تحولت العاصمة التركية أنقرة إلى قبلة للمبعوثين الروس والأميركيين خلال الايام الأخيرة، حيث يحاول كل طرف إقناع الأتراك بما لديه من عروض ليس فقط من أجل الاستغناء عن العملية العسكرية البرية التي يهددون بشنها ضد قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، بل وربما أبعد كما تشي بذلك التطورات في الملف السوري.
التصريحات التركية الأخيرة التي أدلى بها مصدر رسمي لقناة الجزيرة، والتي تحدثت عن مبادرات من واشنطن وموسكو لثني تركيا عن تهديداتها، كشفت عن ارتفاع حماوة البازار السياسي بين جميع الأطراف الفاعلة في الملف السوري الذي يشهد منذ فترة ليست بالقليلة عروض مكثفة بين تلك الدول، ربما تعود بداياته الى قمة طهران بين قادة مسار أستانة في 19 تموز/يوليو، والتي انتهت برفض العملية العسكرية البرية التي كانت تركيا تلوح بها آنذاك واقتراح خيارات أخرى على مقاس مصالح روسيا وإيران.
ولئن كان صانع القرار التركي يسعى من خلال تنفيذ العمليات العسكرية داخل الأراضي السورية لإقامة حزام أمني من الغرب الى الشرق على طول الحدود، وهذا مطلب متكرر دوماً على لسان الرئيس التركي والكثير من المسؤولين في حكومته، ولئن كان هذا المطلب هو الأهم لأنقرة على أبواب الاستحقاق الانتخابي في حزيران/يونيو 2023، إلا أنه غير مقبول تمريره بالنسبة لأطراف الصراع الأخرى، دون تحصيل مكاسب من الجانب التركي وتحقيق أهدافها التي تحتاج مساعدة أنقرة، سواء في الملف السوري أو في ملفات أخرى متداخلة، مستغلة الحاجة الملحة للقيادة التركية لتوجيه ضربة موجعة لعدوها اللدود حزب العمال الكردستاني وأذرعه، بعد التفجير الإرهابي الذي نفذه التنظيم في إسطنبول منتصف تشرين الثاني/نوفمبر.
التصريحات التركية الأخيرة اعطت مؤشر واضحاً على أن الملف السوري ليس مهملاً في أدراج الدول، ولا ملفاً خاملاً بالنسبة لها، بل قضية نشطة وورقة رابحة يحاول كل طرف مساومة الأطراف الأخرى عليها.
التنافس على كسب “التركي” بين الولايات المتحدة وروسيا لم يبدأ حديثاً كما هو معلوم، بل انطلق على الأقل مع بداية الغزو الروسي لأوكرانيا، بينما ظلت أنقرة تراوغ بين الغرب والشرق وإن أظهرت باستمرار أنها إلى الشرق أميل وأقرب.
ولعل أبرز مظاهر هذا الميل هو تصريح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بضرورة انسحاب القوات الأميركية من سوريا، عقب قمة أستانة في تموز، في موقف يتبنى الطرح الروسي-الإيراني على الجانب التركي بالتعاون للتضييق على الولايات المتحدة في سوريا، مقابل مساعدة أنقرة في القضاء على قسد، والتي باستقوائها بالتحالف الدولي باتت، في الوقت نفسه، مصدر إزعاج وتهديد لقوات النظام ومراكزه الأمنية في مربعاته المحاصرة في القامشلي والحسكة.
كانت تركيا في تلك اللحظة تعلن أنها تنحاز للمشروع الروسي في سوريا، وعملياً بدأت تنفذ خطوات تترجم بها موقفها هذا من خلال التوجه للتطبيع مع نظام الأسد، ومطالبة المعارضة المتحالفة معها بالتفاوض مع النظام من أجل الاتفاق على حل يفضي إلى حكومة وحدة وطنية، أي تماماً كما تريد موسكو وطهران اللتان منحتا أنقرة الحق في توسيع وتكثيف هجماتها الجوية ضد حزب العمال في مناطق نفوذهما غرب الفرات وشرقه.
لكن تفجير إسطنبول الأخير، والمطالبة بتنفيذ العملية العسكرية بسبب عدم تنفيذ اتفاق سوتشي 2019، أوضح أن لدى أنقرة خيارات أخرى يقدمها لها الطرف الأخر، وظهرت بشكل واضح من خلال توغل الطيران التركي في المجال الجوي الأميركي في ريف دير الزور حتى عمق 70 كيلومتراً لاستهداف قسد.
الجانب الروسي الحريص أكثر من أي وقت مضى على علاقته مع الجانب التركي حاول امتصاص الغضب التركي واقناعه بالاستمرار معه، طرح حلول بديلة عن العملية البرية، بينها مبادرة تنص على انتشار قوات النظام مكان قسد في تل رفعت ومحيط منبج تحديداً، أو على الأقل نشر مقاتلين من الفيلق الخامس التابع لروسيا.
الجانب الأميركي أخرج ما في جعبته أيضاً، وكان لديه مبادرات هو الآخر بالتزامن مع تصريحاته الرافضة للعملية البرية. ولذلك أوفد جيمس جيفري، الممثل السابق للرئيس الأمريكي بشأن سوريا، والذي يعتبر الشخصية الأكثر قبولاً لدى أنقرة، ليلتقي بوزير الدفاع التركي خلوصي أكار في محاولة ربما لإحياء خارطة الطريق التي رسم معالمها هو نفسه عام 2018 بخصوص مدينة منبج.
هذا أمر لا يمكن تجاهله عند محاولتنا توقع ما يمكن أن يحمله جيمس جيفري في هذه الزيارة، إلى جانب ما تم تداوله عن مقترح مقابل للمقترح الروسي بخصوص نشر قوات الفيلق الخامس في المناطق التي تريد تركيا من قسد مغادرتها، حيث توقع البعض أن يعرض المبعوث الأميركي نشر مقاتلين من قوات جيش سوريا الحر المتواجد في منطقة التنف والمدعوم أميركياً (جيش مغاوير الثورة) محل قوات قسد على الحدود.
وبينما نستطيع بأريحية توقع أن يكون جيفري يربد إحياء اتفاق منبج، فإن الحديث عن نشر قوات جيش سوريا الحر، أو ما يطرحه الروسي بخصوص مقاتلي الفيلق الخامس، تبدو فكرة غير منطقية ولا يمكن تطبيقها لعدة أسباب أهمها:
أولاً: لا مقاتلي الفيلق الخامس، ولا مقاتلي جيش سوريا الحر قادرون عسكرياً على تغطية جبهات تمتد على مساحة ما يقارب 400 كيلومتراً، بين مدينة منبج باتجاه المالكية، وليس لديهم الكوادر البشرية لتغطية هذه المنطقة التي تحتاج الى 6 فرق عسكرية بكامل قوامها وجاهزيتها لتغطيتها. وهنا لابد من التوضيح أن هذه المناطق كانت محكومة أمنياً عندما كانت تحت سيطرة النظام، وكان الاتفاق التركي السوري بأن يكون تأمين حماية الشريط الحدودي أمنياً وعسكرياً على عاتق الجانب التركي، فيما يقع على الجانب السوري فقط إمداد الشريط الحدودي بالكهرباء وانارته دون أي تواجد لجيش للنظام أو حتى عناصر الهجانة.
ثانياً: إن عناصر الفصيلين المطروحين كبديل عن قسد لا يملكون الخبرة الكافية ولا الإمكانيات التي تخولهم القيام بهذه المهمة، وليسوا من أبناء هذه المناطق ويجهلون طبيعتها الجغرافية والاجتماعية.
ثالثاً: إذا اعتبرنا أن تركيا يمكنها الوثوق بالفيلق الخامس التابع لروسيا، إلا أن قسد من غير المتوقع أن تثق به وهي تعلم أن الكثير من عناصره تتبع للفرقة الرابعة والأمن العسكري، وإذا افترضنا أن فصيل جيش سوريا الحر موثوق بالنسبة لقسد، على اعتبارهم يعملون تحت قيادة التحالف الدولي، فإنه من المؤكد عدم موثوقيته بالنسبة للجانب التركي، وهذا ما يجعل تنفيذ تلك المقترحات شبه مستحيل.
من المؤكد أن تركيا على دراية كافية بمراوغة وخداع الطرفين الروسي والأيميركي وعدم إيفائهم بتعهداتهم السابقة، سواء أكانت اتفاقية سوتشي 2019 أو التفاهمات الميدانية بين أنقرة وواشنطن التي هندسها الضيف الأميركي الذي اعتادت واشنطن على ارساله حين تتأزم العلاقة بين الدولتين لاحتواء الموقف، ولذلك فهي تريد إفهام الطرفين أنها ترغب أولاً وقبل كل شيء بتحقيق مصالحها وحفظ أمنها القومي إبعاد التنظيمات التي تعتبرها إرهابية عن حدودها، سواء عبر عملية عسكرية او اتفاق مع أميركا وروسيا يحقق لها ذلك، ومهما كان مشروع الدولتين المتنافستين في سوريا أو خارجها.
لا يمكن توقع أي مشروع ستتبنى تركيا في النهاية، وإن كانت أقرب للروسي منه إلى الأميركي بسبب دعم الولايات المتحدة لعدوها التاريخي التنظيمات الكردية الراديكالية، فإن يقينها أن الحلول النهائية تبقى بيد واشنطن سيكبح من جماح اندفاعها باتجاه موسكو ومشروعها في سوريا، لكن يبقى كل شيء معلقاً بانتظار ما سيتكشف من زيارة جيمس جيفري والوفد الروسي إلى أنقرة.
المصدر: المدن