اختصرت القيادات السياسية التركية سياستها السورية الجديدة بمطلب الحرب على المجموعات الإرهابية في الشمال والحؤول دون مخطط بناء كيانها السياسي المستقل هناك، وتسهيل حل مشكلة اللاجئين والنازحين وتفعيل مسار الحل السياسي في إطار قرارات مجلس الأمن الدولي وتحديدا القرار رقم 2254. القناعة التركية اليوم هي أن الطريق الأسهل والأقصر للوصول إلى ما تريد في الملف السوري يمر عبر التنسيق الأوسع مع موسكو في مواجهة التعنت والتصلب الأميركي وبعض العواصم الأوروبية التي تحاول محاصرتها بملف أزمات سياسية وأمنية واقتصادية، نتيجة التباعد الحاصل في رسم السياسات وتحديد المواقف والخيارات.
لم تكن الطاولة الثلاثية التي جمعت يوم الأربعاء المنصرم في موسكو وزراء دفاع تركيا وروسيا والنظام في دمشق إلى جانب رؤساء أجهزة الاستخبارات لتعقد على هذا النحو، ويواكبها هذا الكم الهائل من التصريحات والتسريبات، لو لم تنجح مفاوضات الأجهزة الاستخباراتية على خط أنقرة – دمشق التي انطلقت قبل أشهر، في تأمين الأرضية المطلوبة الممكن السير فوقها.
رفع مستوى الحوار مع دمشق من استخباراتي إلى عسكري ودبلوماسي وترك الباب مشرعا أمام احتمال لقاء قمة بين أردوغان والأسد، مسألة توقيت مرتبط بتقدم المفاوضات مع الكرملين وتراجعها فقط.
المسألة باتت أبعد من سلة الهدايا التي يقدمها الكرملين لأنقرة على مواقفها وخدماتها الاستراتيجية التي ساهمت في فك العزلة الدولية عن روسيا، ورد التحية التركية لبوتين الذي يريد فتح الطريق أمام حلحلة في ملف الأزمة السورية إرضاء لأنقرة.
ومع ذلك يبقى السؤال الذي يرضي البعض قائما: هل تنتقل الأمور إلى مرحلة التأسيس لبناء جديد في العلاقات بين أنقرة ودمشق يؤكد ما قيل حول تفعيل عمل آليات الحوار والتفاوض الأمني والعسكري والسياسي وجدول الأعمال المصحوب بخارطة طريق متعددة الأهداف والجوانب. أم أن ما يدور حالة ظرفية مرتبطة بمتطلبات المرحلة السياسية في تركيا وروسيا بسبب ملفات داخلية وخارجية؟
الإجابة على السؤال تتطلب طرح سؤال مقابل: هل بمقدور الطاولة الثلاثية الجديدة صناعة الحل في سوريا دون التنسيق مع اللاعبين الآخرين المؤثرين في المشهد السوري؟
تغيرت أولويات تركيا في سوريا اعتباراً من منتصف العام 2016 والمحاولة الانقلابية الفاشلة وإعلان العديد من القيادات السياسية التركية عن تورط عواصم غربية على رأسها واشنطن في هذه المحاولة. ارتدادات ذلك كانت باتجاه تقارب تركي روسي إيراني وانطلاق العملية العسكرية التركية الأولى “درع الفرات” في منتصف صيف 2016 وتفعيل آلية أستانا وسوتشي التي رسخت هذا التقارب الثلاثي. كرت السبحة في سياسة تركيا السورية ميدانيا وسياسيا دون أخذ أنقرة ما تريده في الملف السوري بسبب التموضع الجديد للعديد من الدول والعواصم في التعامل مع الملف، وتغير التحالفات الإقليمية هناك.
نجحت موسكو قبل عامين في جمع رئيس جهاز الاستخبارات التركي هاقان فيدان ومدير مكتب “الأمن الوطني” اللواء علي مملوك دون تسجيل أي اختراق حقيقي باتجاه التقريب بين أنقرة والنظام في دمشق. في العام 2021 كان وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو يردد “حوار سياسي مع دمشق غير ممكن. المجتمع الدولي لا يعترف بالنظام. المفاوضات اللازمة جارية على مستوى الخدمات الخاصّة والاستخبارات فقط وهذا أمر طبيعي”. لكن موسكو لم تتراجع عن وساطاتها بعدما اكتشفت حجم التحول في سياسات تركيا الإقليمية وحجم الانسداد في سياستها السورية. الخطوة الروسية الثانية كانت في تموز المنصرم من خلال طاولة حوار ثلاثي جمعت فيدان ومملوك من جديد، لكن وسط متغيرات واسعة في سياسة تركيا السورية وتحضيرات روسية مغايرة سهلت استمرار الحوار الاستكشافي والانتقال به إلى ما جرى في موسكو قبل أيام.
الأسد يريد. أردوغان يريد أيضا. كل طرف له أولوياته ومطالبه. بمقدور الدبلوماسية الروسية أن تصل إلى صناعة قواسم مشتركة ترضي الجانبين. لكن ذلك لا يعني بالضرورة الوصول إلى النهاية السعيدة في ملفات اللجوء والإرهاب والمنطقة الآمنة و”أضنة جديد” وإسقاط حلم “قسد” السياسي وسحب ورقة “داعش” من يد أميركا ودمج كل هذه الطبخة بقبول تنفيذ بنود ومواد قرار الأمم المتحدة رقم 2254.
وجدت أنقرة نفسها وحيدة بعد تدهور علاقاتها مع العديد من العواصم العربية والغربية التي كانت تنسّق معها في ملفات إقليمية بينها الملف السوري. فقررت قلب الطاولة وتغيير المشهد وتبديل سياستها السورية، وترك مطلب إسقاط الأسد أو رحيله جانبا. لا يعني ذلك طبعا أن نرى النظام وتركيا في خندق سياسي واحد حتى ولو التقت المصالح في التعامل مع “قسد”، لكنه سيعني أن قوى المعارضة السياسية السورية عليها أن تستعد لأكثر من مفاجأة واحتمال أبعد من “صدمة” موسكو الأخيرة.
تضاربت الأنباء حول زيارة الرّئيس الإيرانيّ إبراهيم رئيسي لدمشق والتي كانت متوقعة يوم الثلاثاء المنصرم لكنها لم تتم. يدور الحديث عن أنّ الزّيارة لا تزال قائمة، لكنها أُرجئت إلى موعد آخر لم يُحدَّد. حديث عن تباينات بين دمشق وطهران تتعلّق بمطالب إيرانية تثبت نفوذ طهران في سوريا. هل من علاقة بين قمة موسكو الأخيرة وبين الضغوطات الأميركية والإسرائيلية باتجاه قطع الطريق على النفوذ الإيراني هناك؟ وهل يعني ذلك أن واشنطن جاهزة لتفهم ما يدور على خط أنقرة – موسكو إذا ما حسمت مسألة إيران في سوريا؟
مقايضة أخرى قد تقلق قوى المعارضة السورية: “المدخل الرئيس إلى أيّ عودة سوريّة إلى الحضن العربيّ وانخراط الدّول العربيّة في إعادة إعمار سوريا هو تغيير النّظام السّوريّ لطبيعة العلاقة القائمة مع طهران” كما نقل أحد أهم مواقع الأخبار والتحليلات في لبنان عن مصادرها. ما يجري في موسكو قد يرضي هذه العواصم إذا ما كانت إيران هي من سيدفع الثمن.
الصفقات الكبرى في لعبة الكر والفر الإقليمي قد يتحمل الملف السوري ارتداداتها. والكرة في ملعب السوريين مرة أخرى.
وصف وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو المعترضين على خطوات موسكو الأخيرة حول التقارب مع النظام السوري بأنها مجموعات قليلة و”تحركت لمصالحها الخاصة”، معتبراً أن ممثلي المعارضة السورية لم يبدوا أي رد فعل. الوزير جاويش أوغلو يقصد هنا الائتلاف الوطني السوري والحكومة السورية المؤقتة والهيئة العليا للتفاوض التي تنسق مع أنقرة كما يبدو. لكن الرد جاء يوم الجمعة المنصرم من قبل “الفعاليات الثورية” في مدن وبلدات إدلب، والباب والأتارب وعفرين واعزاز وبلدات أخرى في ريفي حلب والرقة. ومن خلال مواقف “حكومة الإنقاذ” التي أعلنت أنها “ترفض وتستنكر أن يُقرر مصير الثورة السورية بعيداً عن أهلها”. وبيانات “المجلس الإسلامي السوري” التي ترى أن “المصالحة تعني أن يموت الشعب السوري ذلاً وقهرا”. و”حركة سوريا الأم” التي يقودها الشيخ معاذ الخطيب التي “تلقت ببالغ القلق أنباء التّحرّكات غير المسبوقة للجارة تركيا للانفتاح على النظام السوري، ظنّاً منها أن حل مشكلاتها المحقة في حماية أمنها القوميّ ومحاربة الإرهاب والحركات الانفصاليّة التي تنشط في سوريا يكمن في التعاون مع النظام”. وما ردده حسام ياسين قائد الفيلق الثالث في الجيش الوطني “سوريا لن تنعم بالاستقرار والقضاء على الإرهاب والمحافظة على وحدة ترابها وضمان عودة آمنة وطوعية للاجئين إلا بتنفيذ القرارات الأممية وتحقيق الانتقال السياسي الكامل ورحيل نظام الأسد”.
على قيادات وفصائل المعارضة السورية أن تقول ما عندها ليس بسبب مسار الحوار والتفاوض القائم بين أنقرة والنظام في دمشق فقط، بل بسبب الشعارات واليافطات التي رفعت في شمال سوريا: “من الآخر.. لن نصالح” و”انتفضوا لنعيد سيرتها الأولى”.
غيرت أنقرة في سياستها السورية لأنها شعرت أنها تفقد الكثير هناك وأن عملية استهدافها مستمرة وتحتاج إلى رد سريع وجذري. الكرة في ملعب السوريين أيضا ليقرروا كيف سيتحركون في المرحلة المقبلة، وما الذي سيفعلونه على ضوء التحولات والاحتمالات والسيناريوهات الجديدة في مسألة تعنيهم بالدرجة الأولى.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا