هبط الآلاف من طلاب الإعداديات والكليات عفويا الى شوارع باريس قرب بناية المجلس الوطني، إثر القاء الشرطة عبوات الفلفل المسيّلة للدموع والخانقة على المتظاهرين، ومن معهم من نواب الجمهورية المساندين لهم في رفض قانون “إصلاح التقاعد” بعد قرار الرئيس إيمانويل ماكرون استخدام المادة 49.3 لتمريره عبر البرلمان عوضا عن التصويت عليه. وقد رفع المتظاهرون الشباب لافتات كتب عليها “انظر إلى ساعتك الرولكس، إنها ساعة التمرّد”، وشعار آخر هو “ماكرون، بورن، كفى للاحتقار!”. وقد صرح بعض الشبان والشابات للإعلام بأنهم نزلوا إلى الشارع وجاءوا إلى هذا المكان لدعم المتظاهرين والنواب المعارضين لهذا القانون، وليقفوا بوجه العنف البوليسي غير المبرّر ضدهم في دولة ديمقراطية.
لقد تردّدت كلمة الديمقراطية كثيرا في الأسابيع القليلة الماضية بمناسبة طرح قانون إصلاح التقاعد الذي أراده الرئيس ماكرون، وسُمعت كثيرا على لسان النواب في كل الأحزاب السياسية ومن الإعلام والصحافيين والنخب المهتمة بالشأن السياسي، وكلها تجمع على أن فرنسا تعيش أزمة تاريخية لم تشهدها منذ عهد الجنرال ديغول، بسبب استعمال الرئيس المتكرّر المادة الدستورية 49.3، والذي بلغ 11 مرّة، وذلك لعدم وجود غالبية برلمانية تدعمه. وبدلا من المرور بالتصويت البرلماني، وهو الفعل الأساسي والديمقراطي الذي يستند إليه تشريع القوانين في الديمقراطيات، اتخذ الرئيس نفسه، وليس رئيسة الوزراء إلزابيث بورن، قرار تمرير “قانون إصلاح التقاعد” الذي تعارضه غالبية بين 80 % و91% من الفرنسيين بحسب الاستطلاعات. وقد يكون هذا القانون أحد أسوأ القوانين التي عرفتها فرنسا منذ أكثر من 50 عاما، وحصد أكبر معارضة شعبية له.
قوبلت رئيسة الوزراء في أثناء إعلانها تمرير القرار في الجمعية الوطنية بموجة غضب واسعة، ورفض من البرلمانيين الذين بدأ بعضهم ينشد النشيد الوطني، بينما رفع آخرون لافتات وملصقات ضد القانون، لتصبح هذه الجلسة تاريخية. ويسجل في المشهد السياسي الفرنسي وعهد الرئيس ماكرون أحد أكثر نقاشات البرلمان الفرنسي إشكالية في تاريخ الجمهورية الخامسة. لقد رأت غالبية من الفرنسيين، من ضمنهم نواب كثر، أن استخدام المادة 49.3 لتمرير أحد أهم القوانين التي تمسّ بقوة حياة الفرنسيين لم يكن موفقا، وليس ديمقراطيا ولا شرعيا، لأنه لم يأخذ استحقاقه الكافي من النقاشات في البرلمان، وبدا لنوابٍ كثيرين أن الرئيس ماكرون شخصيا أراد تمريره بعجلة، وبطريقةٍ غير شفّافة، باستعمال تعابير لغوية معيّنة، الغرض منها تسويق القانون، وهو ما أثار حفيظة (وغضب) نوابٍ كثيرين نهضوا في القاعة للتعبير عن رفضهم الطرق غير الديمقراطية المتبعة في ظل ولايتين للرئيس ماكرون. وبعد رفع الجلسة، بدأ البرلمانيون المعارضون التحشيد القانوني لسحب هذا القرار، إذ عبّر رئيس كتلة برلمانية صغيرة عن الإجماع بتقديم “ملتمس الرقابة”، ولحقت به كتلتان برلمانيتان أكبر، للقيام بالأمر نفسه. كما دعت هذه الكتل نواب حزب التجمّع الجمهوري إلى الالتحاق بها ليكون هناك العدد القانوني من الأصوات اللازمة لإسقاط حكومة رئيسة الوزراء إلزابيث بورن، ومطالبتهم بعدم تغيير موقفهم الأولي الرافض للقانون لأسباب شخصية، بعيدة عن المصلحة العامة، وفي تعارضٍ واسع مع مطالب غالبية الشعب الفرنسي. ليس ذلك فحسب، بل اعتبرت النقابات الكبرى، والتي تصدّرت التظاهرات العارمة التي شهدتها باريس والمدن الفرنسية منذ أسابيع، تمرير القانون بهذه الطريقة نبذا فاضحا للديمقراطية. وقال رئيس نقابة الـ”سي جي تي”، التي تعدّ أهم النقابات وأكثرها عددا، إن الرئيس لا يسمع ولا يُنصت .. ولكن التحشيد سينتقل إلى مرحلة ثالثة، وسنواصل تعطيل الاقتصاد حتى سحب هذا القانون. “
تمرير “قانون إصلاح التقاعد” هو أيضا سبب لأزمة اجتماعية واسعة بدأت مبكّرة مع الولاية الأولى للرئيس ماكرون، لتستفحل أكثر خلال فترة كورونا بسبب سوء إدارة الوباء، وتفجّرت منذ أسابيع مع نزول 2,8 مليون شخص في تظاهراتٍ بدأت في باريس، وشهدتها كل المدن الفرنسية، ووصلت إلى المئات، وحشدت جمهورا كبيرا ضم جميع الفئات العمرية، وخصوصا الشباب والعمال والموظفين.
تبدو تسمية الإصلاح جاذبة للوهلة الأولى، لكنها تخفي، في تعابيرها ومصطلحاتها المختارة، قانونا لتفكيك (وإلغاء) مكتسباتٍ كثيرة، حصل عليها الفرنسيون بعد نضال كبير، وعلى امتداد أكثر من قرن، وخصوصا زيادة سن التقاعد المعمول به حاليا عامين إضافيين، وهو ما يرفضه الفرنسيون، بالإضافة إلى “اختفاء” ما جرى تسويقه من الحكومة أنه زيادة عامة في الراتب التقاعدي ليضيع بين التفاصيل.
قالت رئيسة الوزراء إلزابيث بورن، في كلمتها أمام الجمعية الوطنية، إن البلاد في حاجة إلى الإصلاحات وهو ما لا يختلف عليه الشعب الفرنسي ونوابه لكن الواقع ونوعية الإصلاحات المطروحة يظهران أن هناك رغبة كبيرة في الخصخصة وترشيق الدولة وتقليص النفقات وتوفير فائض “للخزينة”، عبر البذل بسخاء لكابينات الشركات الاستشارية الخاصة على حساب القطاع العام والعاملين فيه والخدمات العامة الأساسية في الصحة والتربية والزراعة والجيش وغيرها من قطاعات الدولة، وبطريقة يراها الشعب ونواب منه في البرلمان غير مبرّرة ومحدودة المردود. وقد كشف أحد النواب، أخيرا، أمام الجمعية الوطنية إن نوابا كثيرين لديهم أسباب تتعلق باستثماراتهم المالية في الشركات الكبرى هي التي تمنعهم من التصويت لفرض الضرائب على شركة توتال، وتمنع التصويت على إيقاف زيادة أسعار المحروقات، فيما آخرون يريدون تمرير قانون إصلاح التقاعد بسبب امتلاكهم أسهما في شركات التأمين وفروعها التابعة للبنوك.
يقول أحد أساتذة القانون إنه كان في وسع الرئيس طرح القانون على التصويت في البرلمان، وهذا أفضل من أن تكون هناك أزمة سياسية واجتماعية تعطل قطاعات واسعة من البلاد. وفي حال فشل التصويت، يُسحب القانون ليعدّل مستقبلا. ورأى المرشّح الرئاسي السابق لحزب فرنسا غير الخاضعة، جان لوك ميلانشون، أنه كان بإمكان الرئيس القيام باستفتاء شعبي على القانون، وهو إجراء ديمقراطي، يستعمل غالبا لتفكيك الأزمات بشكل سلمي وديمقراطي.
تبدو الأزمة السياسية والاجتماعية التي تعيشها فرنسا منذ أسابيع مواجهة بين أقلية رئاسية تريد فرض رؤيتها الاقتصادية التي ترتبط بكبرى الشركات العالمية، وغالبية الشعب الفرنسي الذي يرفض المثال الاقتصادي “الليبرالي المتوحّش”، ويعتز بالمثال الاجتماعي للدولة الذي تحقق عبر كفاح طويل للنقابات والأحزاب من أجل حقوق العمل والعاملين. لقد خاض الرئيس ماكرون معركة خاسرة مع الشعب الفرنسي الذي لن يتنازل عن مكتسباته، بدليل هذا التحشيد الواسع والمستمر والتظاهرات الكبرى التي لن تتوقف إلا بسحب هذا القانون. لقد اتحد الشعب الفرنسي بكل مكوّناته رافضا الحكم بالمادة 49.3، ويذكّر الرئيس بالمبادئ الديمقراطية لأسس الحكم، والأيام المقبلة حاسمة بشأن القانون أو دفنه إلى الأبد.
المصدر: العربي الجديد