الثورة التي أكلها أدعياؤها

يونس العيسى

كغيرها من ثورات الربيع العربي تمثل الثورة السورية الشعبية السلمية التي انطلقت في مطلع آذار/مارس 2011 محطة تحول تاريخية مهمة في تاريخ الشعب السوري وكفاحه المضني في تحقيق تطلعاته بإسقاط نظام مستبد وبلوغ دولته المدنية، وحقه في العيش الآمن الكريم تحت مظلة دولة جامعة، تتكافأ فيها الفرص للجميع دون تفاضل عشائري أو مناطقي أو جهوي ودون احتكار للثروة والسلطة لحزب سياسي أو عائلة بعينها.

قول الثورة تأكل رجالها، حُصرت ممارسته في الثورة الفرنسية، ونسبت تلك العبارة إلى الثائر جورج دانتون الذي أعدمته الثورة عام 1794 بتهمة إعادة الملكية، قبل صعوده إلى المقصلة ليُنفذ فيه حكم الإعدام، وهو يقول لصديقه روبسيير الذي أعدمه: ” سيحين الدور عليك” وقد تم بالفعل إعدامه بعد شهور تأكيدا لقول دانتون، والذي تأكد في ثورات كثيرة بعد الثورة الفرنسية.

الذكرى الثانية عشرة

وفي الذكرى الثانية عشرة لانطلاق الثورة السورية هل الثورة أكلت أبناءها، أم أن أدعياء الثورة أكلوها؟

وهذا السؤال لا يطرح منه إلا الجانب المتعلق بالأثر الرجعي للثورة، ولمن حمل الثورة على أكتافه ومن ضحى بروحه من أجلها، واعتقل وهجر بسببها،

هؤلاء الذين أصبحوا يخرجون من دائرة الضوء ليتركوا مكانهم للمتفرجين على مشهد الثورة وحتى من كان ضالعا في إخمادها، وهذا ما سارت عليه الكثير من الثورات التي رفعت شعارات التحرر والإصلاح عبر التاريخ، وقد يكون فشل العقل السياسي للمعارضة السورية المسير للثورة في إدارة حراكها الاجتماعي والسياسي هو الذي أدى لأكل الثورة وتآكلها.

إن ما تعرضت له الثورة السورية من الضعف والفشل لم يكن فقط على يد أعدائها في الداخل والخارج، ولكن كان أيضا على يد أبنائها، إلى الدرجة التي يمكن القول معها “إنها الثورة التي أكلها أبناؤها”، وليس العكس، حيث أكل الأبناء ثورتهم وكأنهم يكررون ما جرى في حوادث التاريخ، ولم نأخذ العبرة والدرس منها عندما جلبت الغنائم الهزيمة بعد النصر.

ثورة شعب رافض للظلم ويتطلع للخلاص من الاستبداد ونيل الحرية، أكلها ضباع كانوا خلف الأجمات، تغلغلوا بين الجموع الثائرة، وصرخوا صياحا أنهم ثوار، وجمعوا شتاتهم وبعدها تصاعد خطابهم السياسي، وأعلنوا أنهم هم من أشعل فتيل الثورة، بل أنهم هم الثوار الحقيقيون وغيرهم هم الأدعياء، ولأنهم منظمون اقتطفوا ثمارها وأكلوها، وبعدها كانت خطواتهم التقليدية، وهي تصفية من يزاحمهم، لتأكل ثورتهم المزيفة أبناء الثورة الحقيقية.

هذه الخطوات ستجدها في أغلب ثورات الربيع العربي ولكن جزءا قليلا من الثورات تتطور فيه الأحداث بعد ذلك بشكل لا يعجب تلك الضباع.

الضباع التي أكلت الثورة السورية، نجد ما يشابه فعلها في رواية مزرعة الحيوان لجورج أورويل حيث عدم المساواة والظلم والقمع القائم في المزرعة التي تحكم وتُدار بقسوة من بشر، تجعل الحيوانات تقوم بثورة عارمة تستولي فيها على السلطة داخل المزرعة!

وتتحسن الظروف قليلا، لكن الفساد يعود ويتسلل تدريجيا، وتبدأ الصراعات على السلطة فتتم خيانة المبادئ، وينتهي الأمر بالمزرعة في حالة سيئة جدا من الفساد كما كانت من قبل!

والرواية تعبر عن الانحراف النهائي والمحتوم لكل حركة ثورية وفي عبارة “جميع الحيوانات متساوية ولكن بعض الحيوانات أكثر مساواة من غيرها” الكثير من الدلالات العميقة، فبعد كل ثورة يخسر الكثير ممّن قام بها وضحى من أجل انتصارها، يخسر ولا يصل إلى نتيجة وفي المقابل يحظى البعض من قادة الصدفة وممن ركب موجة الثورة بالمكاسب، بينما يهمش وينسى من قام بها، الشعب يضحي ويأتي من يجيّر تضحياته ويعتلي المناصب على أوجاعه وآماله التي بذلها من أجل حلم التغيير والثورة.

مقولة أن “الثورة تأكل أبناءها” تفسيرها مقلوب لأسباب الارتكاسات التي تعقب الثورات.

في حين نجد أن من لبسوا لبوس الثورة هم من أكلها حين استبدت بهم الأطماع وفقدوا الرؤية القويمة.

بعد سنوات من الثورة، لا خوف على أهل الثورة من أن تأكلهم هي، لكن الخوف على الثورة نفسها من أن يقضي الذين اعتلوا سدة قيادتها على قيمها وغاياتها فيما هم يتدافعون على غير هدى لزرع الانقسام داخل صفوفهم مع إدراكهم أن عدو الثورة مازال ممسكا بزمام منصبه ويعاد إنتاجه والتطبيع معه.

في سؤال الهزيمة

هل نمتلك الجرأة الكافية كي نعترف أن الثورة حُرِفت ومن ثم سلبت إرادتها، وهل نحدد المسببين، ونقف على الأسباب؟

هذا السؤال سيلقى رفضا من جانب شريحة كبيرة من الشعب السوري الذين قدموا تضحيات من دماء أبنائهم واُعتقل ذووهم وهجر أهاليهم، وكذلك من قبل الذين يتاجرون بمأساتهم ويستثمرون فيها لمصالحهم الخاصة.

ولكن علينا أن نكون صادقين، ونعترف بما حصل ونقف على الأسباب ونشخصها بكل جرأة وواقعية، ومن ثم نحاول طرح رؤى من شأنها المساهمة في توليد أفكار بناءة لإعادة ترميم تصدع الثورة، وعلينا أن نعي جيدا أن هناك فرقا كبيرا بين الثورة التي انتكست، وبين معارضة تسيدت الثورة وابتلعتها، ومن ثم تشتتت هويتها وبنيتها وأهدافها.

ولنتذكر جيدا أن الثورة السورية بدأت سلمية وشعبية وتهدف لإسقاط نظام الأسد بكل رموزه وشخوصه ومرتكزاته الأمنية والعسكرية، وإقامة بديل وطني مختلف، وبين المعارضة التي ركبت موجة الثورة، ومن ثم سيطرت على مؤسساتها واحتكرت التمثيل وهمشت الثوار واستأثرت بالقرار التفاوضي مع نظام الأسد بهدف الشراكة وتقاسم الحكم والسلطة والثروة.

وفي ظل التسابق المحموم على المصالح، ومحاولة انتزاع الأفضلية وبمزايدات بهلوانية، وفرقعات إعلامية تدخل الثورة السورية مرحلة التيه، ويطلب من الشعب الثائر أن يكون مشجعا للفريق الذي لم يختر أعضاء فريقه، والحقيقة أن لا سياسة لدى المعارضة السورية القائمة على مصالح تدار ضمن مصلحة وطنية، بل كل ما هنالك مسؤولون يتخذون من الشعارات الثورية طريقا لنيل مكاسبهم، يقف خلفهم مجموعات على طريقة لعبة الركبي الأمريكية، منتظرين صافرة البدء لانطلاق التناطح في معركة تتناثر فيها الدروع والألقاب وتوزع الأدوار ويحمد فيها الشخص بما لم يفعل..!

ولم يع شخوص المعارضة أنهم مكلفون في مرحلة ليتموها بنقاط واضحة الترتيب لا أن يتحولوا لزعماء لا يملكون إلا الفنتازيا السينمائية و”البروباغاندا” الإعلامية.

ولو وهب الله المناصب لسانا لرفعت عقيرتها أنها تكليف وخدمة لعموم الناس؛ وليست للتعالي والتكسب ولرفضت كل هذه الألقاب وطرحتها أرضا، المناصب التي وضعت للإلهاء وتكريس الحزبية والجهوية والمناطقية والعشائرية.

عندما تصبح الثورة «ترند»

في العالم الافتراضي من الممكن أن يصنع ثلة حالة شعبوية يرددها الجميع يطلق عليها “ترند” حيث تشعل تلك الكلمات الصادرة عن أحدهم المواقع الافتراضية في أشكالها وألوانها المتعددة.

إذا ما أسقطنا ذلك على الثورة السورية، ومن تصدر قيادتها في مختلف المجالات فإننا نجرح القلوب الوفية لها، ونوقظ الدماء الطاهرة التي سالت في سبيلها.

في ذكرى الثورة التي غاب عنها تجديد للمفاهيم والمبادئ والقيم التي قامت من أجلها الثورة لتصبح مجرد صور ومقاطع فيديو تحت وسم أو شعار يذكر فيه عدد سنوات ميلادها.

الكثير يكتب حروف فيها من السجع ما يشعرك تتحمس فتضغط لايكا تلحقه بتعليق منسوخ “عاشت الذكرى” أو “دمتم الأوفياء”..!

وهنا تنتهي الحكاية وتطوى صفحة عيد الميلاد وإطفاء الشعلة أو التطبيق الثائر والانطلاق إلى تطبيق آخر.

عندما تصبح الثورة “ترند” تصمت كل الأفكار والمفاهيم والمراجعات والحوارات والندوات، وتسقط معها الثورة والتضحيات، وتصدأ البندقية وتدفن الرصاصات، ويعلو صوت المتثورين المتلونين والمتنفذين الفاسدين، وتسقط البلاد فلربما لا مكان لها بين حدود الهاشتاغ.

قامت الثورة السورية لاستعادة الوطن، لكن بعد 12 عاما تغيب الثورة ويحضر التاريخ والذكرى وأصبح من تسيد قيادتها وتسلق على حساب تضحيات الشعب يستجدي دور الكومبارس لدى القوى الإقليمية والدولية.

أما عبارة “الثورة مستمرة” التي يرددها كبار تجار دكاكينها فهي مجرد صوت صراف التحويلات المالية التي لا زالت تصل إلى جيوبهم!

الثورة لا تخذل شعبها، ولكن يخذلها صغار النفوس، حين يجعلون منها شعارا لا يعيشون به، ولا يصيبون من قيمها وحجتها ومنطقها في مواجهة أعدائها، وأصبحت عندهم مفهوما لا يتعدى أكثر من الحصول على الغنيمة والوصول للسلطة.

الحرية التي طالب بها الشعب الثائر، كان مصدرها الأحرار الذين رفضوا الضيم، وكذلك الدوران في فلك التبعية للآخرين، وإرادتهم الحرة كان أيضا مصدرها العقل النير، الذي يرفض أن يفكر بعقول الآخرين، ويتنازل عن نيل حقه لصالح المحافظة على مصالح الآخرين، أو أن يتنازل عن تحقيقها خدمة لأجندة غير وطنية.

الثورة التي يأكلها أدعياؤها هي التي لا يُعرف فيها الأعداء والأصدقاء على وجه الدقة، ولا تحدد فيها الأهداف ولا تستوعب ترسانتها الجميع من أجل حقوقهم فيها وحفاظا على مكتسباتها منها وحمايةً لمستقبلها.

إن نجاح الثورة ليس مربوطا بخروج حيز جغرافي من قبضة النظام، بل برفض المجتمع الحر لكائن من كان في أن يستغفلها ويحرف مسارها ويحتكر النضال فيها ويخون أحرارها.

ونجاحها مربوط في إنفاذها للقوانين وإلزام الجميع بها وإعادة صياغة العلاقة وتوضيحها بين الحاكم والمحكوم وبين فئات الشعب المختلفة وصونها لكرامة الجميع وتفعيل مؤسسات المجتمع المدني ومؤسسات الرقابة الضامنة للشعب والحامية للتداول السلمي للسلطة..!

الثورة في سوريا اختطفتها ردة سياسية جاهلة، ولذلك فإن المستقبل يبدو غامضا، وتمكن أعداؤها من لي عقارب الزمن واعتقال إرادة الملايين في بيت الطاعة.

يقال إن مستقبل غالبية الدول معروف، وخاضع لجملة من مستلزمات الاقتصاد والتعليم والقوة والحكم الرشيد وحقوق المواطنة، باستثناء مستقبل سوريا فقد خرج عن مجسات المعرفة، ونبوءات العارفين وتحليلات السياسيين، وانتهى إلى لغز، واحتمالات متعددة.

والمشكلة لدى غالبية المعارضة التي تسيدت قرار الثورة، إنهم بعيدون عن الواقع المعاش، ويستبعدون المنطق في الاسترشاد إلى المستقبل ويحلّون محله الأمنيات، والتعويل على المفاوضات واللجنة الدستورية واللقاءات والمؤتمرات الدولية.

ويذهب البعض منهم إلى استخدام جرعة مخدرة عنوانها “لا يصح إلا الصحيح” حتى بعد أن يُهزم الصحيح وينتصر الخطأ في أكثر من امتحان، ودعاتهم وواعظوهم يحترفون ترويج بديع القول بين جمهور الشعب المهجر والمشرد بالقول: إنه كلما تشتد الأزمة، وتعم المصائب وتسيل الدماء، وتنتشر المظالم والمفاسد سيأتي الفرج ويأتي المستقبل الوضاء!

وفي كل مرة يتبعثر حاضر البلاد والعباد إلى كوابيس، يطرح السؤال نفسه عن آفاق المستقبل، ثم يستنفر المسؤولون وأصحاب الشأن والكتاب والمحللون والدعاة والخطباء في البحث عن جواب، لا تجد فيه استحقاقات السؤال، أو جملة تقول الشيء ونقيضه، وفي النهاية لا يعرف الشعب جوابا لا عن حاضره ولا مستقبله، في وقت الردة إلى الجاهلية وتراجع منسوب الوطنية، وهوس جمع المال والتجارة بألم الشعب وازدياد المناطقية والفئوية والعشائرية التي تخطف كل أمل في بناء دولة جديدة على أنقاض الديكتاتورية.

كاتب سوري

المصدر: القدس العربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى