ظروف العمل الحالية لا تؤدي إلى إضعاف دور النقابات العمالية فحسب بل وتبرز الشكل الأقرب إلى السخرة.
لم يعد للنقابات العمالية العالمية القوة التي كانت لها منذ بدايات القرن الـ20 إلا في التجمعات الصناعية الكبرى، وتحديداً في أوروبا، حيث ما زال لها بعض التأثير في سياسات المصانع الكبيرة. أما في باقي أنحاء العالم فضعف النقابات العمالية يبدو واضحاً.
في الصين النقابة هي الحزب الشيوعي الحاكم، مع العلم أن الصين تضم أكبر عدد من العمال في العالم، أما في القارة الأميركية الشمالية والجنوبية فإن نقابات العمال لم تعد ذات دور فاعل كمجموعات ضغط، والسبب بحسب إعادة القراءة التي قامت بها الأحزاب الاشتراكية الأوروبية، هو نمط العمل الجديد وعقوده وأنواعه.
أما فرنسا فيحتفل الناس هناك في الأول من مايو (أيار) من كل عام بعيد العمال عبر توزيع الزهور البيضاء التي يسمونها “ورد مايو”، وهو البلد الذي يشهد الآن احتجاجات واسعة على تعديلات قانون التقاعد، فيما يصر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، على ضرورة زيادة سن التقاعد في بلاده من 62 إلى 64 عاماً، حفاظاً على الاستدامة المالية لصندوق التقاعد خلال السنوات المقبلة.
العمل في زمن الإنترنت
في عصر ثورة الاتصالات وشبكة الإنترنت، وبسبب الطفرة الكبرى في التعليم وانخفاض فرص العمل أمام عدد طالبي الوظائف، فإن أرباب العمل الجدد باتوا يفضلون عمالاً غير متعاقدين يحصلون على بدل العمل الذي يقومون به ويسمون الـ”فري لانسر”، ويمكن لطالب العمل أن يقبل أو يرفض المقابل المادي طالما أن كثراً ينتظرون في الطابور.
هذا النوع من العمال لا ينضوون في نقابات، ويعتبرون عمالاً غير مرئيين في النظام النقابي. أما الموظفون الذين يتقاضون رواتب شهرية مقابل دوام محدد من ساعات اليوم، فهؤلاء بدورهم لا يمكنهم الاعتراض على شروط العمل، فغالباً ما يكونون مدينين للمصارف بقروض مقابل رواتبهم، مما يجعلهم تحت سيطرة رب العمل من دون القدرة على الاعتراض خوفاً من خسارة الوظيفة، وهذا ما يؤدي إلى إضعاف جمعياتهم ونقاباتهم في حال وجدت.
تمكننا إعادة القراءة التي تقوم بها النقابات العمالية حول العالم اليوم من تحديد دورها في أطر النظام الجديد الناتج عن ثورة الاتصالات والعولمة، الذي تبدل فيه مفهوم العامل والعمل ورب العمل أيضاً، حيث نستنتج أن ظروف العمل الحالية لا تؤدي إلى إضعاف دور النقابات العمالية فقط، بل وتبرز الشكل الأقرب إلى العمل العبودي أو عمل السخرة، كما يصفه اقتصاديون دوليون، بل ويعتبر باحثون في منظمة العمل الدولية أن أشكال العمل الجديدة تسبب أنواعاً جديدة من الظلم، ولا تنحصر في الجهد الجسدي، بل وفي القلق النفسي الناتج من الشعور بعدم الاستقرار الوظيفي، ويدلل هؤلاء على أن هذه المشكلة باتت منتشرة بين العمال والموظفين حول العالم، إذ يبدون غير قادرين على مواكبة موجة الدعاية الكبيرة للتسوق في ما يصيب التضخم أول ما يصيب مدخراتهم القليلة، كما يحدث الآن في معظم دول العالم أعقب الحرب الأوكرانية.
طرق الاعتراض القديمة
أنهى أعضاء النقابات الإنجليزية إضراباً استمر أكثر من ثلاثة أشهر وأصبح محور نقاش مستمر حول ما يمكن للإضراب أن يقدمه للعمال من أجل تحسين رواتبهم، وحين طال أمد الإضراب اضطرت النقابات إلى التنازل عن بعض مطالبها بعد أن شعر العمال أنهم سيحاسبون أمام الرأي العام لو طال الإضراب أكثر. وهذا جزء من المسؤولية التي تتحملها النقابات للموافقة بين مطالبها وحاجات المواطنين. وهو أيضاً أحد أنواع طرق المفاوضة الجماعية الحديثة، أي الوصول إلى تسويات معينة مع الحكومة أو إدارة الشركات الكبرى، على أن تكون المكتسبات نتيجة تفاوض لا نتيجة الإضراب.
في بريطانيا تعتبر النقابة العمالية أو نقابة العمال جمعية للعمال يتم إنشاؤها لتأمين التحسينات في الأجور أو المزايا أو ظروف العمل أو الوضع الاجتماعي والسياسي من خلال المفاوضة الجماعية. وقد نشأت النقابات العمالية في القرن الـ19 في بريطانيا العظمى وأوروبا الوسطى والولايات المتحدة، لكنها ظلت متقطعة وقصيرة العمر خلال معظم القرن، ويرجع ذلك بحسب “معجم أوكسفورد” إلى العداء الذي واجهه العمال ونقاباتهم من أرباب العمل والجماعات الحكومية التي استاءت من هذا الشكل الجديد من النشاط السياسي والاقتصادي. في ذلك الوقت، تمت مقاضاة النقابات والنقابيين بانتظام بموجب قوانين مختلفة لتقييد التعاون والتضامن بين النقابات وتجمعات العمال في كل من بريطانيا والولايات المتحدة.
هذه التحديات التأسيسية أسهمت في تقوية عزيمة النقابات فلجأ العمال في بريطانيا إلى ممارسة النشاط السياسي، مما أدى إلى تشكيل حزب “العمال” عام 1906، بينما اتبعت النقابات الأميركية المفاوضة الجماعية كوسيلة لكسب مزيد من أرباب العمل وتأمين حقوق اقتصادية للعمال من دون الدخول في متاهات العمل السياسي أو المطالب الاجتماعية للعمال.
خلال القرن الـ20 فقدت النقابات الحرفية قوتها لصالح عمال الصناعة الأكثر عدداً وبؤساً والأشد تنظيماً، خصوصاً مع انطلاق الأحزاب الاشتراكية والشيوعية ونظرياتها حول فائض القيمة، وهو فائض يستحق العمال جزءاً منه بدلاً من مراكمة ثروة صاحب العمل. وكان هذا التحول تاريخياً ومثيراً للجدل لأن النقابات الأولى تطورت من أجل تمثيل العمال المهرة. وبحلول عام 1941 بدأ نجاح النقابات الصناعية بعد تنظيم صناعات الصلب والسيارات.
انحطاط المنظمات النقابية
تحدد قوة النقابات وفعاليتها بحسب الظروف الاقتصادية، ففي أوقات الازدهار والرخاء والتوظيف الكامل وارتفاع الأجور تفقد النقابات عادة جاذبيتها بين العمال، بينما تعود إلى النشاط في أوقات الركود والأزمات الاقتصادية. وفي زمن العولمة ظهرت تحديات جديدة أمام عمل النقابات، سواء بسبب عقود العمل الجديدة وأنواعها، أو بسبب ظهور الشركات الكبرى العابرة للحدود، التي تفضل بناء مصانعها في دول العمالة الرخيصة، مما أدى إلى إضعاف عمل النقابة الأول في المفاوضة الجماعية، بعد أن تم استبدال العمال المحليين بقوة عاملة أرخص في أغلب أجزاء العالم.
في الولايات المتحدة، تأثرت الحركة العمالية سلباً بسبب قوانين “الحق في العمل” التي تم تبنيها في أكثر من نصف الولايات الأميركية منذ أوائل القرن الحالي، وهذه القوانين تمنح الشركات سلطة كبرى على تنظيمات العمال بعد أن باتت الشركات الكبرى ضرورية لحماية الحرية الاقتصادية بحسب ما روج أصحاب النظرية الاقتصادية الليبرالية التي تخضع قوة العامل الفرد لموازين السوق والعرض والطلب.
يطرح تحقيق منشور على موقع “بريتانيكا” (الموسوعة الإنجليزية) سؤالاً مهماً حول السبب الذي أفقد النقابات دورها التقليدي وجعل أمواجها التي كانت تهدر في السابق مياهاً راكدة. ويبدأ الأمر بعدد العمال المنضوين في إطار نقابة، الذي بلغ عام 2023 في بريطانيا ما يزيد قليلاً على ستة ملايين، بعد أن كان 13 مليوناً عام 1970. وكان أمين عام اتحاد النقابات البريطانية مات وراك كتب في 2018 أن “قانون النقابات العمالية لعام 2016 لم يكن سوى الأحدث في سلسلة طويلة من القوانين التي صممها حزب (المحافظين) لتقويض السلطة والقدرة التنظيمية للعمال ونقاباتنا، من خلال جعل معظم أشكال العمل الصناعي غير قانونية”. وتتبنى حكومات “المحافظين” و”العمال” في بريطانيا القوانين التي تحد من قوة التجمعات النقابية، وتعمل دائماً على تقليص قدرة النقابات في التأثير السياسي والاجتماعي، لا الاقتصادي.
كما أن موقف البيروقراطية النقابية بين رأس المال والعمل، يضمن ولاء النقابات التي نادراً ما تكون على استعداد للضغط في المسائل السياسية أو الدستورية أو تعميم النزاعات القطاعية في مواجهة سياسية أوسع.
في مقال غير مكتمل كتبه المنظر البلشفي ليون تروتسكي، وجد على مكتبه بعد مقتله عام 1940، خلص إلى أن “السمة المشتركة في انحطاط المنظمات النقابية الحديثة في العالم بأسره هو جذبها الوثيق إلى سلطة الدولة ونموها في داخل مؤسساتها”.
النقابات العمالية والعولمة
يتناول كتاب جديد لمنظمة العمل الدولية بعض القضايا الحاسمة التي تواجه الحركة النقابية. وجدت محررة الكتاب فيرينا شميدت، من مكتب أنشطة العمال في منظمة العمل الدولية ومنسقة شبكة أبحاث النقابات العالمية، تضارباً محتملاً في المصالح بين عمال الشمال والجنوب العالميين عندما يتعلق الأمر بنقل العمل إلى الخارج أو استئجار عمال أرخص من هناك، مما يؤدي إلى تحمل العمال في الشمال كلفة رخص اليد العاملة القادمة من الجنوب. وكما جاء في الكتاب، فإن النقابات تواجه نفوذاً متزايداً للقطاع الخاص، لذا يساور كثيرون القلق من أن مدونات قواعد سلوك العمل للشركات مع التجمعات العمالية بلا وسائط قانونية كافية للمساءلة في حال عدم تطبيقها.
قبل عامين صوت المجلس الأوروبي والبرلمان الأوروبي على مراجعة توجيه مياه الشرب، بما في ذلك تعزيز الوصول إليها اعترافاً بحق الإنسان في المياه، وأن الخدمات العامة يجب أن تكون متكاملة. وكان نجاح هذا التصويت سببه مزيجاً من عمليات ضغط من قبل الرأي العام والنقابات العمالية ونشطاء المياه. وبات ما يمكن تسميته حركة المياه في أوروبا تتألف من النقابات العمالية ودعاة حماية البيئة ونشطاء المياه وشبكات مكافحة الفقر ومواطنين عاديين. وكانت هذه، بحسب أمين عام اتحاد النقابات الأوروبية، الطريقة الجديدة التي أبرزت دور النقابات العمالية المعاصرة على أنها جزء من المعركة والحل، مضيفاً “نهدف إلى إضفاء الطابع الديمقراطي على مكان العمل، ومنع العمال من أن يكونوا محل تنفيذ قرارات متخذة من جانب واحد هو أصحاب العمل أو الخوارزميات، بل وأكدت طرق الضغط الجديدة التي يشترك فيها المواطنون أن نقابات الخدمة العامة لا تزال حساسة لما يحدث في المجتمع، وتفهم العلاقة بين نقص التمويل ونقص الموظفين، وكيف يؤثر ذلك على الناس وقدرتهم على إحقاق حقوقهم”.
المصدر: اندبندنت عربية