لقد طفح الكيل بالشعب الصيني من سياسة “صفر كوفيد” التي تنتهجها حكومته. وابتداء من 26 نوفمبر (تشرين الثاني)، قرر النزول إلى الشارع وتنظيم احتجاجات تطالب بإنهاء الإغلاق الصارم في عديد من المدن. وفي هذه الاحتجاجات من اختار التنديد بصمت رافعاً ورقة بيضاء، ومنهم من تجرأ على الذهاب إلى أبعد من انتقاد القيود المفروضة على الصحة العامة، موجهاً سهام النقد إلى النظام السياسي الاستبدادي. “لا نريد اختبارات كوفيد! نريد الحرية!”، هتفت مجموعة من المتظاهرين في شنغهاي، وفي هتافاتها إشارة واضحة إلى الكلمات التي سبق ونادى بها متظاهر وحيد نشر لافتة على جسر في بكين. وهذه المرة الأولى منذ أكثر من 30 عاماً التي تشهد فيها الصين تظاهرات متزامنة وعفوية تشمل مختلف الفئات الاجتماعية وتقترن بالدعوة إلى الحرية. وقد كانت المرة الأخيرة طبعاً أثناء احتجاجات ميدان تيانانمين التي هزت النخبة الصينية الحاكمة حتى النخاع وانتهت بحملة قمع دموية عام 1989.
ما الذي ستفعله بكين في المرحلة المقبلة؟ منذ اندلاع الاحتجاجات، أعلن مسؤولو الصحة المركزية في الصين استعدادهم لتخفيف قيود كوفيد-19 وبادرت مدينتا قوانغتشو وتشونغتشينغ إلى تخفيف إجراءات السيطرة على الوباء بين عشية وضحاها تقريباً، وكثفت القوات الأمنية وجودها في مختلف أنحاء البلاد. أما الزعيم الصيني شي جينبينغ، فقد التزم الصمت بشكل ملفت. وفي غياب أوامر صريحة ومباشرة منه، ولأن الحاجة ملحة إلى تهدئة الاحتجاجات، قد تكون ردود الفعل هذه من التكنوقراط المركزيين والسلطات المحلية علامات ارتجال أكثر منها خطة مدروسة.
إن ضباب اللايقين كثيف، لكن ما من شك في أنه منعطف خطر في تاريخ البلاد للقرن الـ21. وقد تكون هذه هي المرة الأولى التي يحتشد فيها المواطنون الصينيون معاً لمقاومة إحدى السياسات الوطنية – وعلى ما يبدو، حتى الآن، أنهم نجحوا في حث السلطات على تغيير نهجها. ويمكن لمثل هذا الأمر أن يحقق للشعب الصيني تقدماً أو يلقي به إلى تهلكة، رهناً بما إذا كانت القيادة العليا ستستجيب لندائه أم ستسكته.
عالقة في 2020
منذ تطوير لقاحات فعالة ضد كورونا، خرجت معظم بلدان العالم من تدابيرها الاحترازية لاحتواء الوباء وعادت إلى الحياة المعتادة، وحدها الصين اختارت أن تغرد خارج السرب وتتشبث بهوس القضاء على الفيروس. والنتيجة: انتهاج بكين سياسة “صفر كوفيد” ذات التأثيرات المدمرة: تقويض الاقتصاد واستنزاف الموارد المالية للحكومات المحلية وإثارة موجة غضب واسعة النطاق ضد النظام. وإن كان اهتمام شي بالشأن الأمني والاستقرار الاجتماعي يفوق بأشواط اهتمامه بالاقتصاد، فلماذا تبدو قيادته وكأنها تخرب نفسها بنفسها؟
بحسب المحللين الغربيين المعتادين على العيش في كنف المجتمعات الديمقراطية حيث تخضع الحكومات للمحاسبة، فإن الإجابة تكمن في البحث عن تفسيرات منطقية. ولعل التفسير المنطقي الأبرز هو خشية الحكومة الصينية من أن يؤول تصاعد حالات الإصابة بكوفيد-19 إلى شل مستشفيات البلاد، لاسيما في ظل عدم كفاية التطعيم في صفوف المسنين، توازياً مع ادعاء الحزب الحاكم بأن “حماية الأرواح هي أولويتنا القصوى” (مع العلم أن عمليات الإغلاق الصارمة قد سببت عملياً عدداً لا يستهان به من الوفيات الناجمة عن حوادث أو اكتئاب أو حرمان من الرعاية الطبية). لكن بحسب محللين آخرين، فإن الإجابة تكمن في الدعم العام الذي تحظى به سياسة “صفر كوفيد” في بعض نواحي الصين، حيث يصدق المواطنون الدعاية التي تروج لها الحكومة عن الآثار المخيفة للفيروس وتفوق الصين على الغرب لناحية السيطرة على الوباء.
وصحيح أن كل ما سبق ذكره هو تفسيرات وجيهة ومشروعة، إلا أن أياً منها لا يفصح عن السبب الحقيقي وراء تمسك الصين بـ”صفر كوفيد”، ألا وهو: لأن شي أمر بذلك. تصوروا أنه من شدة إصرار شي على هذه السياسة وارتباطه بها ارتباطاً شخصياً، لم يجرؤ أحد من حاشيته أو أي مسؤول بيروقراطي على التشكيك فيها مع أنها تتحدى نطاق المعقول. وبوجه عام، لم يكن ليسمح لنزوات القائد الأعلى في ظل القيادة الجماعية المحركة للنظام السياسي في الصين منذ دينغ شياو بينغ، أن تفرض نفسها على السياسات الوطنية. لكن في عهد شي الوضع مختلف، لماذا؟ لأن شي نجح في ترسيخ مركزية السلطة بقدر ماو تسي تونغ، وهو اليوم بمثابة النسخة الحديثة من الإمبراطور الحاكم، مع قدرة دولة مخترقة عالية التقنية وبيروقراطية مهووسة في الحفاظ على الرقم المقدس للزعيم عند “صفر” بدلاً من إنقاذ الأرواح أو التكيف مع كوفيد.
ولما كانت الجائحة في بداياتها، كان من الطبيعي لشي أن يعطي الأولوية لاحتوائها. فالفيروس آنذاك كان جديداً وخطراً ولم يكن من لقاحٍ فعال، ضده وكان لا بد من استراتيجية شبيهة باستراتيجية الصين المتمثلة في إجراء اختبارات جماعية وفرض إغلاق عام وحجر صحيٍ مركزي في المستشفيات الموقتة، لصنع المعجزات. وهذا بالفعل ما حصل وما أثار إعجاب الجميع حتى المتشككين. في تلك الآونة، كانت الاستراتيجية الصينية على قدر كبير من الفعالية بعكس سوء الإدارة التي عاثت فوضى في كل من الولايات المتحدة في عهد الرئيس دونالد ترمب والمملكة المتحدة في عهد رئيس الحكومة بوريس جونسون. والدليل على ذلك وفقاً لـ”مركز موارد فيروس كورونا” (Coronavirus Resource Center) التابع لـ”جامعة جونز هوبكنز”، تسجيل الصين حالة وفاة واحدة فقط لكل 100 ألف شخص مقارنة بـ300 حالة وفاة لكل 100 ألف شخص في الولايات المتحدة اعتباراً من يونيو (حزيران) 2022. وبالنسبة إلى شي، أرقام الوفيات القريبة من الصفر هذه هي انتصار نادر وقيم بعد الانتقادات الشديدة التي وجهت إليه على أثر أول تفش للفيروس، كما أنها مصدر فخر كبير له بهزيمة الغرب وإقرار واضح وصريح بصحة ادعاءاته حول تفوق النظام السياسي الصيني من أعلى إلى أسفل على الديمقراطية الليبرالية.
وفيما تعلمت دول العالم التعايش مع الفيروس، استمرت الصين في تطبيق سياسة “صفر كوفيد” التي تتطلب توجيه كميات هائلة من الأفراد والموارد نحو الاحتواء. ولما ظهر متحور أوميكرون الأقل حدة والأشد عدوى، انتفت الحاجة إلى هذا النهج الذي بات متقادماً وبعيداً من المنطق. لكن الحكومات المحلية الصينية تجاهلت هذا الواقع، وإذ لم ترد لعدد الإصابات بكورونا أن يرتفع تحت إشرافها، كثفت عمليات الإغلاق الشاملة ورشت المطهرات في الشوارع على غير هوادة وفرضت الحجر الصحي على كل شخص تعرض للفيروس، وإن لم يكن لديه أعراض. ولا يمكن لأحد أن يستوعب المنطق وراء عبثية هذه التدابير وغرابتها إلا إذا عرف أن الغرض الحقيقي منها ليس حماية الصحة العامة، بل تحقيق هدف سياسي: إبقاء الأرقام عند الصفر.
أثناء المؤتمر الـ20 للحزب في أكتوبر (تشرين الأول)، أعلن شي ضرورة “أن نلتزم بحزم ومن دون تردد بدينامية “صفر كوفيد”. وتصديقاً على كلامه، رقى لي تشيانغ الذي أخضع شنغهاي لعمليات إغلاق قمعية لمدة شهرين، إلى المركز الثاني في الحزب، ضارباً عرض الحائط بشكاوى سكان المدينة ومؤسساتها التجارية. وعليه، بالنسبة إلى المسؤولين في الصين، الرسالة كانت واضحة: تطبيق “صفر كوفيد” يجلب معه مكافآت، ولو كلف كثيراً.
في البداية، كانت الآمال كبيرة في أن ترخي القيادة الصينية قبضتها الحديدية عن كوفيد- 19 بعد مؤتمر الحزب. وقد ظهر الضوء في آخر النفق يوم 11 نوفمبر، عندما أصدر “المجلس الوطني للصحة” (الوزارة الحكومية المعنية بالسياسة الصحية) توجيهاً بعنوان “الإجراءات الـ20” يتضمن إرشادات محددة لتخفيف القيود – من قبيل تقليص مدة الحجر الصحي للمسافرين الوافدين وحق الأشخاص في المناطق عالية الخطورة في قضاء العزل الإلزامي في منازلهم بدلاً من مرافق الحجر الصحي المركزية. وفي ذلك اليوم، رأى المستثمرون في هذه الوثيقة علامة على خروج الصين الوشيك من الوباء، مما أدى إلى انتعاش أسواق الأسهم لمدة وجيزة.
لكن ثبت أن هذا التفاؤل سابق لأوانه. فالإجراءات الجديدة لا تستهدف رفع القيود الخاصة بكوفيد-19، إنما “تحسينها”، حيث ورد في نص التوجيه أن “تحسين تدابير مكافحة الوباء لا يعني تخفيف القيود أو التخلي عنها أو الاستلقاء، بل يعني… تحسين دقة السيطرة”. وإحقاقاً لهذه الغاية، كلفت بكين مسؤوليها بمهمة شبه مستحيلة: “منع انتشار الفيروس من دون المساس باستقرار الاقتصاد” وحملت حكوماتها المحلية عبء اللوم والمسؤولية: فالخطأ خطأها إذا ما تفشى الفيروس، والخطأ خطأها أيضاً إذا ما تضرر الاقتصاد. ووسط كل هذه الحيرة والارتباك، تناوبت بعض المدن الصينية على تخفيف القيود وتشديدها، فيما اكتفى بعضها الآخر بفرض مزيد ومزيد من القيود.
وفي 25 نوفمبر، شب حريق مميت في مبنى سكني في مدينة أورومتشي. وعلى ما يبدو أن جهود الإنقاذ تأخرت في الوصول إليه يومها بسبب الحواجز التي تستخدم عادة لمنع السكان من مغادرة منازلهم أثناء عمليات الإغلاق. وبالنسبة إلى عديد من الصينيين، كانت هذه الحادثة بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير. “إن لم أكن أنا هذه المرة، فسأكون حتماً في المرة المقبلة”، ذكر أحدهم في منشور فيروسي على مواقع التواصل الاجتماعي. وقد تفجرت براكين الغضب الشعبي من هذه المأساة في خضم وضعٍ اقتصادي قاتم، مع إغلاق أكثر من 460 ألف شركة أبوابها في الربع الأول من عام 2022 ووصول بطالة الشباب إلى 20 في المئة تقريباً. زد على ذلك، إدراك عدد كبير من المواطنين، ممن أصيبوا بالكورونا، أن هذا الأخير ليس خطراً بالقدر الذي تروج له الدولة واقتناع بعضهم بأن المعاناة التي يعيشونها حاضراً هي حصيلة سياسة عبثية وغير ضرورية أكثر منها الفيروس بحد ذاته.
وبحلول نهاية نوفمبر، ارتطمت خيارات القيادة والحوافز البيروقراطية بسلسلة من المآسي ونتج من هذا الارتطام ثورة غير مقصودة طبعاً من شي وحشود تملأ الشوارع للتنفيس عن مشاعر الحنق واليأس التي تستبد بهم.
ما الذي سيفعله شي؟
ثمة تفسيران متطرفان للاحتجاجات المناهضة للإغلاق، الأول يرفضها جملة وتفصيلاً بوصفها لحظة عابرة من الاضطرابات، والثاني يعتبرها آخر “ثورة ملونة” محتملة للإطاحة بالنظام. والحقيقة أن كلا التفسيران غير صحيح. فقد سبق للصين أن شهدت احتجاجات متفرقة في الماضي، لكن جل ما اقتصرت عليه هذه التحركات هو شكاوى ومطالب يمكن تلبيتها بإقالة مسؤولين من المستوى الأدنى أو منح امتيازات مختلفة، مثل الأجور المستحقة وإيرادات التعويض عن الأراضي، ومناشدات جماعية للقادة المركزيين الصالحين بمعاقبة القادة المحليين الفاسدين. ومن هذا المنطلق، يمكن القول إن هذه المواجهات لم تتحد يوماً النظام السياسي في الصين، بل على العكس تماماً، حافظت على مرونته من خلال التعليق على السياسات والكشف عن المخالفات.
والمميز في الاحتجاجات الأخيرة أنها تتجاوز حدود الصراعات المحلية الضيقة لتشمل سياسة وطنية بادر إليها شي بصفة شخصية. واللافت للنظر أن المظالم التي يرفعها المحتجون اليوم تخص جميع المهن والخلفيات الطبقية والأعراق والمناطق سواسية، والتعبير عنها لا يقتصر على الإنترنت (كما جرى في 2020 عقب وفاة الطبيب لي وينليانغ الذي كان أول من حذر من ظهور فيروس جديد، لكن السلطات الصينية أسكتته)، إنما على المشاركة في نشاطات وجاهية أيضاً، على رغم الرقابة المشددة وخطر الاعتقال.
لكن هؤلاء المتظاهرين، على رغم جسارتهم غير العادية، لا يشكلون بعد قوة ثورية. فأعمال العصيان المدني التي نظموها الأسبوع الماضي بين وقفات احتجاجية صامتة عن أرواح المتوفين واستخدام القوة لإزالة حواجز السيطرة على الوباء وترداد هتافات جريئة تنادي بالحرية وتدعو شي إلى التنحي، ليست بكافية. وما تحظى به من تغطية إعلامية ضخمة لا يعني كثيراً بما أن جزءاً كبيراً من الموجودين في الشوارع يطالبون بحريتهم الجسدية وحقهم في كسب عيشهم – ولا يأبهون بالتغيير السياسي شأنهم شأن الأغلبية الصامتة التي تلتزم بسياسات الدولة وتدعم شي والحزب الشيوعي الصيني إلى أبعد حدود، الظاهر أن شعبية شي لا تزال واسعة في صفوف القوميين والمستفيدين من سياساته لمكافحة الفقر.
بالمختصر المفيد، قد لا تكون الاحتجاجات المناهضة للإغلاق “ثورة ملونة” تهدف إلى إسقاط النظام أو تقوى على إسقاطه، ولكنها بالتأكيد أول بادرة معارضة شعبية تواجهها سياسة وطنية وتضع شي الذي يحكم بيد من حديد في موقف صعب، بين مطرقة عدم التعرض للمتظاهرين الذي يمكن أن يشجع على مزيد من الجرأة وسندان تضييق الخناق الذي قد يفضي إلى مظالم أعمق وأوسع نطاقاً.
تبرز على الساحة التحليلية ثلاثة سيناريوهات محتملة لما سيحدث تالياً في الصين. وفي السيناريو الأكثر تفاؤلاً، يعلن شي أنه قد استمع لمخاوف الناس وأن الفيروس أصبح معتدلاً، وقد حان الوقت للتخلي عن دينامية “الصفر” وتعديل السياسات. وبخطوة مماثلة، قد يفقد شي ماء الوجه لاعترافه بالخطأ وتصحيحه، لكن شيئاً لن يهز سلطته ويزعزعها. إلى ذلك، يسجل الاقتصاد الصيني انتعاشاً حاداً بعد ثلاث سنوات من الطلب الاستهلاكي المكبوت. وبعد تقديم سلسلة من التنازلات السياسية، تنتهي الاحتجاجات ويعود الاستقرار إلى ربوع الصين. هذا هو السيناريو الأفضل الذي يراهن عليه المستثمرون المتفائلون، على افتراض أن العلاقة بين الدولة والمجتمع ستبقى على حالها، وهذا أمر غير واقعي، بالنظر إلى هوس شي بالأمن وزيادة إدراك الشعب الصيني لقدرته على المقاومة.
وفي حالة السيناريو الثاني، تجري القيادة الصينية التصحيحات اللازمة على مسارها وتزيد ممارساتها القمعية. ولغاية هذه اللحظة، يبدو أن هذا الاحتمال هو الأكثر ترجيحاً. ففي 29 نوفمبر، تعهدت لجنة من كبار خبراء الصحة، أثناء مؤتمر صحافي في بكين، بتخفيف القيود الصحية غير الضرورية وزيادة معدلات التطعيم في صفوف كبار السن، ملمحة إلى استعداد الحكومة المركزية أخيراً للسير باتجاه التعايش مع كوفيد-19. وفي صباح اليوم التالي، أصدرت بعض حكومات المدن والمقاطعات قرار تعليق عمليات الإغلاق. وبحسب ما كتبه لي أحد معارفي من مدينة قوانغتشو في رسالة قصيرة يوم 30 نوفمبر: “لقد رفعت قيود مكافحة كورونا – بأعجوبة. دخلت إلى فراشي أمس، ولما استيقظت صباح اليوم وجدت أن كل شيء قد انتهى والناس في قمة السعادة!”.
وفي هذه الأثناء، يدفع المتظاهرون ثمناً باهظاً لقاء أفعالهم وتحركاتهم. فقد بدأت الشرطة بتنفيذ اعتقالات واسعة وتسيير دوريات ضخمة في الأماكن العامة. والأرجح أن تكثف قريباً إجراءاتها الرقابية والاستطلاعية في بيئة خانقة بالفعل، على نحو ما فعلت لما أدركت أن التطبيقات الأجنبية على غرار “تويتر” تسمح للمتظاهرين الصينيين بمشاركة رسائلهم في الخارج. أولم تقم يومها بتوقيف المواطنين بشكل عشوائي وتفتيش هواتفهم بحثاً عن تطبيقات محظورة؟ أولم تستتبع هذه الخطوة بقرار منع إحدى أكبر سلاسل الأدوات المكتبية في الصين من بيع الورق الأبيض مقاس A4، بذريعة “الأمن القومي والاستقرار”؟ على كل حال، إنهاء القيادة الصينية لسياسة “صفر كوفيد” وإن لقي ترحيباً كبيراً، فإنه لن يعتق الشعب من ضوابط شبه شمولية.
السيناريو الثالث سيناريو متشائم بافتراضه أن بوسع الحكومة المركزية في الصين عكس مؤشرات تخفيف القيود والمبادرات المحلية التي شوهدت في اليومين الماضيين وإطلاق العنان لحملة قمعٍ قاسية ضد كل من شارك في العصيان المدني. فإلى اليوم، لم ينبس شي ببنت شفة ولم يفصح عن موقفه إزاء ما يجري أو عما يدور في ذهنه. ومن غير الواضح ما إذا كان قد صادق على الترتيبات التي اتخذها التكنوقراط المركزيون والحكومات المحلية حتى تاريخه. وإلى أن تتولى الحكومة الجديدة مهماتها رسمياً في مارس (آذار) 2023، سيخيم على الصين فراغ سياسي. وإذا كان لنا في تجارب الماضي أية أسوة، فإننا لا نتوقع لشي أن يتساهل مع الانتقادات التي يمكن أن توجه إليه أو إلى حزبه.
فمنذ 1989 والحزب الحاكم منكب على تطوير ترسانة أكثر تعقيداً من استراتيجيات القمع، إدراكاً منه أن الحملات العنيفة على الملأ تكلف كثيراً. وبالنظر إلى تجربة بكين السابقة مع هونغ كونغ، فإن الاحتجاجات الجماهيرية الحالية قد تستمر لفترة من الزمن، أو بالأحرى لحين أن تضع لها الحكومة حداً نهائياً عن طريق معاقبة المحتجين واحداً تلو الآخر – متبعة ما يعرف بنهج “تصفية الحسابات بعد السقوط”. وعند حدوث ذلك، سيتحول تركيز شي نحو الداخل وستكون الاضطرابات خير داعم له ضد المتظاهرين الذين تمكنوا من بث الرسائل ومشاركتها مع الخارج عبر الإنترنت. ومن غير المستعبد أن يكون رده قطع كل الوسائل المتاحة أمام شعبه لتسلق جدار الحماية العظيم.
“يمكن تحويل ما هو سيئ إلى شيء جيد،” قال دنغ شياو بينغ ذات مرة عن أهمية الثورة الثقافية، بمعنى أنه “قد يجعل الناس يتدبرون ويجبرهم على إدراك الأسباب الكامنة وراء انحراف الأمور عن مسارها الصحيح وما الذي يجب تغييره. وهذا بالتحديد ما جعل تغيير المشهد السياسي والاقتصادي في الصين ممكناً”.
إن كلمات دنغ تنطبق على الصين اليوم. فما ينتظر الجمهورية في المرحلة المقبلة يعتمد بشكل حاسم على ما إذا كان شي سيختار التصرف ببراغماتية واعتدال أو بعناد ووحشية. ومهما يكن من أمر، فقد أنجز شي شيئاً عميقاً عن غير قصد: سياسة “صفر كوفيد” الخاصة به جعلت كل مواطن صيني – سواء أغنياً أم فقيراً، مسناً أم شاباً، ذكراً أم أنثى – يقدر قيمة حرياته المحدودة، ليس على المستوى التجريدي عالي الحركة، بل على المستوى الشخصي. ولربما يكون التفسير الأكثر تفاؤلاً لأحداث الصين الأخيرة هو أن بذور الديمقراطية الهادفة فيها مبعثرة ولا يمكن تدميرها.
يوين يوين أنغ هي أستاذة مساعدة في العلوم السياسية لدى “جامعة ميشيغان” ومؤلفة كتاب “العصر المُذهب للصين” (China’s Gilded Age).
مترجم عن فورين أفيرز 2 ديسمبر (كانون الأول) 2022
المصدر: اندبندنت عربية