لا يزال لدى النظام الإيراني وسائل إضافية لجعل حملة القمع التي يقوم بها أكثر فتكاً، ومن المحتمل أن تكون بعض أرجاء البلاد مستعدة لحمل السلاح رداً على ذلك، مع تداعيات غير مؤكدة على الأرض.
مع دخول الانتفاضة الشعبية الواسعة النطاق في إيران أسبوعها الثاني عشر، يعزّز النظام جهوده ليبرر أيديولوجياً استخدام العنف المطلق ضد الحركة الاحتجاجية. فما هو الفرق بين هذا العنف وتكتيكات النظام القمعية السابقة، وهل ستدفع بالمحتجين إلى الردّ بالمثل؟ لقد أفادت مجلة “تايمز” مؤخراً أن الحراك الحالي يضمّ في صفوفه الكثير من الإيرانيين الشباب “المتعلمين والليبراليين والعلمانيين… والمتعطشين للحياة الطبيعية”، لذا قد يكون من الصعب تصوّر تحولهم نحو الكفاح المسلّح. ولكن من المتوقع أن يشهد الوضع تصعيداً نتيجة عوامل متعددة: جو المواجهة غير المسبوق في وجه النظام؛ واستعداد المحتجين المثبت للردّ بخطوات دفاعية عنيفة في بعض الأحيان (يدعي النظام مقتل أكثر من ستين من أفراد الأمن التابعين له وإصابة عدد أكبر بجراح أثناء مواجهة المتظاهرين)؛ عدم استعداد طهران الواضح للنظر بجدية في مطالبهم السلمية؛ وتعدّد الخيارات الفتاكة والقمعية التي لم تلجأ إليها بعد قوات النظام.
الأشكال العديدة لعنف النظام
على مدى العقدين الماضيين، شهدت الجمهورية الإسلامية انتفاضات شعبية بوتيرة متكررة، أولاً في عام 1999، ثم مجدداً في 2009 و 2017-2018 و 2019. ولمواجهة الموجة الحالية، تستخدم السلطات الكثير من التكتيكات نفسها التي لجأت إليها في الجولات السابقة.
حين اندلعت الاحتجاجات للمرة الأولى في أيلول/سبتمبر من هذا العام، عوّل النظام على “قوة إنفاذ القانون” التي غالباً ما يشار إليها ببساطة بـ”الشرطة”. وتمّ تكليف “وحدات الحرس الخاصة” التي تستعمل الدراجات التابعة لهذه الوكالة وعناصر أخرى بإحداث فوضى في المظاهرات، واعتقال المتظاهرين، وضرب الناس (أحياناً حتى الموت)، وتفريقهم باستخدام مزيج من الهراوات، والغاز المسيل للدموع، والقنابل الصوتية، وكرات الطلاء، والخردق، والرصاص الحيّ. وفي حالات كثيرة، تمّ إطلاق ذخائر غير مميتة على وجوه الناس من مسافة قريبة، مما زاد بشكل كبير من قدرتها الفتاكة. ولا تزال تكتيكات “قوة إنفاذ القانون” مستخدمة حتى اليوم.
وعندما عجزت الشرطة عن حسم الأمور، استقدم النظام وحدات مدربة على نحو خاص للسيطرة على أعمال الشغب من ميليشيا “الباسيج” المنتشرة على نحو واسع، ولا سيما ألوية “الفاتحين”، و”الإمام علي”، و”الإمام الحسين”، و”بيت المقدس”، و”عاشوراء”. وأعقبتها وحدات وُصفت بأنها “كتائب العمليات الهجينة التابعة لـ «الحرس الثوري الإسلامي»/الباسيج”، في إشارة إلى تعاون محلي أوثق بين قوات الميليشيات و«الحرس الثوري».
بالإضافة إلى ذلك، بدأت عناصر مهمة من “وزارة الاستخبارات” وغيرها من أجهزة الاستخبارات في العمل جنباً إلى جنب مع “قوة إنفاذ القانون”، وارتدت عادة الثياب المدنية من أجل الاندماج بشكل أفضل مع المحتجين، أو تحديد الأهداف المحتملة، أو القيام بالاعتقالات، أو ارتكاب عمليات القتل من مسافة قريبة (سواء كانت مستهدفة أو عشوائية). واستخدمت قوات “الباسيج” هذا التكتيك أيضاً. كما أظهرت مقاطع الفيديو التي صوّرها المواطنون كيفية إطلاق القناصين المزروعين على الأسطح أو جنود «الحرس الثوري» المدججين ببنادق حربية النار على الناس سواء على الأرصفة أو في سياراتهم. والهدف الرئيسي هو ترهيب المتظاهرين لحملهم على مغادرة الشوارع على الفور، ولكن من المعروف أن هذه التكتيكات المستهدفة تصاعدت إلى عمليات قتل جماعي في الماضي (على سبيل المثال، “مجزرة ماهشهر” في تشرين الثاني/نوفمبر 2019). كما شهدت قوات النظام تخريب المنازل والشركات، وإطلاق النار من السيارات، وخطف النشطاء بعد التعرف عليهم عبر طائرات مسيّرة أو مقاطع فيديو من دائرة مغلقة (والتي يمكن مراجعتها الآن باستخدام برنامج التعرف على الوجه بواسطة الذكاء الاصطناعي)، والاعتداء الجنسي على المعتقلين قبل إطلاق سراحهم (ذكور وإناث على حد سواء).
وكملاذ أخير، يمكن لـ «الحرس الثوري» الإيراني إرسال وحدات قتالية أساسية بأسلحة أثقل، بما في ذلك الدبابات وناقلات الجند المدرعة. وقد تقوم هذه العناصر بإجراء ما يسمونه بـ “مسيرات التخويف” عبر المدن والبلدات، أو حتى إطلاق النار على المتظاهرين، وخاصة أولئك الذين يقتربون من القواعد العسكرية أو المباني الحكومية. وقد ساعدت أساساً المروحيات والطائرات المسيرة التابعة لـ «الحرس الثوري» في نقل أفراد الشرطة وتعقب “مثيري الشغب”. بالإضافة إلى ذلك، يتمتع «الحرس الثوري» بصلاحيات أيديولوجية ودستورية لإلحاق خسائر أكبر بالمحتجين. ففي 5 كانون الأول/ديسمبر، على سبيل المثال، أفادت بعض التقارير أن «الحرس الثوري» أصدر بياناً وضح فيه أنه لن يتم تقديم المزيد من التنازلات بشأن معاملة المتظاهرين، الذين وصفهم بأنهم “بلطجية” إرهابيين/انفصاليين.
ووفقاً لـ ناشطين في مجال الحقوق المدنية، قُتل حتى الآن أكثر من 458 مدنياً من بينهم 64 مراهقاً وطفلاً. وقد قُبض على حوالي 18000 شخص، وتعرض العديد منهم للتعذيب وحُكم على العديد منهم بالإعدام. ولا توجد تقديرات دقيقة بشأن عدد المصابين لأن الكثيرين منهم يتجنبون الحصول على مساعدة طبية محترفة خوفاً من الاعتقال.
وعلى الرغم من هذه التكتيكات، لا تزال شريحة كبيرة من الشعب تعبّر عن مطالبها علناً بتغيير النظام. وبالفعل، لم تكن الإجراءات القمعية فعالة بما يكفي لدرجة أن المرشد الأعلى علي خامنئي أمر بتشكيل منظمة هجينة أخرى من “الباسيج/«الحرس الثوري الإسلامي»، وفقاً لوثيقة تم تسريبها ونشرها على تلغرام من قِبل جماعة “بلاك ريوارد” المبلغة عن المخالفات. ووفقاً لبعض التقارير ستعمل هذه المنظمة الجديدة على مستوى الأحياء لمواجهة أي حشود منشقة غير مركزية بشكل مباشر، باستخدام حتى أعداد أكبر من العناصر بالزي المدني.
المقاومة المسلحة: المحفزات المحتملة والتوقعات
إذا دفعت الاحتجاجات المتواصلة إلى قيام النظام باستخدام العنف بشكل أكبر، فهل سيردّ الشعب الإيراني بالمقاومة المسلحة؟ وإن حصل ذلك، هل ستنجح هذه المقاربة نظراً للمشاكل اللوجستية الهائلة التي ينطوي عليها الحصول على الأسلحة، وتدريب المقاتلين، وتنسيق الخطوات، وما إلى ذلك؟ ومن شأن النزاع المسلّح الفعال أن يحرم النظام من بعض ميزاته الفتاكة من دون شك، ولكن التحديات ستكون مع ذلك كبيرة.
على سبيل المثال، تعني الخدمة العسكرية الإجبارية في البلاد أن غالبية الرجال الإيرانيين يعرفون كيفية استخدام البنادق والمسدسات، كما أن بعض التقارير أفادت أن المحافظات الحدودية تضمّ سوقاً ناشطة للأسلحة النارية قادرة على إيصال الأسلحة إلى المناطق المركزية. ومع ذلك، يُشاع أن بعض أقسام هذه السوق تدار من قبل الأجهزة الأمنية، لذلك لن يكون بمقدور أي من الناشطين الذين تحوّلوا إلى مقاتلين التعويل على هذه الخطوط من الإمدادات.
وحتى لو توفرت الأسلحة، يفتقر الثوار الشباب إلى التدريب الجيد لتنفيذ أي عمليات مجدية على المستويات التكتيكية والعملياتية المختلفة. وسيحتاجون إلى قادة مؤهلين ومعلومات استخباراتية في الوقت الفعلي لمواجهة عدو هو على أهبة الاستعداد والتجهيز. ويمكن اكتساب بعض هذه المهارات عبر الإنترنت (أي عندما تكون خدمة الإنترنت متاحة). ومع ذلك، حتى المسلحين المؤهلين سيعجزون أمام الميزات الحركية للنظام كالدروع الثقيلة والطائرات المقاتلة/الطائرات المسيرة. وتُقدّم الحرب الأهلية في سوريا دليلاً وافياً على قدرة هذا النوع من التفاوتات على الفتك بالأرواح وتدمير البنية التحتية في غياب أي مساعدات عسكرية دولية وشيكة.
يُذكر أن نزاعاً مسلحاً باستخدام الوسائل المحلية بالتزامن مع انتفاضة شعبية حاشدة هو ما حدث خلال المراحل الأخيرة من ثورة عام 1979 في إيران، حين تمرّد مجندو القوات الجوية وفتحوا مستودعات الأسلحة أمام الناس. ويتطلب تكرار هذه الظاهرة اليوم تمرداً عسكرياً كبيراً والكثير من الانشقاقات. وتشير التقارير الداخلية التي سرّبتها جماعة “بلاك ريوارد” إلى أنه ربما تم اعتقال ما يصل إلى 115 عنصراً عسكرياً لدعمهم الانتفاضة الحالية. وسواء أكان ذلك صحيحاً أم لا، يلزم حدوث الكثير من التطورات على هذه الجبهة من أجل تعريض قدرة النظام على الصمود لخطر فعلي.
وذكرت بعض العناصر الإصلاحية أن إسقاط النظام، ولا سيما بالقوة، لن يؤدي إلا إلى إغراق البلاد في دوامة من الفوضى والدخول في نظام قمعي آخر. فمن وجهة نظرهم، شكلت ثورة عام 1979 وكذلك ثورات “الربيع العربي” التي اندلعت بعد عقود، عبرة مفيدة في هذا الصدد عندما شهدت بعض الدول عودة الأنظمة القديمة بشكل أكثر قمعية (مصر)، بينما تخبطت دول أخرى بصراع طويل الأمد (ليبيا، سوريا). وقد دفع ذلك بالإصلاحيين إلى تأييد التغيير البطيء الذي لا يستفز العناصر المتشددة، ولكن الحركة الاحتجاجية الحالية ترفض انتهاج مقاربة تدريجية رفضاً قاطعاً.
وقد يكون الكفاح المسلح مباحاً تماماً في المناطق التي لطالما كانت قبلية ويملك الكثير من سكانها الأسلحة، بما في ذلك المناطق التي تهيمن عليها الأقليات العرقية مثل المناطق الحدودية الكردية والبلوشية والعربية. ويقول البعض إنه قد يكون للمقاومة في منطقة كهذه مفعول متسلسل يؤدي إلى سقوط سريع لعناصر النظام في مناطق أخرى. ومع ذلك، إذا لم يمتد نطاق هذه المقاومة أو عجزت عن التأثير بطريقة أخرى على المشاعر العامة وصنع القرار في النظام على المستوى الوطني، فقد تصبح معزولة ومهمشة ومصنفة كحركة انفصالية.
وبالفعل، واظب النظام في مسعى لتقسيم المعارضة وحشد التأييد القومي على دعم السردية القائلة بأن الأجانب يقفون وراء الانتفاضة. وقوبلت هذه المشاعر نوعاً ما بالتظاهرات التي عمّت أرجاء البلاد تعاطفاً مع المرأة الكردية التي أشعل مقتلها فتيل الثورة، فضلاً عن اتساع نطاق الحركة الاحتجاجية منذ ذلك الحين.
وفي نهاية المطاف، يبقى السؤال المطروح ما إذا كان إطلاق مقاومة مسلحة قد يصبح محط جدل في أوساط المحتجين نظراً لاستعداد طهران للتسبب في سفك الدماء وغياب الإرادة الدولية للتحرك بهدف ردع النظام. ووفقاً للمادة 286 من قانون العقوبات الإسلامي الإيراني، فإن أي مواطن يؤيد علناً تغيير النظام يكون قد ارتكب جريمة يعاقب عليها بالإعدام بإجراءات موجزة، حتى في ظروف تبدو غير ضارة مثل إشعال النار في سلة مهملات. وبالتالي، قد يستنتج بعض المحتجين في النهاية أن حمل السلاح لا يزيد الخطر المحدق بهم شخصياً بدرجة تُذكر.
الدور الأمريكي
حققت الانتفاضة أساساً بعض الانتصارات التي لا رجعة فيها. فقد تحطمت صورة النظام داخلياً – حيث أنه بعد أن كان انتقاد خامنئي أو التشكيك في سياسات محددة من دون التعبير في الوقت نفسه عن دعم الجمهورية الإسلامية من المحرمات لفترة طويلة، أصبحت الهتافات الشعبية تندد بالمرشد الأعلى وبسياسات النظام على السواء مستخدمةً أسوأ العبارات التي يمكن تصوّرها.
وعلى الرغم من أن الحكومة الأمريكية لم تضع خطة رسمية تتمحور حول تغيير النظام في إيران، على إدارة بايدن أن تكون مستعدة لدعم الخيار الذي يُجمع عليه الشعب إذا كان ذلك هو ما يقرره. وفي ظل تلك الظروف، ستكون المصلحة الرئيسية لواشنطن هي الانتقال السلمي إلى حكومة تمثيلية منتخبة ديمقراطياً وعلمانية. وحتى إذا لم تحقق الحركة الاحتجاجية هذا الهدف، فإن أي تقدم تحرزه في تقليص شعبية النظام الحالي وقوته سيتوافق مع المصالح الأمريكية الأساسية.
وفي غضون ذلك، يتمتع النظام بقدرة كبيرة على قتل وتعذيب المواطنين، لذلك على الحكومة الأمريكية الإسراع في دراسة الخطوات التي يمكنها اتخاذها لمنع طهران من استخدام هذه القدرات – مع الاستعداد أيضاً لاحتمال انتقام النظام ضد المصالح الأمريكية. وقد تشمل هذه الخطوات الأمريكية التي يُحتمل أن تكون مفيدة الجهود السيبرانية لحماية المدنيين، ومنع النظام من ملاحقة المحتجين السلميين عبر الوسائل الإلكترونية، وتعطيل اتصالاته.
فرزين نديمي هو زميل مشارك في معهد واشنطن، ومتخصص في شؤون الأمن والدفاع المتعلقة بإيران ومنطقة الخليج. پاتريك كلاوسون هو “زميل مورنينغستار” الأقدم ومدير الأبحاث في المعهد.
المصدر: معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى