على وقع أصوات القصف التركي على مواقع قوات سوريا الديمقراطية (قسد) شمالا، تتواتر أنباء تربط إمكانية تنفيذ العملية العسكرية البرية التركية المحتملة أو وقفها بما ستكون عليه مواقف قوى أخرى متدخّلة في الشأن السوري، سيما روسيا والولايات المتحدة، من الشروط التركية. وقد جاء تصريح قائد “قسد”، مظلوم عبدي، عن أمله في أن تمنع الولايات المتحدة العملية التركية، وتأكيده وجود تنسيق بين روسيا والنظام السوري في هذا الشأن، ليفتح نقاشاً قديماً متجدّداً عن تعقيدات المسألة الكردية، وتداخلاتها الإقليمية والدولية.
في خمسينيات القرن الفائت، وعلى أرضية التنافس الأميركي السوفييتي على النفوذ في الشرق الأوسط، وجد الأكراد أنفسهم في خضم صراعات معقّدة، جعلت منهم حلفاء فاعلين لقوى إقليمية أو دولية حيناً، وأدوات تحرّكها تلك القوى، في غالب الأحيان، ضمن أجواء متوتّرة فرضتها الحرب الباردة. ولم يعد موضوع الأكراد شأناً يخصّهم وحدهم، إذ بات لكلّ تطوّر فيه تداعياته على السياسات الإقليمية والدولية في المنطقة. هذه الامتدادات والارتباطات الخارجية للأحزاب الكردية، وتحالف بعضها مع دول فاعلة في المنطقة أو عداؤه لها، كان من أبرز أسباب خلافاتها وحتى انشقاقاتها، التي لا تخلو من صراع على الزعامة. أتاح ذلك لبعض دول المنطقة استخدام الأكراد في صراعاتها البينية، أو ضرب بعضهم ببعض، وإضعافهم من أجل السيطرة عليهم وكبح طموحاتهم.
بوجه عام، كان نشاط كل من الأحزاب الكردية منصبّاً على الدولة التي تأسّس فيها، لكنّ المشهد تغيّر مع ظهور حزب العمال الكردستاني، بزعامة عبد الله أوجلان، فنشاط هذا التنظيم لم يقتصر على الأراضي التركية، التي شهدت تأسيسه وانطلاق عملياته الأولى، وراح يتوسّع باتجاه إيران وشمال العراق، فضلاً عن تمدّده في الأراضي السورية. وعلى هذا، أصبح طرفًا في “أزمة” سياسية وأمنيّة مزمنة تتعلّق بدول عدّة، ومارس أدواراً أرخت بظلالها على علاقات تلك الدول في ما بينها.
كانت علاقة أوجلان الوثيقة مع النظام السوري من المحدّدات الأساسية في تحركاته الإقليمية. لكنّ هذا لم يشفع له حين خضع حافظ الأسد للضغوط التركية، على خلفية تلك العلاقة، فقرّر إبعاده عن سورية، في أكتوبر/ تشرين الأول 1998، لنزع فتيل حرب وشيكة، وانتهى المطاف بأوجلان، بعد ثلاثة أشهر، معتقلاً في السجون التركية. لم يتوقّف نشاط أنصار الحزب ومحازبيه في سورية، على الرغم من طرد زعيمهم، فقد تأسّس تنظيم كردي سوري باسم حزب الاتحاد الديمقراطي سنة 2003، بدا واضحاً أنّه امتداد للحزب الأوجلاني، سواء لجهة استقطابه أنصار حزب العمّال في الأوساط الكردية السورية وتنظيمهم في صفوفه، أو من خلال أدبياته ونظامه الداخلي، الذي جعل من بين مهام أعضاء الحزب “النضال من أجل حرية القائد عبد الله أوجلان”.
بعد الثورة السورية، برز دور حزب الاتحاد الديمقراطي بقوّة، حيث سيطرت المليشيا المسلّحة التابعة له، في صيف عام 2012، على مدن وبلدات شمال شرقي سورية، التي انسحبت منها قوات النظام، وشكّل جهازاً للشرطة والأمن الداخلي، وأعاد تنظيم مقاتليه ضمن “وحدات حماية الشعب” و”وحدات حماية المرأة”، فيما رُفِعت صور أوجلان والأعلام الحزبية على المباني الحكومية، مكان صور الأسد ورموز نظام البعث. بعدها، أعلن “الاتحاد الديمقراطي” تأسيس “الإدارة الذاتية الديمقراطية لشمال وشرق سورية”، ما أثار حفيظة تركيا، لأن هذا التطور يعني، عملياً، سيطرة تنظيم، تقاتله منذ أكثر من 40 عاماً، على مناطق واسعة متاخمة لحدودها. لكنّ النظام السوري اتخذ موقفاً ملتبساً، مازجاً بين القبول الضمني على مضض، وإجراء مفاوضات مع ممثلي “الإدارة الذاتية”، وبين العداء الصريح والتحريض الإعلامي، وصولاً إلى اشتباكات دامية بين الجانبين بصورة متكرّرة.
تعزّزت سلطة “الاتحاد الديمقراطي”، ومن خلفه “العمّال الكردستاني” في سورية، بظهور تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” وتشكيل الولايات المتحدة تحالفاً دولياً لمحاربته. ذلك أنّه عملاً بسياسة إدارة الرئيس الأميركي الأسبق، أوباما، في محاربة الإرهاب، والتي تقوم على دعم مجموعات محلّية وتسليحها عوض إرسال قوات أميركية على الأرض، ازداد اعتماد الأميركيين على المقاتلين الأكراد في مواجهة “داعش”، وضمّوا إليهم مجموعات عسكرية من العرب والسريان وغيرهم، ضمن تشكيل عسكري أُعلن عنه في أكتوبر/ تشرين الأول 2015، باسم “قوات سوريا الديمقراطية”. ورغم التوتر بين حليفَي الولايات المتحدة (تركيا و”قسد”)، إلا أنها حرصت على التنسيق مع كليهما، عندما تقتضي الترتيبات الأمنية ذلك.
واليوم، مع انكفاء واشنطن المطّرد وحرصها على التهدئة، نظراً إلى غياب تصوّر واضح لها في الملفّ السوري، وفي ضوء الانشغال الروسي في الورطة الأوكرانية، إضافة إلى بوادر الانعطافة في العلاقة بين أنقرة والنظام السوري، ومصلحتهما المشتركة في استعادة قوات النظام السيطرة على مناطق شمال شرقي سورية الغنية بموارد الطاقة، والتي باتت دمشق في أمسّ الحاجة إليها، تبدو الخيارات جميعها في غير صالح “قسد” وسلطة “الإدارة الذاتية”، ولا شيء يضمن استمرارهما في صيغتهما الحالية، فهل تسوّى الأمور عبر وساطة الحلفاء، أم أنّ جولة من الدماء والدمار العبثي توشك على البدء؟
المصدر: العربي الجديد