لبلد كبير كان اسمه العراق ، بينما الذين خلفوه ، من بعد الحاكم الأمريكى المؤسس “بول بريمر” ، وحتى أحدثهم ، مما لا ينطبق عليهم وصف الحكام الفعليين ، بل هم أقرب لأشباح كوارث أو بقايا صور ، يستنزفون عشرات مليارات الدولارات إلى جيوبهم ، بينما يذهب العراقيون بغالبهم إلى دوامات الفقر والخوف والموت والدمار ، ودونما أمل قريب فى استعادة العراق لوحدته وعزته الغاربة .
وإذا كان الشئ بالشئ يذكر ، فإن ديكتاتورية ودموية “صدام” المسلم بها ، تبدو كما لو كانت “لعبة أطفال” ، قياسا إلى ما جرى بعد الرجل ، فقد كان العراق مستقلا وموحدا فى زمن “صدام” ، فيما يصعب على أى منصف ، أن يرى ظلا لوحدة أو استقلال فى صورة العراق اليوم ، ثم أن صدام كانت له ممارساته القمعية والدموية غير المنكورة مع معارضيه وخصومه ، وذهب آلاف من العراقيين ضحايا فى عهده ، فيما العراق بعد “صدام” ، دخل طاحونة الدم ومفارم اللحم البشرى ، التى راح ضحيتها ملايين العراقيين ، إما بجرائم القصف والقتل الأمريكى ، أو باغتيالات الجماعات الطائفية ، أو بمذابح داعش “السنية” ، وسواها من الدواعش “الشيعية” ، فوق ملايين العراقيين الذين تركوا العراق هربا من المذابح ، وكان “صدام” يحكم العراق بحزب واحد ينسب نفسه للقومية العربية ، وبنخبة عسكرية ومدنية مختارة ، فيما لم يبق للعراق من بعده نخبة حكم أو إدارة يعتد بها ، بل مجرد أحزاب تتشكل وتنحل وتتلون أسماؤها ودعاواها بحسب الظروف ، ولا يبقى ثابتا فيها ، سوى كونها أوعية جاهزة لتعبئة طائفية أو عرقية أو بدوية بدائية ، يندر أن تجد فيها كيانا عراقى المعنى ، أو يتبنى دعوة وطنية عراقية ، تؤمن بوحدة العراق الترابية والسكانية ، وكأنها تراضت فيما بينها ، أو بحسب دواعى النهب العام ، أن يكون لكل “عراقه” وولايته الخاصة ، وكلهم يتحدث عن نصرته لعراق فى خياله ، وعن حرب على الفساد ، بينما الكل يمزق ويسرق ، ويدعى وصلا بالنزاهة والطهارة والوطنية أو بالديمقراطية ، التى صارت مسخا ، يتعذر أن ترى فيه وجودا لأغلبية أو أقلية ، وإلى الحد الذى كان فيه مطلب “مقتدى الصدر” بإقامة حكومة أغلبية وطنية ، وكأنه خروج عن النص المقدس المدنس ، ذهب بالرجل وتياره إلى غيبة واعتزال ، فالأصل عند من بيدهم الأمر ، هو أن يحكم الكل معا ، وأن يتشاركوا فى قسمة خير العراق دون شعبه ، وأن يحولوا العراق إلى “شركة مساهمة” ، توزع فيها المناصب والغنائم بأسماء الطوائف والأعراق ، ويبنى الجيش من ميليشيا ، بينما يعترف للميليشيات عمليا بجيوشها ، ولا تبقى من مؤسسات وثوابت مرعية ، إلا أن يكون كل طرف منسوبا إلى حماته وصناعه ، فهذا “أمريكى” الهوى ، أو “إيرانى” الولاء ، أو متسللا من أطراف أخرى ، تحاول أخذ قطعة نفوذ أو موطأ قدم ، وما من حاجة طبعا ، لأن نذكر مقارنات فى التنمية والتعليم ، فقد كان العراق بلدا شبه خال من الأمية فى عهد صدام ، وكانت نسبة الأمية الأبجدية لا تجاوز العشرة بالمئة من السكان ، وكان اقتصاد العراق وخدماته على عهد صدام قبل الحصار يقارن بأسبانيا ، وباعتراف “بول بريمر” نفسه ، بينما العراق اليوم ، لا يذكر إلا فى جداول الدول الأكثربؤسا وفسادا باتساع المعمورة .
لا نذكر ما نتذكر من باب البكاء على اللبن المسكوب ، فما مضى لا يعود كما كان ، لكن ما يبقى من دروس صالحة للعظة كثيرة ، فليست العبرة بما يساق من شعارات للتضليل ، فطلب الديمقراطية ـ مثلا ـ عزيز ومرغوب ، لكن ما ثبت يقينا ، أنه لا حرية لبشر من دون حرية أوطانهم ، وأن الديمقراطية لا تبنى فى فراغ ، بل فى إطار وطن مستقل وقرار مستقل ، تفقد الديمقراطيات بدونه أى معنى نافع ، وهو عين ما جرى للعراق ، الذى يتمزق ويغيب تحت شعار الديمقراطية والحكم التوافقى (!) ، ثم أنه لا يصح أن نغفل على مبعدة العشرين سنة ، أن العراق كبلد فقد حريته لأسباب كثيرة ، أظهرها تواطؤ كثير من الحكام العرب وخدمتهم وتمويلهم لمجهود أمريكا الحربى فى احتلال العراق وإطاحة حكمه ودولته.
المصدر:المشهد