في جلسة نقاش عن تحديات الوضع في لبنان في ظل المتغيرات الإقليمية والدولية، ضمن مجموعة ممن يسعون إلى استعادة الدولة اللبنانية لسيادتها واستقلالها للخروج من دوامة الفساد التي اُغرق فيها اللبنانيون في ظل السلاح غير الشرعي؛ فوجئت بأحد المشاركين يستهل مداخلته بالمسلّمة التالية: “إن لبنان انوجد من أجل المسيحيين”. ولم يعترض احد.
لست هنا في معرض العودة إلى مرحلة التأسيس الأولى لتبيان صحة أو خطر هذا الاعتقاد الراسخ عند البعض. لا شك أن الظروف جعلت الغلبة للمسيحيين بسبب محاباة الاحتلال الفرنسي لهم وتسليمهم المقادير الأساسية في الجمهورية الناشئة، لأن ذلك يناسب مصالح فرنسا. بينما دعمت انكلترا الدروز والمسلمين عموماً ضد فرنسا.
لكن من يقبل المنطق القائل إن الفرنسيين قدموا لبنان هدية للمسيحيين، يبدو لي معها من المنطقي أن يقبل أن تنقله فرنسا الآن إلى الطرف الشيعي لأن هذا يناسب مصالحها الاقتصادية حالياً!
لكن على من يريد أن يبني وطناً أن يرفض هذا المنطق التمييزي والقريب من العنصرية والمثير للخلاف، والمؤجج للنزاعات التي تطفح بها مواقع التواصل.
يبقى السؤال لماذا يحرص بعض المسيحيين على تكرار هذا الاعتقاد الذي ينسف محاولة بناء دولة مواطنة تحصر مهمتها ببناء لبنان لكل أبنائه بشكل عادل ودون تمييز؟ خصوصاً أن ثورة 17 اكتوبر بينت أن خيار غالبية اللبنانيين، خصوصاً الشباب منهم، بناء دولة مواطنة ومساواة في الحقوق والواجبات خارج النطاق المذهبي والطائفي الذي لم يحسن استخدامه سوى العصابة الممسكة بمقادير لبنان واللبنانيين. فاحتكرت تمثيلهم وصادرت حقوقهم ووزعتها حصصاً بينها.
إن مثل هذه الملاحظات تحفزنا على التفكير في علاقات الطوائف بلبنان وفيما بينها.
بمناسبة توقيع روايتها “فيكتوريا” في بيروت، وأحداثها تدور في البيئة القبطية وتعالج معاناتها، أشارت كارولين كامل إلى أن أبناء الجيل القديم من أقباط مصر كانوا يستخدمون أسماء محايدة لأبنائهم، بينما صاروا يسمونهم الآن بالأسماء المسيحية الخالصة.
ذكّرني ذلك بمسلمي فرنسا وتحركاتهم الاعتراضية منذ سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي. قبل ذلك لم يكن مسلمو شمال أفريقيا المهاجرين إلى فرنسا، لتلبية حاجتها لليد العاملة الرخيصة، يثيرون أي انتباه. لأنهم سعوا للاندماج التام والاختفاء في المجتمع الفرنسي. لكن شعور الأجيال المولودة في فرنسا، وتعتبر نفسها فرنيسة، بالتمييز ضدها وإحساسها بالدونية، جعلهم يحرصون على إظهار اختلافهم، عبر الحجاب أو اللحى وغيرها، للتخلص من اللاتمايز الذي يهدّد هوياتهم المركبة.
يمكن تطبيق هذه الواقعة السوسيولوجية على مجتمعاتنا خلال فترة حكم السلطنة العثمانية، ربما استطعنا عندها فهماً أفضل لسلوك المسيحيين منذ حقبة إنشاء دولة لبنان الكبير. كما فهم سلوك الشيعة منذ الستينيات وحتى الآن.
بالرغم من حقيقة أن الفتح الإسلامي (البعض صار يجرؤ على تسميته بالغزو) لم يستخدم العنف المجاني ضد المؤمنين من الديانات الكبرى، وكان متسامحاً مع أبنائها بمقاييس تلك الأزمنة. إلا أن الخلفاء العثمانيين مارسوا في فترات معينة التمييز والتهميش والقمع والتحقير تجاه الأقليات الدينية والمذهبية المختلفة عن المذاهب الأكثرية السنية التي يعتنقونها. فاضطهد المسيحيين والشيعة.
في مرحلة أفول الخلافة العثمانية وبروز الغرب كقوة رأسمالية وتجارية وعسكرية غازية، اعتمد الغرب في إضعاف الرجل المريض على الأقليات، وخصوصاً المسيحية التي ساهمت في استنهاض الشعور القومي العربي بوجه التتريك. وكان موارنة لبنان من كبار المساهمين في ذلك؛ بما أن الإرساليات كانت قد دعمت تعليم المسيحيين وهيأت كوادر تنويرية، ما سهّل لهم استلام دفة الأمور عندما حان وقت إقامة الدولة.
وهكذا تمكنت المارونية السياسية من الحكم بإشراف فرنسي عند إنشاء لبنان الكبير، لكن بمشاركة الطوائف الأخرى. لكن هذا التمييز لصالحهم لا يعني أن لبنان أنشئ من أجلهم.
لست في معرض دراسة تاريخية، لكن ما أود الاشارة إليه وجود تشابه في الخطوط العريضة لسيرورة الأقليات عموماً في علاقتها بالسلطة. من مسيحيي لبنان وشيعته الى أقباط مصر، أو مسلمي فرنسا، أو الأكراد أو أي أقلية أخرى، لجهة التمسك بالهوية المهدّدة.
لقد تعرّض المسيحيون للقمع والاضطهاد وأقاموا كنائسهم في المغاور، التي لا تزال شاهدة، خلال فترات من الحكم العثماني. لذا من البديهي أن يتمسكوا بطقوسهم الدينية ويمارسونها بإلحاح هجاسي لتأكيد وحفظ هويتهم المجروحة. فجعلوا وجودهم يدور حولها. كالعمادة والقداديس والتناول والاعتراف والشفعاء والاحتفالات بأعياد القديسين (ويقال إنهم بعدد أيام السنة) والأسماء وغيرها.
في صراع الهويات، كما يذكر أمين معلوف في كتابه “الهويات القاتلة”، من الطبيعي أن يتركز اهتمام الشخص في هذه الوضعيات على المكون المقموع ويتمحور حوله. فتتعرف الغالبية على نفسها بالانتماء الأكثر عرضة للتهجم وتتماهى معه بالضبط سواء تبنته علنا أو خفية. وهو قد يكون الدين أو اللون أو اللغة أو الطبقة. فيجتاح الهوية بأكملها.
وإذا أجرينا مقارنة مع البيئة المسلمة السنية في فترة ما بعد الاستقلال، نلاحظ استرخاء أكبر في ممارسة الطقوس الجماعية او التي تؤطر الفرد بشكل خاص. فالصلاة اليومية فردية، والأعياد عند المسلمين محدودة بعيدي الفطر والأضحى والمولد النبوي، وعدا عن الصلاة الجماعية يوم الجمعة وصوت الآذان للقريبين من المساجد، كانت الطقوس أقل حضوراً وتأطيراً؛ خصوصاً في المرحلة القومية قبل ظهور الاسلام السياسي. وهذا ما يطبع سلوك الأكثريات المرتاحة الى وضعها بشكل عام، فلا تقلق على هويتها.
أما الشيعة فتأخروا عن الموارنة في الاستفاقة على تهميشهم وعلى هويتهم “الجريحة” وبالتالي على التشدد في إظهارها. فإلى حين مجيء فؤاد شهاب والنهضة التي أحدثها في المجال التنموي والتربوي للمناطق وانعكست إيجابياً عليهم، فعممت المدارس وأنشئ المجلس الاسلامي الشيعي الأعلى، لم يكونوا مرئيين بوضوح.
حصل تنافس بين اليسار وبين تيار موسى الصدر في البداية فأنشأ حركة المحرومين. لكن الحرب الأهلية وإخفاء الصدر جعلت تياره يقطف ثمار الإصلاح الشهابي. ثم ورثته إيران منذ بداية الثمانينات بعد إخفائه قسراً.
حرص حزب الله، بدعم وتمويل إيرانيين، على توفير شروط التفاف الشيعة حوله عبر الخدمات المتنوعة كإنشاء مؤسسات من كل نوع: ثقافية وصحية وتربوية ورياضية وكشفية وترفيهية وخصوصاً دينية وعسكرية. وهذه الاخيرة عملت على إرساء ممارسات وتقاليد مستجدة في الأوساط الشيعية التقليدية قلبت فيها العادات والتقاليد وجعلت من الممارسات الايرانية – الفارسية مرجعها الوحيد في الحياة والآخرة.
وصار إظهار الاختلاف عند الشيعة مصدر فخر، وأصبحت الهوية المذهبية محور وجود غالبية الشيعة، وأصبح لديهم مناسبات وأعياد تتفوق على ما لدى المسيحيين.
وهكذا تهيأت جميع الظروف لتركيب حلف الأقليات برعاية سورية بمواجهة السنة الذين تمت شيطنتهم ووسمهم بالقابلية للدعشنة. التهمة التي لم تثبت حتى الآن، وهذا الحلف كان أحد أعمدة الانهيار. فإلى متى هذا الاصطفاف وإلى أين؟
المصدر: الحرة