تعمل أحزاب المنطقة الخضراء في بغداد بشكل محموم على تغيير قانون الأحزاب الذي سن تحت ضغط ثوار تشرين، وسمح لأحزاب “ناشئة”، بعضها ملغوم من حيتان السياسة، ومستقلين، بالفوز بمقاعد في البرلمان، اطلعوا من الداخل على هيمنة أسماء أحزاب معينة لا ترغب إطلاقا بفسح المجال للغير وصعود أجيال جديدة. وقد برزت، منذ انتخابات عام 2021، وجوه نسائية شابّة لتخوض معركة شرسة مع البرلمان، ومع لجانه التابعة في أغلبها “للإطار التنسيقي”، ومن حوله التي تختص بمناقشة قوانين الأسرة والطفل والمرأة. … منذ عشر سنوات، تتلكأ وتتباطأ اللجان التابعة لهذه الأحزاب في مناقشة قانوني حماية الطفل والعنف الأسري وتعديل قوانين خاصة بالمرأة طوتها أيادي البرلمانيين والبرلمانيات ممن يحاولون سلب المرأة حقوقها، لأسباب انتخابية ومادّية، وبغرض فرض فقه معين. ومن يعتبر ضرب الطفل وتعنيفه وتعذيبه تصرّفا “مشروعا” للحفاظ على النسيج الاجتماعي، وهو ما يحصل في العراق اليوم وبشكل واسع، إذ يصل إلى المستشفيات أطفال معذبون من الأب والأم أو زوجة الأب إلى حدود غير متصوّرة يموت جرّاءها هؤلاء الصغار، مثل حادثة طفل مات قبل أيام ووفاة طفل ثان مغتصب وطفلتين نُشرت صورهما على مواقع التواصل الاجتماعي، من دون مساءلة الأبوين أو الأهل الذين قاموا بمثل هذه الأعمال المشينة.
يعتبر أعضاء البرلمان الفقه الجعفري “عقيدة الغالبية”، ويجب فرضها على الشعب العراقي، بغض النظر عن الدين وعن الفقه الصحيح وقوانين الدولة العراقية المتعامَل بها؟ وحينما فشلوا قبل سنوات بتمرير “القانون الجعفري”، ليكون بديلا عن قانون الأحوال المدنية السابق، والذي أحدث ضجّة واسعة في أنحاء العراق وجرى رفضه، بدأ البرلمانيون يبحثون عن تعديلاتٍ ومقترحاتٍ لقوانين تسقط حقوق المرأة، وخصوصا في مسألة الحضانة، فقد عمد البرلمانيون عام 2021 للتصويت على أجزاء من القانون نفسه بالتلاعب بالمادة 57 من قانون الأحوال المدنية السابق التي تسمح للمرأة بالحضانة، وذلك بإسقاطها عن الأم المطلقة والأرملة عند وصول عمر الأطفال إلى سبع سنوات.
والغريب في هذه التعديلات أنها غير منصوص عليها في المذهب الجعفري، كما تقول الناشطة البارزة إيناس الربيعي التي قالت لنا في حوار “قاتلنا في عام 2021 من أجل تعديل هذا القانون، لأننا أثبتنا لهم أن المذهب الجعفري لا يُسقط الحضانة عن الأرملة مطلقا، وأن حضانة المطلقة هي بشروط، فما كان منهم إلا أن تراجعوا عن التعديلات” (!). والسؤال هنا: لماذا كل هذا الاستنفار الاستثنائي للبرلمانيين، وحتى البرلمانيات، بخصوص تعديل مواد معينة من هذا القانون؟ تجيب الناشطة إيناس الربيعي بأن كل هذا الحراك والتنسيق مع البرلمانيات في فرض تعديل قانون الحضانة يعود أولا لأسباب انتخابية لحصد الأصوات بمثل هذه القوانين، ولأن بعضهم يدفع نفقة لا تزيد على ثلاثين دولارا لمطلقته عن كل طفل، وكل ما يريده هو قطع هذا المبلغ عن زوجته السابقة وعن أطفاله. وعندما لم يتمكّن النواب من إلغاء الحضانة عن الأرملة، سعوا إلى البحث عن ضحية أخرى من النساء اللواتي يمكن إسقاط الحضانة عنهن وقطع النفقة، وهي المرأة الناشز. وهنا أيضا اعترضت إيناس الربيعي وزميلاتها الناشطات اللواتي أظهرن جهل البرلمانيين بفقه العقيدة التي يتحجّجون بها، إذ واجهتهم بأن وضع المرأة الناشز يخضع لعلاقة الزوجين بينهما وما يشرّع هذه العلاقة، ولا مكان للحضانة في هذا الموضوع، ليتم على أثرها سحب التعديل بسبب الأخطاء القانونية.
ويعود اهتمام الناشطات العراقيات الملحّ بمسألة الحضانة وحقوق المرأة فيها إلى الأرقام الرسمية المخيفة لحالات الطلاق التي يعرفها العراق منذ الغزو في العام 2003، إذ تفيد أحدث الإحصائيات بأن هناك مائتي حالة طلاق يوميا في العراق خلال السنوات والأشهر الأخيرة، بحسب صحيفة “مساواة” التي تصدرها بعض الحقوقيات.
… الناشطة إسراء السلمان، الطالبة في كلية القانون، إحدى المتصدّيات بقوة وبصلابة لموجة الكراهية والاستهانة بالمرأة العراقية والتزايد الفاجع والمقلق لحوادث الاغتصاب والخطف والتعذيب للأطفال والقتل بحجّة غسل العار، وتواطؤ القانون الذي يمرّر حوادث قتل كثيرة للنساء أنها غسل للعار وهي ليست كذلك، وتهاون وزارة الداخلية مع القتلة ومغتصبي الأطفال، وخصوصا من منتسبيها. تقول إسراء “توجّهنا إلى المشرّع العراقي منذ سنوات لإقرار قانون العنف ضد الأطفال، لكنه يرفض بحجة “الخوف على النسيج الاجتماعي”. وتستشهد بحوار تلفزيوني قبل أيام لرئيس البرلمان السابق، محمود المشهداني، مع الناشطة إيناس الربيعي، إذ قال لها إن هذه الحوادث ليست أغلبية، أي لا تستحقّ تشريع أي قانون! فردّت عليه بسؤال: كم هي نسبة قتل النساء والأطفال التي تناسبكم لتشريع قانون ضد العنف؟ وتعلل إسراء عدم إصدار قوانين لهذه الحوادث من البرلمان بأن السلطة تحتاج تأليب نصف المجتمع على الآخر لإبقاء الأوضاع كما هي عليه، ولكي لا يطالب الشعب العراقي بإعادة الخدمات الضرورية من ماء وكهرباء وتبليط شوارع وإنشاء مستشفيات ومدارس.
تطالب العراقيات، منذ سنتين، وفي مقدمتهن إيناس وإسراء السلمان وأخريات، بتعديل قانون جرائم غسل العار الذي صار يُستخدم بعد 2003 بحالات مختلفة، أهمها التخلص من الزوجة التي ترث أو للزواج بامرأة ثانية أو الشك ببنت لها علاقة، وأمثال أخرى كثيرة يتداولها العراقيون ووسائل التواصل الاجتماعي بألم وحزن وأسف على ما وصلت إليه أوضاع الشعب العراقي الذي يعيش بدون قانون وبدون دولة حقيقية. تتحدّث إسراء عن فقدان ثقة العراقيين بالشرطة المجتمعية التي لا تتحمّل مسؤوليتها الحقيقية في حماية الناس. وتضرب الناشطة الشابة عدة أمثال وحوادث قتل لنساء بعد استنجادهن بها، كما هو الحال مع اليتيوبرية “طيبة” التي استدرجها أهلها قبل أيام من تركيا إلى العراق. ورغم حذرها وإبلاغها الشرطة ومرافقتهم لها إلى البيت، وأخذ تعهد من أهلها بعدم المساس بها، إلا أن والدها قتلها بحجّة “غسل العار”، لأنها كانت تبث فيديوهات وبجانبها شاب. وقد تركت الضحية هاتفها يسجّل كل ما يجري لها مع والدها، وباتصال مع صديقة لها في الخارج، بثت الجريمة بنقل حي، حيث يسمع صراخ الشابة، وهي تحاول الخلاص من يدَي والدها. وإسراء التي تشارك بوصفها طالبة قانون مع بعض الناشطين في مناقشات اللجان البرلمانية للقوانين، وتحاول جاهدة تعديل مواد لتحسين أوضاع القوانين الخاصّة بالأسرة والطفل والمرأة وإضافتها، استلمت فيديو لأطفالٍ يعذّبهم الأب ويتحرّش بابنته الصغيرة التي لا تتجاوز سبع سنوات. وعلى أثر ذلك، ناشدت وزير الداخلية اتخاذ إجراءات سريعة أمام الكم المتصاعد والهائل لمثل هذه الجرائم البشعة التي لا تُعالج، ولا يُحاسب أصحابُها.
يعالج القانون العراقي غالبية مشكلات حالات العنف والقتل والاغتصاب ضد المرأة والأطفال التي تزايدت بعد عام 2003، لكن المشكلة اليوم عدم وجود دولة بالمعنى الحقيقي، والقانون السائد ليس هو قوانين الدولة وتشريعاتها، بل قانون القوة الذي تفرضه أحزاب عملية الاحتلال السياسية ومليشياتها وأتباعهم من الفاسدين وتجار المخدّرات وصالات القمار ووكالات المتعة التي تجذب الفقيرات والمطلقات وتتاجر بهن بفضل فتاوى تنشر عبر الفضائيات أو لمواقع وقنوات معمّمين همهم الكسب والحصول على الأموال والامتيازات والجاه، ومن محكمة عليا تسخّر القانون ليكون في خدمة ما يجري تحت نظام الاحتلال.
من آلام هذه البشاعات التي تُقترف في العراق اليوم، بزغت هذه المجموعة النسوية الشجاعة من الناشطات، ليقلن كلمتهن برفض الظلم والقمع وتشريع والتصويت على قوانين لا تحترم حقوق الإنسان، وقفن ضد التشريعات المجحفة بإنسانية المرأة والأطفال، ينادين بقوانين حديثة، وتعديل القديم منها بما يتناسب مع المتغيرات الاجتماعية والاقتصادية، أهمها حضانة الأم وقانون العنف الأسري و”قانون حماية الطفل من العنف” الذي يبدو أن البرلمان العراقي قد أجبر على وضعه على لائحة المناقشات لجلسته المقبلة، بطلب من السفيرة الأميركية إيلينا رومانسكي التي زارت نائب رئيس مجلس النواب، محسن علي أكبر نامدار المندلاوي، لمعرفة ما سيُناقش في الجلسة البرلمانية المقبلة.
معركة العراقيات من أجل الحقوق الإنسانية كبيرة وشرسة، وهي لكل المجتمع، وليست فقط للمرأة أو للطفل. إنها للأسرة ولمستقبل العراق ومستقبل أجياله، ونصر نسائه البطلات فيها هو نصر للعراق وشعبه.
المصدر: العربي الجديد