منظومة السلطة ليست في وارد أي تراجع أو تنازل في حوار يفرض عليها تحت ضغط الشارع. هل وصل النظام الإيراني إلى قناعة أنه بحاجة إلى فتح حوار مع القوى المدنية والسياسية في المجتمع الإيراني على اختلاف توجهاتها وطروحاتها الفكرية والسياسية والثقافية، تساعده على الأقل في الخروج من المأزق والتحدي اللذين يواجههما في هذه المرحلة جراء الحراك الاعتراضي المختلف في هويته هذه المرة عما سبقه من احتجاجات وتحركات شعبية؟
لا شكّ أن أصواتاً في الداخل الإيراني، تختلف في قربها وبعدها عن المنظومة الحاكمة، لكنها تتفق في موقفها المتمسك بالجمهورية الإسلامية، هذه الأصوات بدأت بالحديث عن ضرورة فتح باب الحوار مع الجمهور المعترض يساعد على إخراج الخطاب الذي يحمله المعترضون من خطاب انقلابي وتغييري، ونقله إلى دائرة الخطاب المطالب بالإصلاح والإصلاحات في إطار القوانين. وفي الوقت نفسه إقناع وتشجيع النظام للاستجابة إلى هواجس ومطالب هذا الجمهور واتخاذ خطوات جدية تنسجم مع هذه المطالب.
وقد تكون الخطوة الأولى المطلوبة من النظام، السيطرة على دورة العنف التي تهيمن على البلاد، وتفكيك معادلة العناصر الأمنية التي يُطلق عليها “ذوو اللباس المدني” التي تتمتع بصلاحيات واسعة في القمع والملاحقة، وفي الوقت نفسه تسمح لجهات تستغل ما تقوم به وتوظيفه لتعزيز مصالحها السياسية، سواء من داخل النظام أو من المعارضة.
هذه الأصوات التي تأخذ الأوضاع الحساسة والمعقدة التي تعيشها إيران بالاعتبار عينه، ترى أن المرحلة تحتاج إلى اعتماد العقلانية من قبل السلطة والجمهور المعترض وحتى من الجماعات الموالية للنظام على حدّ سواء، التي تستدعي الذهاب إلى الحوار والبحث عن مخارج جدية وحقيقية، وذلك بما ينسجم مع المصالح الوطنية والأمن القومي، بخاصة أن الإصلاح السياسي والاجتماعي والإداري والثقافي بات ضرورة للنظام ولا يمكن الاستمرار من دون الذهاب لفتح الباب أمام هذا المسار.
المحطة الأبرز في هذا المسار، جاءت من الرئيس الأسبق محمد خاتمي، إن كان في الرسائل التي وجهها إلى المرشد وكشف عنها مساعده الأسبق محمد علي أبطحي، والذي أكد أنها بقيت من دون ردّ أو جواب، أو في الرسالة المفتوحة لخاتمي بدعوة النظام للإصلاح الذاتي، وطبيعة الأزمة والتحدي الذي أنتجه الحراك المعترض، والذي قابله قمع غير مسبوق استهدف أسس التعايش بين المكونات العرقية والقومية والمذهبية في الجغرافيا الإيرانية، إن كان في سيستان وبلوشستان، أو في كردستان، مشيراً إلى مفتاح الحل الأساس للحل.
وإذا ما كان خاتمي يدرك أن السهم الذي أطلقه سيصيب مرشد النظام مباشرة انطلاقاً من كونه الجهة الوحيدة التي تملك مفاتيح القرار الداخلي والخارجي والاستراتيجية والسياسات العامة للنظام، فضلاً لما في يده من صلاحيات دينية كونه يشغل منصب ولي الفقيه المطلق الصلاحية، بالتالي، فإن أي تحرك باتجاه الإصلاح لا بدّ أن يبدأ من المرشد، وأن يكون المسؤول عنه وعن النتائج التي ينتهي إليها سلباً أو إيجاباً.
قد يكون من طبيعة أي نظام مركزي وسلطة حاكمة أن ترفض الاعتراف بالأزمات التي تواجهها بخاصة عندما تواجه تحدياً حقيقياً، ينقل الاعتراض الشعبي من دائرة المطالب المعيشية إلى دائرة الخطاب الثقافي المتعارض مع هوية السلطة الثقافية والعقائدية. إلا أن هذا الإنكار كان حاداً بحيث أن مرشد النظام في خطابه أمام مجموعات مختارة من منظمة التعبئة الشعبية “الباسيج” التابعة لحرس الثورة، رفض الاعتراض بوجود أزمة في الشارع، وتمسك بالوصف الرسمي للحراك الاحتجاجي باعتباره “أعمال شغب” لا شك ولا تردد في قدرة المعنيين على إنهائها بسرعة، بحسب تعبيره.
ورفض وإنكار خامنئي لوجود حراك في الشارع، لم يقتصر على بعده الثقافي والاجتماعي والفكري، بل شمل أيضاً الاعتراف بوجود أزمة اقتصادية تعيشها البلاد نتيجة سياسات النظام والسلطة التنفيذية الاقتصادية والمالية، ومحاولة رمي كرة هذه الأزمة على السياسة الأميركية التي لا تلتزم بالاتفاقات التي تعقدها، والعقوبات التي تفرضها تاريخياً على إيران، واصفاً الشباب الذي خرج إلى الشارع بمجموعة من “الأراذل والفوضويين والعملاء”، ما يؤكد أن المنظومة ما زالت ترفض الحوار أو الاعتراف بوجود أزمة، وقد تكرس ذلك في الموقف أو البيان الذي أصدرته مؤسسة حرس الثورة التي أعلنت دعمها ووقفها خلف قرارات وقراءة المرشد والاستعداد لتنفيذ أوامره وتوجيهاته في ما يتعلق “بمثيري أعمال الشغب”، ومجازاتهم كما أكد المرشد.
وفي ردّ غير مباشر على دعوة خاتمي، عندما اتهم من يدعو النظام إلى إصلاح ذاته، بأنه يفتقر إلى الفهم السياسي، بخاصة في ما يتعلق بموضوع الحوار مع أميركا أو في ضرورة الاستماع إلى صوت الشعب ومطالبه، رفض المرشد الإيراني أي شكل من الحوار أو التجاوب مع الأصوات المطالبة بإعادة النظر في الأخطاء المتراكمة على مدى أربعة عقود، ما يعني أن المنظومة ترى في دعوة الذهاب للحوار وإعطاء دور للإصلاحيين أو الجهات التي ما زالت تملك تأثيراً نسبياً في الشارع، قد يؤسس إلى فهم مختلف للأزمة، ما يدفع هذه المنظومة بكل أركانها للتمسك بعدم الذهاب إلى الحوار من منطلق العجز في التوصل إلى حلول تناسبه لصعوبة ذلك من ناحية، بخاصة أنه سيكون مجبراً على تقديم تنازلات لقوى لم يسبق أن اعترف بها، ما يعني فتح باب أمام تنازلات جديدة ومتجددة في المستقبل لا يعرف أين تقف أو تنتهي.
من ناحية أخرى، فإن إعطاء الإصلاحيين هامشاً للتدخل أو لعب دور في تهدئة الشارع، حتى ولو كان يندرج في إطار التفاهم والتعامل مع قوى لا تعادي أساس النظام، وإنما عملت وتولت مواقع قيادية وتاريخية في النظام والثورة من منطلق قبولها وإيمانها بالدستور وتركيبته، يبدو مستبعداً، لأن المنظومة تتخوف من أن يفسر ذلك تنازلاً قاسياً، بخاصة أن مثل هذا الهامش سيمنح هذه القوى مساحة في المشهد السياسي بعد أن عمل، وعلى مدى ثلاثة عقود، على إقصائها وإفشال مشروعها السياسي وتفريغ خطابها الإصلاحي من أهدافه، بخاصة بعد أن استطاع استعادة السيطرة على مواقع القرار في هرمية الدولة “السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية” وتوحيدها في قبضته.
إلا أن الأخطر في هذا الأمر، أي خيار النظام بالاستعانة بالإصلاحيين وقوى المعارضة الداخلية، أن يكون النظام يهدف من وراء ذلك إلى التقاط الأنفاس وتجاوز هذه المرحلة الدقيقة والمحرجة التي بدأت تتحول إلى تهديد وجودي إذا عجز عن استيعابها أو قمعها، وفي مرحلة لاحقة، بعد استعادة الأمن وإنهاء حال الاعتراض، يعود إلى سياسة الإقصاء والاتهام، من خلال اتهام الإصلاحيين في حال نجاحهم في تهدئة الشارع، بالوقوف وراء هذه الاعتراضات وتوظيفها للعودة إلى المشهد السياسي، وهي التهمة التي قد تمهّد الطريق أمام ملاحقتهم وإقصائهم من جديد بتهمة الخيانة والتعامل مع الخارج للقضاء والانقلاب على النظام.
وعلى رغم كل هذه الملاحظات والمخاوف والترديد، يبدو أن المرشد قد حسم موقفه من خلال الذهاب إلى خيار اللجوء إلى تعظيم دور “الباسيج”، ورفض الاعتراف بوجود خطاب جديد يتعارض مع هوية النظام الثقافية، وفتح الطريق أمام تعزيز دور هذه التعبئة في إعادة تدعيم أسس النظام، باعتبارهم القوة التي حرست وتحرس وستحرس النظام والثورة في المستقبل في مواجهة المؤامرة التي تتعرض لها وتواجهها من أعداء الداخل والخارج.
العودة إلى تظهير والتركيز على دور “الباسيج” وإمكانية إعطائه هامشاً أوسع من الصلاحيات تسهّل عملية تدخله في قمع الاحتجاجات، ودعوته للحفاظ على استعداده والبقاء بحال استنفار لمواجهة خطط الأعداء، يعني أن منظومة السلطة ليست في وارد أي تراجع أو تنازل في حوار يفرض عليها تحت ضغط الشارع.
المصدر: اندبندنت عربية