المنطق السليم في زمن السُّكْر

د. أحمد سامر العش

أسلم العالمُ في كأس العالم، نعم، الآلافُ يدخلون الإسلام في قطر، وملايينُ المسلمين يخرجون من الإسلام، وهم يُسلمون أجسادهم للموت في البحار والغابات؛ بعد أن ماتت أرواحُهم تحت وطأة الفقر والظلم والاستبداد وألم الواقع.

لعبةُ أرقام هنا وهناك، وسباقٌ عبثيٌّ للوصول إلى اللا-شيء الذي ليس فيه شيءٌ مُعرفٌ إلا أداة التعريف. نجحنا في تنظيم مؤتمر أو حدث عالمي هنا وهناك، وخسرنا أنفسنا حين تجاهلنا نصرةَ صرخة مظلوم.

“الحقُّ هو حقٌّ حتى لو لم يفعله أحد، والخطأُ هو خطأ حتى لو كان الجميع على خطأ”؛ اقتباسٌ جميلٌ من الكاتب والفيلسوف الإنجليزي جيلبرت ك.شيسترتون Gilbert K. Chesterton للتحديد والدفاع عن فعل الشيء الصحيح، غالبًا ما يكون هذا هو الشيءَ الأكثرَ تحديًّا وحزنًا وتدميراً في الوقت نفسِه، حين لا يمتلك الأشخاص الطيبون الشجاعة لفعل الشيء الصحيح! لكن السؤال لماذا؟! قد يكون السبب الأبسط هو الثقةَ بأنَّهم على صواب، لكنَّ الأسبابَ المعقدة الأخرى تشمل النبذ الاجتماعي والشعور بالانتماء. لتبسيط الموضوع، وشرح هذه النقطةِ، كان هناك سؤالٌ يجول في خاطر الكثيرين: حول أداءِ ودوافعِ أعضاء البرلمانات العربية وأصحاب المناصب والسلطات بكل أشكالها؟ أو عند تحليل أداءِ الأحزابِ الإسلاميةِ السياسي حين يُوصف هؤلاء الأشخاصُ بتعبير “أدمى” (التعبير العامي لكلمة إنسان جيد)؛ لكن عندما ينخرط هؤلاء في مجموعة يمارسون القهر والتآمر والتدليس على من هم دونهم حصراً، وليس على من هم فوقهم دفاعًا عن تماسك المجموعة، أو كما في تعبير البرلمانين اللبنانيين المضحك المبكي “حتى لا يضيع البلد”! عندها ندرك دافعَهم الذي يتلخص بخوفهم من النبذ الاجتماعي وتعلقهم بالشعور بالانتماء لمجموعة ما، ولو كانوا يعلمون أنَّهم جميعًا على خطأ.

لكن بغض النظرِ عن ذلك التفسير، يجب أن نتوقف ونتساءل -هل نفعل الشيء الصحيح؟ قد لا نكون قادرين دائمًا على ذلك، لكنَّ الفشلَ الأكبرَ يكمن في عدم التشكيك في أفعالنا. من السهل أن نغضَ الطرفَ، ونسير ضمن القواعدِ الموضوعة والراسخة، التي استفضنا سابقًا في شرحها، وعلى رأسها صناعةُ الغباء في زمن التفاهة، ولكن إذا كنَّا نُضحي بمعاييرنا؛ فنحن على منحدر زلق للتضحية بقيمنا وشخصيتنا، وفي النهاية بوجودنا. يمكنك أن ترى إلى أين نحن والعالم وكأس العالم ذاهبون!! فالمشهدُ لا ينم عن شيء صحي، مهما حاولت تجميل القبيح أو إزاحة وجهك عنه. شيءٌ حضاريٌّ للغاية في مكان، وشيءٌ لا حضاري للغاية على بعد حركة إصبع على هاتفك المحمول! أخبارُ انتصار في لعبة هنا وهناك، وأخبارُ سقوط إنسانيٍّ وأخلاقيٍّ في الخبر الذي يليه!

الاستسلام إلى ديناميات الواقع وحقيقة سقوط العالم للقاع رغم ألمه، هأصبح العلاج الأنفع في قرية نهر الجنون التي نعيش بها هذه الأيام! المشهد يضطرب في وضع السُّكْر؛ ليبراليٌّ غربيٌّ متحررٌ مثقفٌ يقتل ويتأمر ويكذب؛ ليكون وطنيًّا مخلصًا في نظر ناخبيه، مسلمٌ ملتزمٌ يتآمر ويكذب ويصنع الدسائس على من يقودهم؛ لأنَّه لا يستطيع أن يفعل ذلك على من يقودونه في إشباع صريحٍ لعقدة نقصٍ دفينة، مثقفٌ متعلمٌ براغماتيٌّ يُعلبُ علمه ومبادئه بل حتى أخلاقَه، ويُسوِّق أعماله، ويُجملها؛ ليسرقَ بضعَ صفحاتٍ مطبوعٍ عليها صورةُ بنجامين فرانكلين من اللص الأكبر صاحبِ مطبعة الثروة الزائفة!

السارق من السارق كالوارث من أبيه، أصبح واقعًا براغماتيًّا قذرًا، وأصبحتِ ازدواجيةُ المبادئ والمعايير أمرًا لا نقاش فيه، أصبحتِ الأخلاقُ والحقيقة وإعمارُ الأرض والإنسانيةُ مساحيقُ تجميل يضعها الجميع؛ ليغطوا قباحةَ الوجوه عندما تسقط الأقنعة!

الأمر ليس لمهاجمة حدث هنا وهناك أو نجاح هنا وهناك، بل دعوة للعودة بالتفكير خارج الصناديق التي أودت بنا إلى التهلكة، وأبدعت في تكريس الانحراف الفكري والأخلاقي عن الفطرة السليمة!

هناك صديقٌ متقاعدٌ كان دائمًا يسألني: ما السبيل لننجوَ بلدًا ومجتمعًا وأمة، أمَّا الآن ،فهو يسألني: ما السبيل لينجو هو فقط؟! الرسالةُ السماوية ليست شعائرَ ومظاهرَ تصنعُها ملياراتٌ هنا وهناك، بل منهجُ حياة، وفلسفةُ وجود، وميزانُ تفكيرٍ لا يمكن اجتزاءُ قسمٍ منه، والتشبثُ بقسم آخر، كيف تقنعني أنَّك تهديني العطور في مكان ما، وأنا غريبٌ عنك!!! وتحرم أخاك من ماء نظيف!!! قال مالك بن دينار رحمه الله: كفى بالمرء خيانةً أن يكونَ أمينًا للخَوَنة، والخيانةُ هنا تشمل كلَّ شيء: الأخلاقَ، نصرةَ الحق، الدفاعَ عن المظلوم بغض النظر عن لونه وعرقه، المبادئَ الإنسانية والقائمة تطول……..

أخيرًا يقول ثيودور روزفلت: في لحظات اتخاذ القرار، أفضلُ شيءٍ يمكنُك فعلُه هو الشيءُ الصحيح، والشيء التالي الأفضل هو الشيء الخطأ، وأسوأ شيء يمكنك فعله هو لا شيء. وهذا بالضبط ما نفعله اليوم “لا شيء”.

ملاحظة: هذه المقالة لأنجُوَ بنفسي فقط

زر الذهاب إلى الأعلى