في خضم حالة عدم اليقين الدولية، أصبح لدى دول الخليج القدرة على تحقيق توازن دقيق بين الشركاء القدامى والجدد.
تشكل الحرب الروسية- الأوكرانية، والقائمة الطويلة من الصراعات العالمية المحتملة التي تنتظر دورها في الاشتعال في تايوان، وبحر الصين الجنوبي وجزر الكوريل وكوريا الشمالية وإيران، جرس إنذار إستراتيجي لجميع دول العالم، مفاده أن النظام الدولي بعد هذه الحرب والصراعات المحتملة لن يكون كما قبلها، وان نظام متعدد الأقطاب بدأ يلوح في الأفق، وهو ما يحتم على الدول مراجعة حساباتها الاقتصادية وتحالفاتها السياسية، ومن ثم إعادة تعريف مصالحها الجيوسياسية للتكيف مع أوضاع جديدة قادرة على تأمين الاكتفاء الذاتي لاحتياجات ومتطلبات الدولة خلال أزمات عالمية معقدة، لا يبدو لها سقف زمني واضح، ولا عواقب واضحة ومحددة يمكن التحكم بها.
بالنسبة لدول الخليج العربي، ستكون عمليات إعادة التقييم هذه معقدة بشكل متزايد وذلك في ظل التطورات الجيوسياسية الراهنة للنظام الدولي، فهل يكفي التحالف مع الولايات المتحدة لتحقيق مصالح هذه الدول؟ أم تبدو الحاجة ملحة لتنويع التحالفات مع القوى الصاعدة كالصين وروسيا وغيرها في مجالات الأمن والطاقة؟ أم سيكون هناك خيار ثالث يتمثل في إمكانية إدارة توازن حساس ومعقد بين المصالح الامريكية من جهة، وبين المصالح الصينية والروسية من جهة ثانية؟ إذ يعتبر تحديد مسارٍ جديد للمرحلة القادمة أمرا في غاية الأهمية، لأسباب ليس أقلها إن دول الخليج تنتج 40 في المئة من إجمالي الطاقة في العالم.
قبل فحص هذه الخيارات، لا بد من تسليط الضوء على عدة استنباطات (منطقية)، ستدفع دول الخليج لإعادة تعريف مصالحها وتحالفاتها. أولا، لا تستطيع دول الخليج أن تتجاهل بوادر تحالف استراتيجي دولي كبير بدأ يتشكل عبر منظمة (شنغهاي)، يضم روسيا والصين وإيران والهند وباكستان ودول آسيا الوسطى. وبالمثل، تدرك دول الخليج أيضا أهمية الدورين الروسي والصيني في كبح جماح إيران في المنطقة، خاصة إذا انهار الاتفاق النووي (نهائياً) وتحولت إيران إلى نموذج كوري شمالي جديد في المنطقة.
وفي السياق ذاته، ما زالت الدولة الخليجية غير قادرة عن تبنى سياسة خارجية مستقرة كون مواقفها الدولية ما زالت غير محددة، وذلك بسبب حالة الانقسام السياسي في واشنطن، والتي أدت تناقضاتها وتذبذباتها إلى انعكاسات سلبية على الشراكة مع الدول الخليجية، حيث يخلق ذلك حالة من عدم اليقين بين تلك الدول بشأن الكيفية التي ستنظر بها الحكومات الأمريكية المتعاقبة إلى سياساتها.
علاوة على ذلك، لا زالت تداعيات الحرب الأوكرانية وعواقبها غير واضحة بشكل كامل ودقيق على الأمن والاقتصاد الدوليين، وخاصة في ظل تداعيات أزمة الطاقة وأسعارها العالمية. ومن ثم، لا تستطيع دول الخليج التضحية بزبائن نفطيين كبار على شاكلة الصين، كما لا تستطيع تجاهل دورها العالمي الجديد، وحجم نفوذها واستثماراتها في الشرق الأوسط، ومبادرتها لتغيير ملامح الاقتصاد العالمي المتمثلة في طريق الحرير. إضافة إلى إدراك دول الخليج أيضا أهمية تحالف (البريكس) الذي يضم الدول الأسرع نموا (اقتصاديا) حول العالم ممثلاً بروسيا والصين والبرازيل والهند وجنوب إفريقيا.
في ظل هذه الإدراكات الخليجية والظروف الدولية الراهنة والواقع السياسي على الأرض، ترتسم أمام صناع القرار الخليجيين جملة من الخيارات لتحديد ملامح التوجه الإستراتيجي الجديد لها في المرحلة القادمة. ومن ثم، تبدو عملية تنويع الشراكات الدولية لدول الخليج، خيار مناسب في السياق الدولي الراهن. ومع ذلك، تظل طبيعة ومضمون هذا التنويع قضية ملحة تحتاج إلى حل بالنظر إلى علاقة الخليج مع الولايات المتحدة. ومن ثم، يمكن لدول الخليج أن تمضي قدما في عقد شراكات استراتيجية مع الصين وروسيا وقوى صاعدة أخرى، وهو ما قد يتسبب في الحاق الضرر بعلاقاتها مع واشنطن، أو يمكن لها أن تبدأ بإنشاء علاقات تكتيكية ومشروطة مع تلك القوى مع الحفاظ في نفس الوقت على المستوى الاستراتيجي من الشراكة مع واشنطن.
في الواقع، يبدو أن الخيار الأخير سيسمح لتلك الدول بموازنة مصالحها الجيواستراتجية بين الولايات المتحدة من جهة وبين الصين وروسيا من جهة أخرى، وهو ما سيجنبها صعوبة إقناع واشنطن بجدوى تطوير شراكات استراتيجية مع الصين وروسيا. ومن ثم، فإن إنشاء شراكات تكتيكية ومشروطة لا ترتقي إلى مستوى إستراتيجي بين تلك الدول وبين الصين وروسيا، سيكون مقبولا بالنسبة لواشنطن، وسيكون أيضا مقبولا لكلا من الصين وروسيا اللتان تقدران العمق الاستراتيجي للعلاقات الامريكية- الخليجية.
في حالة اعتماد دول الخليج الخيار الثاني، فإنها يمكن أن تصبح بمثابة قناة تواصل وتفاهم وتوازن بين مصالح الولايات المتحدة، وبين مصالح الصين وروسيا في مختلف القضايا العالمية وأبرزها قضايا الطاقة والتجارة. وعلى وجه الخصوص، يمكن أن تلعب دولة الإمارات دورا عالمياً مهماً في إدارة التوازنات والمصالح الدولية في منطقة الشرق الأوسط على اقل تقدير نظراً لمكانتها الإقليمية المتميزة. كما يمكن للسعودية أن تعلب دورا أكبر في إدارة هذا التوازن بين المصالح العالمية، إذا ما طورت أجهزتها البحثية والدبلوماسية، وتبنت رؤية سياسة واضحة ومحددة ودقيقة لهذا الغرض. كذلك بإمكان قطر وعُمان أن تدير ملفات معقدة بين الولايات المتحدة وبين الصين وروسيا، نظرا لباعهم الطويل في مجال المفاوضات المعقدة، فقطر نجحت في إبرام اتفاق بين حركة طالبان والولايات المتحدة، بينما نجحت عُمان في عدة صفقات بين إيران والولايات المتحدة بما فيها الاتفاق النووي عام ٢٠١٥.
وبغية تحقيق هذا الغرض، لابد أولا من صياغة آلية محددة لدول الخليج لتتمكن من خلالها إدارة توازن حساس ودقيق بين المصالح الامريكية وبين المصالح الروسية- الصينية. وحتى يتحقق هذا التوازن ينبغي ألا يرتقي التعاون الدفاعي بين دول الخليج وبين روسيا والصين إلى معاهدة دفاع مشترك، والا يؤثر على منظومة التسليح الامريكية في دول الخليج، وخاصة منظومات الدرع الصاروخية. أيضا، يجب ألا يضر التعاون بين دول الخليج وبين روسيا والصين بالمصالح الأمريكية أو يمسها بشكل مباشر، أو يضر بمصالح حلفاء واشنطن، خاصة في ما يتعلق بأمن إمدادات الطاقة وأمن إسرائيل. يجب أيضا ألا يفضي التعاون مع الصين وروسيا إلى الهيمنة على منطقة الخليج، مما قد يؤدي إلى رد فعل من قبل البيت الأبيض أو الكونجرس. ومن الضروري بمكان أن تتوخى دول الخليج الحذر بحيث تنأى بنفسها عن الانخراط المباشر أو غير المباشر في صراعات روسيا ونفوذها حول العالم.
في المقابل على دول الخليج أن تطالب واشنطن بسياسة واضحة ومحددة ودقيقة تجاه قضايا الشرق الأوسط، على أن تكون خالية من التناقضات والتذبذبات التي تفرزها الإدارات الامريكية المتعاقبة سواء الجمهورية أو الديمقراطية. كما ينبغي ألا تتدخل واشنطن في تفكيك التزامات خليجية قديمة مع القوى الدولية الأخرى نظرا لما يترتب على ذلك من إضرار بالمصالح الخليجية. في السياق ذاته، بإمكان إسرائيل، وبموجب اتفاقيات السلام المبرمة إقليميا، أن تلعب دورا كبيرا في تقريب وجهات النظر الخليجية مع نظيرتها الامريكية حول بعض القضايا الإقليمية.
وأخيرا، وبدون أدنى شك، يمر النظام الدولي حاليا بمرحلة انتقالية مهمة ستفرز نظاماً جديداً اقل ما فيه انه سيكون نظام متعدد الأقطاب، فإذا ما تبنت دول الخليج رؤية مشتركة، وعملت على الحفاظ على التوازن بين قوى مثل الولايات المتحدة وروسيا والصين، ستصبح قادرة على تفكيك أزمات أمن الطاقة العالمية والتحولات الاقتصادية التي ستعقبها، وستكون قادرة على مواجهة أي تداعيات قد تنتج عن الانتقال إلى عالم متعدد الأقطاب. لذلك، يمكن لدول الخليج أن تحافظ على هذا التوازن وأن تفرض نفسها كفاعل دولي لا غنى عنه في استتباب الأمن العالمي إذا ما أتيح لها المجال في هذا الصدد.
د. فوزي الزبيدي هو خبير استراتيجي وباحث مقره دولة الامارات العربية المتحدة، وهو متخصص في عمليتي التحليل السياسي والتخطيط الاستراتيجي لسياسات الأمن القومي، ولديه خبرة معمقة في الشأنين العراقي والإيراني والقضايا ذات الصلة.
المصدر: معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى