بعد تأجيلها لأكثر من مرة، نجحت(1) المهمة “أرتميس 1″، التابعة لوكالة الفضاء والطيران الأميركية (ناسا)، في الانطلاق ناحية القمر بنجاح، حاملةً 3 دمى تجريبية و10 أقمار صناعية صغيرة، في أول تحرك جدي في خطة العودة إلى القمر. تعد “أرتميس 1” جزءا من مهمة أكبر تتكون من 3 مهام جزئية، تنطلق الثانية في عام 2024، أما الثالثة فمن المتوقع أن تنطلق في عام 2025.
تتراوح مدة المهمة الحالية بين 26 و42 يوما منذ لحظة انطلاقها، منها 6 أيام على الأقل ستتخذ خلالها مدارا تراجعيا بعيدا حول القمر (أي ستدور عكس اتجاه دوران القمر)، مع سلسلة من الاقترابات، وفي أثناء ذلك ستطلق المهمة الأقمار الصناعية الصغيرة من فئة “كيوب سات (CubeSat)” لدراسة سطح القمر وبناء خرائط حديثة لمناطق نزول رواد الفضاء، بعد ذلك ستعود المركبة الفضائية أوريون إلى الأرض، ثم ستدخل إلى الغلاف الجوي محمية بدرعها الحراري، وتهبط في المحيط الهادئ.
تستخدم المهمة “أرتميس 1” نظام الإطلاق الصاروخي (Space Launch System) (SLS)، وهو نظام إطلاق صاروخي جديد للمركبات الفضائية بقدرات فائقة، وبحسب وكالة ناسا فهو أقوى أنظمة الإطلاق التي طورتها الوكالة على الإطلاق، ويمكنه إرسال حمولة تقارب 20 طنا إلى القمر. أعلى الصاروخ توجد كبسولة رواد الفضاء المسماة “أوريون”، وهي النسخة الأحدث على الإطلاق من كبسولات رواد الفضاء.
صاروخ نظام الإطلاق الفضائي (SLS) مع كبسولة طاقم أوريون. (رويترز)
تعد “أرتميس 1” اختبارا لقدرة نظام الإطلاق الصاروخي الذي يعمل لأول مرة، وكذلك قدرات “أوريون” في العمل بالفضاء والعودة إلى الأرض، ومع نجاحها يُتوقَّع أن تحمل الرحلة التالية رواد فضاء إلى القمر لكنهم لن ينزلوا إليه، وبافتراض نجاح الرحلة الثانية في 2024 ستنطلق الرحلة الثالثة والأخيرة عام 2025 حاملةً رواد فضاء للنزول الفعلي إلى سطح القمر، بتكلفة إجمالية للمهمة الكاملة قُدِّرت بنحو 100 مليار دولار.
عدو جديد
هذا المبلغ الهائل لا شك يدفع للتساؤل عن أهداف الولايات المتحدة الأميركية من الصعود للقمر مرة أخرى بعد نحو نصف قرن من رحلات أبولو التي نجحت في الهبوط على القمر لأول مرة عام 1969. يمكن بالطبع أن نتوقع أن الدوافع السياسية لها دور قوي في مهمة كهذه، حيث تُقدم هذه المهمة بوصفها امتدادا لرحلة أبولو السابقة، وتبدأ من حيث وقف الأميركيون على القمر في المرة الأولى (في الأساطير اليونانية فإن أرتميس هي الأخت التوأم لأبولو). تهدف الإدارة الأميركية كما يبدو إذن لإعادة إحياء الشعور بالتميز، خاصة في أجواء تتخذ فيها الصين خطوات واسعة ناحية الفضاء.
في الواقع، كان المسؤولون الصينيون قد أعلنوا مؤخرا عن خطة لإنشاء محطة للأبحاث القمرية بالاشتراك مع روسيا، تتضمن وجودا ثابتا لرواد الفضاء على القمر. يأتي ذلك بعد نجاحات متنوعة لبكين في هذا النطاق، فمثلا كان المسبار الصيني “تشانغ إي 4″(2) قد هبط في يناير/كانون الثاني 2019 على الجانب الآخر للقمر، ذلك الذي لا يقابلنا على الأرض، في سابقة هي الأولى من نوعها في التاريخ، حيث أعلن التلفزيون الصيني الخبر مع عرض مجموعة من الصور التي تظهر فيها أرض القمر من الجانب الآخر، وسط فرحة عارمة بالإنجاز.
هبط في يناير/كانون الثاني 2019 على الجانب الآخر للقمر، ذلك الذي لا يقابلنا على الأرض، في سابقة هي الأولى من نوعها في التاريخ. (شترستوك)
تهدف المركبة الصينية إلى عمل مسح جيولوجي دقيق لتلك المنطقة؛ لعدة أسباب، منها بيان ودراسة الفوارق والاختلافات بين وجهَي القمر. من جهة أخرى تهدف المركبة إلى عمل تجارب بيولوجية لدراسة كيفية نمو وتطور ديدان القز، والبطاطا، وبعض النباتات الأخرى على هذا الجانب من القمر، مع جمع ملاحظات مهمة تتعلق بعلم الفلك الراديوي والاستفادة التي يمكن الحصول عليها من هدوء هذا الوجهة القمري.
ولا يمكن بالطبع أن نفوت أن التلسكوب الصيني الراديوي(3) بقُطر 500 متر (the Five-hundred-meter Aperture Spherical Telescope)، أو فاست (FAST) كما يُعرف اختصارا، الذي يتكون من حوالي 4500 لوح معدني مثلث الشكل؛ هو الأكبر على وجه الأرض الآن، هذا ولم نتحدث بعدُ عن معدلات إطلاق الصواريخ الفضائية الصينية المتصاعدة عاما بعد عام، والمحطة الفضائية الصينية التي بدأت العمل بالفعل، والتي ستصبح المحطة الفضائية الوحيدة عالميا بعد تقاعد المحطة الفضائية الدولية خلال أقل من 10 سنوات.
تنطلق الولايات المتحدة إلى القمر مجددا مدفوعة بتحديات المنافسة إذن، ومستفيدة من دروس نجاح محطة الفضاء الدولية، التي بنتها 5 دول، واستخدمها رواد فضاء من 20 دولة. ففي أرتميس، يشارك العديد من الدول الأوروبية في كل من الصاروخ وكبسولة رواد الفضاء، ومن المتوقع مشاركة عدد أكبر من الدول في المهام القادمة، يصل إلى 21 دولة إلى الآن معظمها دول أوروبية إضافة إلى اليابان وأستراليا، هذه الدبلوماسية العلمية تقوي وضع الولايات المتحدة الأميركية بين حلفائها، وتظهرها مركزا للتقدم العلمي لا يمارس الإقصاء.
كانت هذه الحيل السياسية سببا في انتصار الولايات المتحدة الأميركية في أثناء صراعها مع السوفييت في الخمسينيات والستينيات خلال الحرب الباردة حينما كسبت سباق الصعود للقمر في المرة الأولى، وهي الآن تنخرط في صراع جديد مع الصين، لكن في الواقع فإن الثقل السياسي لرحلات الصعود للقمر ليس كما كان الحال قبل نصف قرن، ولو كان السبب سياسيا فقط فلربما ألغت الولايات المتحدة الفكرة بسبب تكلفتها الباهظة، إلا أن لها هذه المرة غرضا جديدا مختلفا يتعلق بالسباق على الموارد.
اقتصاد القمر
لقد اختلف القمر كثيرا خلال نصف قرن منذ صعود البشر إليه في المرة الأولى، الآن نعرف أنه ليس مجرد “خراب رائع” كما قال “باز ألدرين”، رائد الفضاء الأميركي الذي شارك في مهمة الصعود إلى القمر نهاية الستينيات. لم تعد فكرتنا عن القمر أنه أرض ممتدة قاحلة، بلا ماء أو هواء أو أي ثروات تُذكر، بعدما أثبتت الأبحاث الأخيرة أن الأملاح المعدنية على سطح القمر تحتوي على كمٍّ هائل من الأكسجين والسيليكون والماء المثلج.
أضف إلى ذلك أن هناك تطلُّعات لإمكانية استخراج أحد نظائر الهيليوم (الهيليوم 3)(4) من القمر، تحوي الأرض من هذه المادة عدة كيلوجرامات فقط، أما تربة القمر فيُعتقد أنها تحتوي على ما يقدر بمليون طن منها بسبب التفاعل المباشر مع أشعة الشمس عبر ملايين السنين، يمكن أن يساعد “الهيليوم 3” في تطوير صور أكثر أمنا، وأرخص بفارق واسع، من التفاعلات النووية، ومن ثم توفير قدر هائل من الطاقة سنويا، وما سبق كان فقط على سبيل المثال لا الحصر.
يُعتقد اليوم أن الدولة التي تتمكن أولا من السيطرة على كم هائل من الموارد الفضائية سوف تمتلك أقوى اقتصاد في العالم لا شك، ولكن هناك مشكلة واحدة في هذا السياق، حيث يتسم قانون الفضاء الدولي بالغموض حينما يتعلق الأمر بالكيفية التي يمكن أن تجري الأعمال التجارية في الفضاء من خلالها، تقول معاهدة الفضاء الخارجي(5)، والتي تم التفاوض عليها من خلال الأمم المتحدة ودخلت حيز التنفيذ لأول مرة في عام 1967 بمشاركة أكثر من 100 دولة، إن القمر والأجرام السماوية الأخرى “يجب أن تكون متاحة للاستكشاف والاستخدام”.
تتبنى الولايات المتحدة وجهة نظر تقول بأن “الاستخدام” يعني أنه يمكن للناس استخراج الموارد بحرّية من الفضاء، تبنت دول قليلة أخرى مثل لوكسمبورغ والإمارات العربية المتحدة هذا الرأي أيضا، في محاولة لجذب شركات الفضاء الوليدة، والتي تعنى بشكل خاص بحرث الموارد الفضائية، وعارضت كل من روسيا والصين هذا التوجه، وقالتا إن أي استخدام للموارد يجب أن يتم لمنفعة ومصالح جميع البلدان، بغض النظر عن درجة تطورها الاقتصادي أو العلمي.
عسكرة فضائية
حسنا، لا يقف الأمر عند الرغبة في حرث الموارد، لكنه يمتد إلى ما هو أعمق من ذلك. لدى الولايات المتحدة وروسيا والصين طموحات لإرسال بعثات إلى القمر في العقد المقبل، وسيتجهون جميعا إلى المكان نفسه تقريبا، وهو المنطقة القطبية الجنوبية للقمر، بمواردها الثمينة المحتملة وإمكاناتها الاقتصادية المتوقعة طويلة الأمد، مع هذا الدفع المتجدد للقمر، والعوائد المربحة التي قد تنتج، فإن المصلحة العسكرية لا بد أن تظهر في مرحلة ما.
يعود الاهتمام العسكري الأميركي بالقمر إلى خمسينيات القرن الفائت، حين اقترح الجيش الأميركي إنشاء قاعدة عسكرية مأهولة على القمر تسمى “المشروع هورايزون (Project Horizon)” لإجراء الاختبارات الصاروخية لا سيما النووية منها، لكن لم تكتسب تلك المقترحات أي زخم، أما في الآونة الأخيرة فقد تحدث الجيشان الأميركي والصيني عن إجراء عمليات عسكرية خارج مدار الأرض لسنوات، وبالفعل تعمل القوى العظمى على تطوير أنظمة دفاعية يمكنها الخروج من الغلاف الجوي، يعني ذلك أن العمليات العسكرية قد تخطت بالفعل حاجز الكوكب متجهة نحو الفضاء.
في هذا السياق، تقوم قوة الفضاء الأميركية، وهي فرع من الجيش الأميركي تأسس في عام 2019، باتخاذ إجراءات بشأن كل ما يتعلق بالفضاء الخارجي، ويُتوقع أن تمتلك تلك القوة دورا قد يؤدي إلى إشراك الجيش الأميركي في عمليات قمرية مستقبلية لأغراض الأمن، وبالطبع سوف يُشعِر ذلك دولا أخرى مثل الصين بالحاجة إلى تصعيد نشاطها العسكري ورفعه إلى مستوى القمر، وهكذا فإن الذي يوجد على القمر أولا سيمتلك سيطرة وخبرة أكبر لا شك.
من القمر للمريخ
الرحلة إلى المريخ تختلف كليا عن الرحلة إلى القمر، المسافة وحدها تكفي، فبدلا من أيام قليلة نحتاجها للوصول إلى القمر، سيحتاج الأمر إلى 6-7 أشهر للوصول إلى المريخ. (شترستوك)
لكن إلى جانب كل ما سبق، يتبقى أن هناك مجموعة من الأهداف العلمية لتلك الرحلة تتعلق بمسار بدأته ناسا منذ عقود طويلة لدراسة أصول المجموعة الشمسية من خلال فهم تركيبة القمر، لكن الأمر يتوسع هذه المرة إلى عملاق يسمى “من القمر للمريخ(6) (Moon To Mars)”.
في الواقع فإن المهمة أرتميس بالكامل هي نسخة مصغرة من تجربة أكبر، هي الرحلة للمريخ، ليس فقط للتأكد من جودة ودقة الصواريخ وكبسولات الفضاء وغير ذلك من تقنيات، لكن كذلك لعمل دراسة موسعة لأثر الفضاء على البشر لمدد طويلة، وكذلك قدرتنا على بناء محطات كاملة على أراضٍ غير أرضنا، وإمكانية استخدام الموارد القمرية وقودا أو مصادر مياه لرواد الفضاء في تلك المحطات، ستتم دراسة كل ذلك على مدى طويل يصل إلى الثلاثينيات من القرن الحالي. ومع إتمام دراسة الوضع القمري، من المنتظر أن تنطلق الرحلة الأولى المحملة بالبشر إلى المريخ.
الرحلة إلى المريخ تختلف كليا عن الرحلة إلى القمر، المسافة وحدها تكفي، فبدلا من أيام قليلة نحتاجها للوصول إلى القمر، سيحتاج الأمر إلى 6-7 أشهر للوصول إلى المريخ، طوال تلك الفترة سيظل رواد الفضاء في وضع الجاذبية الصفرية، وسيتأثرون بالأشعة الكونية، أضف لذلك أن هناك نموذج عمل يفترض أن بناء محطات مريخية بمواردنا الحالية سيكون مكلفا جدا لدرجة أنه لن يتمكن أحد من ذلك، ومن ثم يجب علينا احتراف بناء المحطات اعتمادا على موارد الجرم الذي نهبط عليه (أكان قمرا أو كوكبا)، والتجربة على القمر ستكون مفيدة في هذا الشأن.
في كل الأحوال، يتبقى أن عودة الإنسان إلى القمر ستكون -لا شك- مثيرة، خاصة مع كاميرات أحدث وعالم رقمي بالكامل وتقنيات أحدث بفارق شاسع مقارنة بستينيات القرن الفائت، لذلك فإن التجربة لا شك ستكون مؤثرة بالنسبة إلى من سيعاصرونها، إلا أن الحدث الاستثنائي الحقيقي الذي ننتظره هو هبوط أول إنسان على سطح المريخ، لا نعرف بعدُ أيَّ دولة ستنجح في ذلك، لكن الأميركيين يسابقون بشدة في هذا المضمار.
______________________________
مصادر:
1- ARTEMIS I
2- 1,000 days on the moon! China’s Chang’e 4 lunar far side mission hits big milestone
3- Five-hundred-meter Aperture Spherical radio Telescope
4- Helium-3 mining on the lunar surface
5- Treaty on Principles Governing the Activities of States in the Exploration and Use of Outer Space, including the Moon and Other Celestial Bodies
6-Moon to mars
المصدر: الجزيرة. نت