لا أحد سيبكي حلمك

علي محمد شريف

منفيّون ولا منفى؛ فكل المنافي سجون. كان وطنهم معتقلاً فغدا مقبرة، مع ذلك فإنهم يحملون أوطانهم تميمة في صدورهم المختنقة بوجع الفقد والغياب؛ يسمّونه الأمل وقد يطرزونه بقصب الحلم، لكنه لا يغادر كونه سراباً يفضي إلى سراب.

كان فراراً من الجحيم، ليس بحثاً عن فردوس لم يعد له من وجود؛ ففي جغرافيا هذا التيه لا أحد ولا مكان لمن اقتلعت جذوره من رحم أمّه الأرض، إنما هي محاولة أخيرة يائسة للفوز بما يشبه الحياة، وللنجاة من مقصلة نظام فاشيّ يفتك بالأجنّة ويحصد أعناق الأطفال والنساء والعجائز والشيوخ.

مهجّرون وليسوا مهاجرين. لاجئون مستجيرون لا ضيوفاً ولا متطفلين ولا عابري سبيل، هذا هو حال السوريّين الهاربين بأجسادهم من فؤوس الغيلان البشرية، ومن شباك المتربّصين بمن نجى من أفخاخ القتل الرسمي، والرافضين لكل من يختزل أقدارهم وخياراتهم بالموت ذلاّ ورعباً وقهراً تحت بسطار الطاغية، أو الموت سحلاً في سراديب معتقلاته، أو الموت سحقاً وقصفاً بجنازير دباباته وبراميل حقده المتفجرة والقنابل الكيماوية والعنقوديّة.

لكنّ أرواحهم لا تزال تحوم هناك بين سماءٍ ملفعةٍ بدخان الحرائق والسارين؛ وبين أرضٍ حرثتها القذائف وبذرت في جوف رمادها الألغام والمفخخات كي تنبت مزيداً من الموت، لا شيء تبقى لهم مما كان؛ فالأشجار باتت نثار حطب متفحّم، وما بقي من أشيائهم فحطام يئنّ تحت الركام، أما البيوت المنهوبة فأنقاض نصبت فوق هامتها المشانق وأعلام تحمل صورة القاتل وتوقيعه واسمه المعلن.

وحدها ذاكرة المهجّر والنازح تصرّ على البقاء مصقولة ولامعة، تماماً مثل مرآة عتيقة من الفضّة، تصرخ به قائلة: لا ينبغي للسوريّ أن ينسى؛ إن وجوده يكمن في أن يبقي على هويته وانتمائه للمكان الذي أبى إلا وأن يحمل تفاصيله معه، وأن يبقي على وعيه بحتميّة العودة واسترجاع أرضٍ لن تكون لغيره. للتراب ألفته ورائحته العابقة بالنعناع والنرجس، وروحه التي لا تستعاد إلاّ في ضمّه ومعانقته والذوبان في مساماته.

ليست آلام الجسد ولا التعب ولا شظف العيش ما يرهق النازح والمهجّر، إنّه الشعور بالظلم والعجز وبالخيبة والخذلان ما يحرق القلب ويؤلم الروح، لقد ابتلع السوريُّ طُعم الهجرة وغرزت في حلقه الملتهب صنارة المتصيّدين، لقد بات التهجير القسري والاضطرار إلى اللجوء لعنة تطارد السوريّ أينما حلّت مراكبه، فمن رفضٍ لاستقباله إلى التضييق على إقامته وعمله وحركته وتنقلاته، وممارسة التمييز العنصري ضدّه، وصولاً إلى إساءة معاملته وابتزازه، بل حتى بعد حصول البعض على جنسيّة أخرى فإنّ أصوله السوريّة تجعله متّهماً، وتمنع عنه بعضاً من حقوق مواطنيته الجديدة في السفر والعمل والتمتع ببعض امتيازات المواطن.

مذرّرون كما الرمال، معلّقون على حبال من وهم تنسجها أصابع الرياح السوداء، لكنها الحبال تهترأ ويبقى الوهم، لقد أمسى اللاجئ أسيراً للوحشة والوحدة والشعور بالعري والافتضاح، بات كمن يحمل عاره وشماً على جبينه وخنجراً مسموماً في قلبه وفي كل بوصة من جسده، فماذا بعد؟ ما الذي تبقى للسوريّ ليقدّمه بعد اثنتي عشرة سنة من كافة أشكال الإبادة؟ ضاقت الأرض حتى أمست حفرة فاغرة شدقيها كي تتلقف من أفلت صدفة من مخالب الموت، وتكاد تيبس تلك الجذور التي تناهبت وجودها المنافي، ما الذي ينتظره السوريّ، وكم ليستيقظ من كابوسه الذي استطال كيما يلمّ شظايا قراره المبعثر؟ كم ليخرج من شرنقة الوهم ويعترف بحقيقة أن لا أحد سيسمع صوته المبدّد سوى ذاته الغارقة في وحل الضلال والخديعة، وألا أحد إلّاه سيبكي حلمه المضيّع بوطن حرّ لم يخلص له، ولم يسع لتحقيقه كالرجال؟

المصدر: إشراق

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى