في منتصف أيام كأس العالم لكرة القدم في قطر فاز المنتخب المغربي بشكل مستحق بضربات الترجيح، ولعب بمهنية عالية بشهادة متميزة لمدرب الفريق الإسباني الذي خاض منتخبه المباراة، وهو ما أثار مشاعر حارّة تجاه المغرب لدى الشعب العربي من المحيط إلى الخليج، امتدّت إلى تركيا وماليزيا وإندونيسيا والجمهوريات الإسلامية في سابقة ستفرض تنظيم المونديال في قطر حدثا تاريخيا في الرياضة وحتى السياسة. لا أحد منا توقع ما حصل من المغرب إلى المشرق مع فوز المنتخب المغربي من فرحة وابتهاج وبكاء ورقص واحتضان الناس بعضهم بعضا في الملعب والشوارع والمقاهي والبيوت والتجمّعات، وفي خيام العراء السورية والعراقية، فرحة هزّت السعودي والعراقي والسوري والجزائري والليبي والمصري. وبينما غنّت الجماهير المشجّعة ورقصت على أنغام الغناء المغربي وفرقه الفنية التي حضرت إلى الدوحة، لتشجيع فريقها في سوق واقف، كانت صرخات الفرح والسرور تعم العواصم والمدن العربية، قفز الكبير والصغير رجالا ونساء فرحين، سمعنا زغاريد العراقيات وتكبيرات الناس في مقاهي بغداد، ورأينا صلاة الشباب السوري وهم يبكون فرحا في المقاهي، ويعانقون رفاقهم، وفرح الشباب الفلسطيني وهم يرفعون العلم المغربي، مثلما نزل جزائريون للشوارع يغنون لفوز المغرب، وهو ما فعله التونسيون والليبيون واليمنيون واللبنانيون في بلدانهم. ليس ذلك فحسب، بل نزلت الجماهير العربية تحتفل في الشانزليزيه في باريس وفي مركز لندن وفي بلجيكا وألمانيا بشكل واسع، إذ هبط آلاف من الشبان والشابات من باريس وضواحيها وامتلأ الشارع الأشهر في العالم بهم، يغنون ويرقصون بعضهم مع بعض من كل الدول العربية، ليذكّرنا هذا اليوم بيوم فوز فرنسا التاريخي بكأس العالم وضربات اللاعب زين الدين زيدان، وتعليق صورته على قوس النصر احتفاءً به.
لم يكن مشهد الشعب العربي الفرح والموحد في عواطفه ومشاعره بعفوية بهذا النصر الكبير هو الوحيد الذي ميز مباراة المغرب مع إسبانيا، لكنه كان حاضرا في مباراة الفريق السعودي الذي سجل حدثا وانتصارا تاريخيا على الفريق الأرجنتيني وعلى اللاعب الأشهر ميسّي، وفي مباراة المنتخب التونسي الذي تميز بأداء مشهود أظهر فريقه قدرة ومهنية كبيرة، رغم خروجه من التصفيات. أما قمّة المشاعر غير المنتظرة، حتى لنا نحن العرب في هذا المونديال، فجسّده حضور البلد 33، بحسب تسمية صحيفة نيويورك تايمز، أي فلسطين، في كأس العالم، في إشارة إلى رفع مشجعين ولاعبين عرب عديدين العلم الفلسطيني، وهو ما لم يكن في حسبان الدول الغربية ولا دولة الاحتلال في هذا المونديال.
لقد أبهرنا المشجعون العرب واللاعبون الذين رفعوا علم فلسطين، وهم شباب في عمر الزهور، بعضهم من الأمازيغ، ولدوا وترعرعوا في أوروبا يحملون جنسيات بلدانهم، جعلونا نبكي للمشاهد والدروس التي قدّموها لكل العرب وللغرب، لأصالة مواقفهم وشجاعتهم ووعيهم، وبهذا الالتزام والذكاء، في مواجهة الغطرسة الصهيونية والمركزية الغربية المستمرّة في التعامل مع دولنا وقضايانا، حين أحضروا معهم أعلام فلسطين ليرفعوها بشكل دائم، في الملعب أو في تجوالهم وتصويرهم، وأول هؤلاء المشجعين الذين لا يخرجون من دون العلم الفلسطيني في أي مكان إخوتنا في المغرب العربي. وذلك في حين كانت أجهزة الإعلام الغربية تدير كاميراتها بعيدا عن الأعلام الفلسطينية الكثيرة التي عجت بها الملاعب، خوفا من توبيخ أو عقوبة أو اتهام باللاسامية تنالها من مسؤوليها ومن غيرهم.
لقد أرادت دول غربية لبطولة كأس العالم في قطر أن “لا تكون حدثا” ينشغل به الإعلام الغربي وشعوب أوروبا، بل إنها عملت كل ما في وسعها لإفشالها عبر ابتزاز السياسيين لمنع بث المباريات عبر شاشات في ميادين مدنهم، كما في فرنسا، والضغط على جزء من الإعلام والصحافيين لعدم تغطية مبارياتها والامتناع عن الذهاب إلى الدوحة، لكن السحر انقلب على الساحر، إذ تغطّي الصحف العالمية الكبرى ما يجرى في قطر، خصوصا من إحباط الإعلام الإسرائيلي الحاضر لتغطية المباريات الذي عجز صحافيوه عن إجراء مقابلة واحدة مع عربي يقبل أن يدلي بتصريح لجهاز إعلامي إسرائيلي، حتى أن الصحافي راز شيشينك من “يديعوت أحرونوت” كتب أن تجربته في قطر أنهت أي أمل بتحسين علاقات دولة الاحتلال مع الشعوب العربية. كما أن صحافيا ثانيا فقد الأمل في نقل أي تفاعل من المشجعين العرب في المونديال والمباراة إلى حد أنه فقد أعصابه، وبدأ في التلاسن مع الشباب العربي الذين رفعوا الأعلام الفلسطينية أمام الكاميرا، ورفضوا نطق اسم دولة الاحتلال وأصروا على قول إنها فلسطين.
لم يكن رفع الجماهير العربية العلم الفلسطيني في المونديال عملا عفويا، إنه رد على الهجمة الشرسة التي شنتها بعض الدول الغربية مجتمعة، ومنظومتها الفكرية التي تحاول منذ عقود فرض نظام عالمي جديد، على استضافة قطر مباريات كأس العالم. وبالأخص هو رد على دولة الاحتلال ومؤسساتها العسكرية العنصرية الغاشمة، وعلى الحروب المستمرة على شعبنا الفلسطيني وسرقة أرضه وتهجيره، وعلى حصار غزة وأهلها، بأننا نحن العرب نرفضكم. لقد قادت جماهير المغرب العربي المشجّعة لمنتخباتها العرب ليقولوا للعالم كلمة واحدة “لا تصالح ولا تطبيع”. وممن فهموا الرسالة التي بعث بها شباب العرب وشاباتهم صحيفة جيروزاليم بوست التي لم تخطئ عندما خرجت بعنوان “القومية العربية حية وبصحة جيدة في مونديال الدوحة”. والطريف أن فيديو أظهر صحافية أوروبية تسأل طفلا قطريا، ربما في العاشرة من عمره، عن رأيه في منع رفع شارة المثليين، فأجابها: لماذا لا تدافعون عن الفلسطينيين؟ فصدمتها الإجابة.
هذه الصحّة الجيدة التي ظهر بها العرب في مونديال قطر أمام العالم أجمع، وبالأخص أمام أجيالهم الصاعدة، ليست أمرا بسيطا، فهي رسالة وجود وتصميم وإصرار على المطالبة بالحق وعدم التنازل عن الأرض والقضية التي ظهر أنها الشاغل الأول لشبابٍ يتصور الغرب أنهم غير مهتمين، مع تقادم الزمن، وفرض التعتيم الإعلامي عالميا، بقضية احتلال فلسطين، وبأن هذه الأجيال مهتمة أكثر بذاتيتها وتحقيق ملذاتها وطموحاتها الفردية، كما يتم تسويقه مع النظام العالمي، لكنهم صدموا بتوجهات الشبان والشابات من كل الأقطار.
يمكن القول إن دورة كأس العالم الحالية ناجحة لدولة قطر التي شهدت، بمناسبة إقامتها، تنفيذ مشاريع كبرى في البناء والاستثمار وتطوير البنى التحتية وتحديث التكنولوجيا بكل ما هو جديد، وبناء المجمعات السكنية، وتوفير مزيد من الخدمات لمواطنيها. أما النجاح الآخر فهو أن الفرق العربية المشاركة قد تميزت في مبارياتها، ولا سيما مع وصول المنتخب المغربي إلى ربع النهائي، وهو ما يحدث لأول مرة في تاريخ كأس العالم لكرة القدم. والأهم هو نجاح المشجّعين العرب في إيصال رسالة مهمة جدا إلى العالم برفض التطبيع مع الكيان الصهيوني، وإعادة صدارة القضية الفلسطينية في الإعلام العالمي، بعدما فرض الكيان الصهيوني على أوروبا وأميركا الصمت عنها، وعدم تناول أخبارها، فعادت كبريات الصحف الغربية إلى الكلام عن فلسطين وحضورها الكبير في المونديال.
المصدر: العربي الجديد