انتظرت بكين مرور عام على الغزو الروسي لأوكرانيا وعلى الحرب الضارية، لتقول إن لديها “أفكاراً” لإنهاء الحرب. تشاورت حصرياً حول النقاط الـ12 مع موسكو التي لم تجد فيها “خطة”، وكان واضحاً أنها تنتظر زيارة الرئيس الصيني لها لتبدي رأياً متكاملاً. وبعد ترحيب بروتوكولي من الأمم المتحدة بالتحرّك الصيني، ومواقف سلبية من التحالف الغربي، اضطر الكرملين أيضاً للترحيب به بعد تلكّؤ، وفي إطار أن “علاقة التعاون الروسي – الصيني مهمة للاستقرار الدولي”. وكانت لافتة مبادرة الرئيس الأوكراني إلى الترحيب استناداً إلى النقطة الأولى – “احترام سيادة جميع الدول” – قائلاً إن الاقتراح الصيني يُظهر على ما يبدو “أن هناك احتراماً لوحدة أراضينا”، وإذ لم يرَ فيه “خطة ملموسة” لإنهاء الحرب، فإنه سجّل ارتياحه إلى أن الصين “بدأت تتحدّث عن أوكرانيا، وهذا ليس بالأمر السيّئ”، مبدياً بدوره استعداداً للقاء الرئيس الصيني.
في غضون ذلك، راحت المواقف الغربية المشكّكة تتكاثر، بدءاً بالرئيس الأميركي الذي استخدم السخرية للتعليق على “الخطة الصينية” قائلاً إن الرئيس الروسي “يصفّق لها، فكيف يمكن أن تكون جيّدة”، فـ”ما من شيء مفيد فيها لأي أحد آخر”، لكنه اعتبر أن “فكرة أن الصين تتفاوض على نتيجة حرب غير عادلة بالنسبة إلى أوكرانيا، هي فكرة غير عقلانية”. أما الأمين العام لحلف “الناتو” فكان ردّه المباشر بأن بكين “ليس لديها الكثير من المصداقية، إذ لم تكن قادرة على إدانة الغزو غير الشرعي لأوكرانيا”. وفي أروقة الاتحاد الأوروبي ساد الحذر والارتياب، وقالت رئيسة المفوضية إنه يجب النظر الى النقاط الـ12 على خلفية أن الصين “منحازة بالفعل”، مذكّرةً بأن الصين وروسيا “طمأنتا بعضهما بعضاً إلى علاقتهما الوثيقة قبيل بدء الحرب”، في إشارة إلى بيان شي جين بينغ وفلاديمير بوتين (04.02.2022) بعد لقائهما على هامش الألعاب الأولمبية الشتوية في بكين، وقد نصّ على “شراكة بلا حدود (بين الدولتين) تمثّل بداية حقبة جديدة في العلاقة الدولية”.
الأكيد أن بكين لا تجهل أو تخشى أن الموقف الذي تموقعت فيه جعلها الى جانب روسيا في الغزو الذي تفهّمت دوافعه الاستراتيجية، كما في الحرب التي قدمت خلالها دعماً يخفف من وطأة العقوبات الغربية على الاقتصاد الروسي. بل إنها خطت إلى هذا الموقع عشية الغزو تحديداً، وأشهرت “الشراكة” بعدما تعرّفت إلى الأهداف المتعدّدة لبوتين من حشد قواته على الحدود الأوكرانية. لكنها حرصت طوال العام، أقلّه ظاهرياً، على إبداء شيء من التمايز عندما بالغ الرئيس الروسي في التهديد بالسلاح النووي، بل إن لقاء الرئيسين جو بايدن وشي جين بينغ خلال قمة العشرين في بالي ركّز على رفض استخدام النووي أو التهديد به. لذلك مال المحلّلون إلى الاعتقاد أولاً أن الصين توحي ببعض من النأي بالنفس وتبحث عن توازنٍ ما يلمّع مكانتها على الساحة الدولية، وثانياً بأنها تهيئ نفسها لدور وسيط لم تعد الولايات المتحدة أو الاتحاد الأوروبي قادرين على القيام به لوضع نهاية للحرب.
دُعيت بكين في أكثر من مناسبة إلى التدخل بمبادرة دبلوماسية إلا أنها التزمت التحفّظ والتكتّم، وقد تكون اختارت اللحظة الراهنة للتحرّك، لأن لديها، كما لدى أطراف غربية، هواجس وحسابات إزاء سنة حرب ثانية يراد لها أن تكون سنة حسم/ أو لا حسم عسكري للنزاع. لكن عندما وجدت أن ثمة ضرورة الآن للعب دور، وجدت أن حلفاء أوكرانيا الغربيين لا يميّزون بينها وبين روسيا، بل يضعونهما في الإطار ذاته. قد لا ترى بكين في ذلك شيئاً يضيرها، غير أن الولايات المتحدة ومجموعة الدول السبع أرسلت إليها تحذيراً باتفاقها على “إجراءات ضد الجهات الفاعلة في الدول الثالثة التي تقدّم الدعم المادي للحرب التي تشنّها روسيا”. وفي المقابل، بدت بكين متحسّبة لعقوبات قد تفرض عليها، إذ أُعلن أن الرئيس شي حثّ على تسريع وتيرة البحث العلمي الأساسي ليصبح معتمداً على نفسه في التكنولوجيات المهمّة “بسبب الحاجة الملحّة إلى مواجهة العقوبات” التي قد تفرضها واشنطن. وبطبيعة الحال، فإن بكين تريد تجنّب أي عقوبات، لأنها إذا لم تؤثّر مباشرة في اقتصادها فإنها ستتسبب بارتباكات هي في غنىً عنها مع شركائها التجاريين.
كان يُنظر إلى أي دور صيني على أنه “فرصة” للمجتمع الدولي الذي افتقد”وسيطاً” في الحرب القائمة، وأنه فرصة موجودة لكن مؤجّلة. ومع أن التحالف الغربي كان يتطلّع إلى هذه “الفرصة”، فإنه أحاطها بشروطه ومعاييره التي ظهرت في كل البيانات الرسمية، انطلاقاً من “وحدة الأراضي الأوكرانية” إلى وجوب الانسحاب الروسي إلى “محاسبة موسكو على جرائم الحرب”… كل ذلك لم يظهر في الأفكار التي عرضتها بكين، ولم تبدُ مقبلة، بحسب الرئيس الألماني، على لعب “دور بنّاء” لإنهاء الحرب. وتركّز التشكيك في مؤدّى النقاط الـ12 على كونها “غير جديدة” بل صيغت من مجمل المواقف الصينية الرمادية، وعلى أنها نوع من “التنظير الشيوعي” مقارنة بالخطورة التي بلغها الوضع الدولي، ثم أنها تتفادى المسائل الأمنية المعقّدة أو تؤجّلها للحوار الروسي – الأوكراني الذي جُرّب وفشل. وذهب بعض التحليلات إلى أن بكين وضعت في سلّة أفكارها كل ما دأبت على انتقاده في السياسات الأميركية – الغربية، من الدعوة إلى التخلّي عن “عقلية الحرب الباردة” إلى المطالبة بـ”وقف العقوبات من جانب واحد” وما يتفرّع منهما، إذ تعتبرهما نمطين متّصلين في استمرارية النظام الدولي الحالي الذي تتشارك مع موسكو السعي إلى تغييره… اعتماداً على حرب أوكرانيا.
أما بالنسبة إلى النقاط الـ12 الصينية، فمن الواضح أن أولاها (“احترام سيادة كل الدول”) لا تعني بالضرورة إدانة للغزو الروسي ورفضاً لنتائجه أو حتى المطالبة بانسحابه، بل إنها مجرّد مبدأ يمكن إعادة تعريفه بالتفاوض بين الطرفين المعنيين. أما النقطة 2 (“التخلّي عن عقلية الحرب الباردة”) فتقترح تغيير دور “الناتو” في الحرب، ليصبح ممكناً وقف إطلاق النار و”التوقّف عن الأعمال العدائية” (النقطة 3) و”استئناف محادثات السلام” (النقطة 4). أما النقاط الثلاث التالية فتُظهر للخبراء الغربيين أن بكين تعتبر المسألة الأوكرانية “أزمة إنسانية”… ويعني ذلك أن أي دور يمكن أن تلعبه الصين سيكون بمفاهيمها وعلى طريقتها ومن خلال رهاناتها على نجاح روسيا في تحقيق أهدافها.
المصدر: النهار العربي