استدعاء الأسد إلى موسكو، إختلف في الشكل هذه المرة عما كان يتم عليه في السابق. فقد جرت العادة أن يعلن عنه بعد حصوله وعودة الأسد إلى دمشق، بعد أن يكون قد تم التداول معه في المهمات المقبلة لوجوده في السلطة. فقد توقف كثيرون من المحللين الروس عند علانية زيارة الإستدعاء والحديث عن موعدها ومهمتها قبل أسابيع من ذلك. كما إستوقفهم تنظيم إستقبال رسمي للأسد عند سلم الطائرة، وإن كان على مستوى مسؤول في الخارجية وليس الوزير أو من مستواه.
الحديث الذي بدأ قبل أسابيع عن إستدعاء الأسد إلى موسكو، ترافق مع تحديد هدفه الرئيسي في تسريع تطبيع علاقات الأسد مع أردوغان، والضغط عليه للتخلي عن شروطه غير الواقعية التي يرفعها في وجه هذا التطبيع. وتوقيت الحدث بعد أيام من مبادرة الصين في مصالحة إيران والسعودية، جعله يبدو متمماً للمبادرة الصينية في تعزيز وجود تحالف الصين ــــ روسيا في الشرق الأوسط، والحلول مكان الوجود الأميركي الآفل. وإستغل طرفا التحالف التشنج المتزايد في علاقات الولايات المتحدة مع حليفيها المزمنين في المنطقة ــــ تركيا والسعودية لإبراز قدرتهما وعجز الولايات المتحدة على التوسط في الصراع الإيراني السعودي وخلفياته الدينية، والنزاع التركي السوري المرافق للأزمة السورية. وإذ تسعى الصين للحلول مكان الولايات المتحدة في ضمان أمن السعودية، بما فيه العسكري، تسعى روسيا لتعزيز موقع أردوغان في الناتو بوجه إملاءات الولايات المتحدة. الصين بإمكانياتها الإقتصادية الهائلة، وبالمعنى الواسع للكلمة، لست بحاجة لا للسعودية ولا لإيران، في حين أن روسيا، وفي ظل غزوها لأوكرانيا وعزلتها والعقوبات الغربية، بحاجة ماسة للتعاون الإقتصادي مع أردوغان، وكذلك لوزنه السياسي في الناتو. وهي معنية بتقديم ورقة تطبيع العلاقات مع الأسد له، ومنحه ورقة رابحة بوجه المعارضة التركية عشية الإنتخابات الرئاسية,
لكن يبدو أن ورقة المصالحة هذه قد انتزعت حالياً من يد موسكو، حيث تم تأجيل لقاء نواب وزراء خارجية ترويكا أستانة مع سوريا في 16 الجاري بموسكو، وذلك بطلب من تركيا، حيث يعارض مؤيدو أردوغان بشدة عملية التطبيع مع الأسد. وليس من الواضح متى تعود موسكو للإمساك بهذه الورقة، وستتكفل نتائج الإنتخابات التركية بالإجابة على هذا السؤال.
تغطية الإعلام الروسي الموالي إقتصرت على الخبر قبل إنطلاق المفاوضات في الكرملين. لكن ما أن أُعـــــلن عن إنتهائها، حتى بدأت تتوالى نصوص المواقع الإعلامية مع آراء المحللين والكتاب السياسيين الروس. وقد توقفت جميعها عند علانية زيارة الإستدعاء والحديث المسبق عن موعدها التقريبي، وإستفاض الكثيرون في تفسير هذه العلانية ودلالاتها وأبعادها وما تعنيه في وضع الأسد الراهن.
صحيفة الكرملين vz ذهبت بعيداً في تفسير هذه العلانية، وإعتبرت أنها جعلت الزيارة “فريدة من نوعها”. ورأت أنه لم يعد هناك ما يخشاه الأسد على أمنه، حيث أصبح يحكم سوريا “بحزم”، بإستثناء “الشريط الذي تسيطر عليه تركيا في الشمال والأراضي الكردية التي تسيطر عليها أمريكا في الشرق”. وعدا العلانية، قالت بأن للزيارة “أهدافاً إستراتيجية”. ورأت في مقدمة نصها بعنوان لافت “الأسد يعيد لروسيا ديناً مقدساً”، أن سوريا أصبحت مشاركة في السباق الجيوسياسي العالمي، الذي تخوضه الآن روسيا والصين معاً.
وعن ترحيب الأسد بتوسيع القواعد العسكرية الروسية وإضافة أخرى جديدة وتجنيد “متطوعين” سوريين للإنضمام للقوات الروسية في أوكرانيا،، نقلت الصحيفة عن خبير روسي بالشرق الأوسط قوله بأنه “منطقي جداً” أن يعيد الأسد “ديناً مقدساً، إذ ليس لدمشق “حليفاً أكثر قوة وأهمية من روسيا”، والقواعد الروسية تضمن “الهدوء” في سوريا.
صحيفة Gazeta.ru الإلكترونية الروسية نشرت نصاً بعنوان “مشاكل كثيرة، أجوبة معدومة. لماذا جاء الأسد إلى روسيا”. قالت الصحيفة أن وزيري الدفاع الروسي والسوري أشارا في محادثاتهما إلى أن الحملة العسكرية الروسية في سوريا حققت منذ إنطلاقها “نجاحات كبيرة” قي تحرير سوريا من “الإرهابيين والمتطرفين.
تنقل الصحيفة عن خبير روسي قوله بأنه ليس باستطاعة روسيا الإستجابة إلى رغبة الأسد في زيادة تواجدها العسكري في سوريا، والتي أفصح عنها في اجتماعه مع بوتين. ويستعرض الخبير القوى الموجودة على الأراضي السورية الآن، ويقول بأنه إذا اضفنا إلى المشاكل التي يخلقها هذا الوجود إنخراط الطاقات العسكرية والإقتصادية الروسية في الحرب الأوكرانية، يصبح من الواضح أنه في حال تأزم الوضع في سوريا، من المستبعد أن تتمكن روسيا من تقديم المساعدات بحجمها السابق. ويؤكد بأنه لا مجال للشك بأن الأسد جاء إلى روسيا لطلب زيادة المساعدة العسكرية والإقتصادية من روسيا.
ويقول الخبير بأن أحد الأسئلة الأساسية المطروحة اليوم هو قضية إعادة إعمار سوريا المدمرة، والتي تتجاوز تكاليفها 100 مليار$. وروسيا المنهكة بحزم العقوبات المتوالية والانكماش الإقتصادي المتواصل لا تملك هذه الأموال. حتى لو كانت في حوزة موسكو مثل هذه المبالغ، فليس من المفهوم كيف ستوفق بين مساعدة “الشعب السوري الشقيق” وبين متطلبات الأطراف الروسية.
ويعود الخبير ليؤكد أن موسكو، وبسبب الموارد المحدودة والانخراط في الحرب الأوكرانية، ليس لديها ما تستجيب به لمثل هذا الإقتراح. ويطرح مشكلة مصير القواعد العسكرية الروسية في سوريا ما بعد الأسد، ويقول بأن لا جواب واضحاً ومحدداً على ذلك. ويتذكر في هذا السياق ما حدث للقوات الروسية في مصر بعد رحيل عبد الناصر، حين طلب منها أنور السادات العام 1972 مغادرة مصر في غضون 24 ساعة، على الرغم من نجاح هذه القوات في تأدية مهمتها آنئذٍ. ويرى أن القوات الروسية في سوريا حققت نجاحاً لا شك فيه في أرض المعركة، ويتساءل ما إن كانت ستتمكن روسيا من ترجمة هذا النجاح إلى نتيجة سياسية طويلة الأمد، “ليس من الواضح حتى الآن”.
الكاتب السياسي في صحيفة NG الروسية إيغور سوبوتين نشر يوم زيارة الإستدعاء نصاً تمحور حول علانيتها، عنونه بالقول “روسيا تغير شكل تواصلها مع الأسد”. وفي رد على سؤال “المدن” ما إن كان يرى علاقة بين مبادرة الصين الإيرانية السعودية وزيارة الإستدعاء للأسد، قال يانه لا يرى علاقة بين الحدثين “المختلفين كليا”. ورأى أن “الصفقة” التي تم التوقيع عليها في الصين قد تمنح موسكو ودمشق بعض الأمل بأن السعودية، وفي مرحلة ما وبالتوافق مع إيران، ستستعيد علاقاتها بسوريا وتقدم مساعدة إقتصادية لدمشق.
وعن فرضية رغبة موسكو في تعزيز موقع أردوغان في الناتو بوجه الولايات المتحدة بواسطة الضغط على الأسد لتسهيل التطبيع التركي السوري، قال سوبوتين بانه كان لافتاً توقيت تأجيل لقاء نواب وزراء الخارجية الروسي والتركي والإيراني والسوري خلال زيارة الأسد. وجاء هذا التأجيل بناءً لطلب تركيا، حسب ما صرحت به شخصيات رسمية تركية. وقال بأنه ليس واثقاً ما إذا كان التطبيع مع الأسد يعطي أردوغان شيئاً ما في علاقته مع الغرب والناتو. وهو بحاجة للتطبيع فقط في الداخل، حيث يفترض الأتراك أن إستعادة العلاقات الرسمية مع نظام الأسد يساعد في عودة اللاجئين إلى سوريا. والمعارضة التركية تنشط في إستغلال هذه الورقة، وليس أمام أردوغان سوى إنتزاعها من المعارضين.
المصدر: المدن