قليل من الناس عندنا اليوم يدركون العلاقة اللغوية بين الإمبريالية والإمبراطورية مع أنهما شيء واحد. تحيل الثانية، في أذهان عموم الجمهور، إلى الماضي الذي شهد صعود امبراطوريات وانحدارها، كالإمبراطورية البريطانية واليابانية والصينية والعثمانية والروسية وغيرها. في حين أن مفهوم الإمبريالية ارتبط، في مئة العام الأخيرة التي تلت الثورة البلشفية، بـ«أعلى مراحل الرأسمالية» وفقاً لتعبير لينين، ليشمل فقط الدول الرأسمالية المتطورة، وبخاصة تلك التي كانت لها مستعمرات قبل الحرب العالمية الثانية، كفرنسا وبريطانيا بصورة رئيسية. ربما لا يعرف أكثر شاتمي الإمبريالية اليوم أن هولندا وبلجيكا واسبانيا والبرتغال والنمسا كانت إمبرياليات تتبعها مستعمرات أيضاً في افريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، لكنها اليوم دول عادية صغيرة مساحةً وبعدد السكان.
في حقبة الحرب الباردة طوّر السوفييت مفهوم الإمبريالية بحيث يشمل كل دولة رأسمالية متطورة لها استثمارات في دول ما نسميه «الجنوب» أو تقيم معها علاقات تجارية «غير متكافئة» بما يؤدي إلى «هيمنة إمبريالية» غير مباشرة أي بلا احتلال عسكري مباشر، فأصبح تخلف الجنوب وفقره هو بسبب العلاقة الإمبريالية، في حين أنه من الحصافة عدم استبعاد تحليل معاكس فحواه أن تخلف الجنوب هو ما يؤدي إلى عدم تكافؤ العلاقة مع «الشمال الغني». فقد انتهى عصر الاستعمار المباشر منذ نحو سبعين عاماً وحظيت المستعمرات السابقة بفرصة مديدة للنهوض لكنها أهدرتها لمصلحة الصراع على السلطة في كل بلد، في نوع من السعي إلى استعمار داخلي يحل محل الاستعمار الخارجي الذي ولّى بلا رجعة.
غير أن مفهوم الإمبريالية تحول إلى مجرد مادة للشعارات على أيدي تيارات قومية ويسارية وإسلامية متصارعة على السلطة والثروة في أكثرية بلدان الجنوب، وابتذلها البعثيون بصورة خاصة إلى درجة أنها باتت مجرد شتيمة ضد الخصوم كالقول إن الحزب الفلاني أو النظام الفلاني هو «عميل للإمبريالية» بإطلاق القول. كذلك لعب قيام إسرائيل في قلب المنطقة العربية، والصراع العربي معها المستمر بأشكال مختلفة إلى اليوم، دوراً كبيراً في شيطنة مفهوم الإمبريالية وتحويلها إلى اتهام وشتيمة، وذلك بسبب الدعم الثابت لإسرائيل في هذا الصراع من قبل بريطانيا أولاً ثم الولايات المتحدة. ليس القصد من هذا القول تبرئة الدول الداعمة لقيام إسرائيل وتأمين تفوقها العسكري بثبات، بل وصمها بالإمبريالية وكأن هذه الصفة هي سبب دعمها لإسرائيل، أو العكس أي أن دعمها لإسرائيل هو مبرر وصفها بالإمبريالية.
ولو توقف الأمر عند مستوى التحليل أو الوصف لربما كان أقل أذى، فضلاً عن كونه جديراً بالمناقشة، فالتاريخ الاستعماري لـ«الرجل الأبيض» لا يمكن إهماله كسبب في إفقار وتأخير نهوض البلدان التي تعرضت للغزو. ولكن مع مرور الزمن واستتباب السلطة لأنظمة متوحشة تتعامل مع السكان الواقعين تحت حكمها بفظاعة لم تبلغها أي سلطات احتلال استعمارية، ناهيك عن «الإمبريالية»، أصبحت الشعارات المعادية للإمبريالية مجرد أداة قمع إضافية بأيدي الأنظمة المشار إليها، سلاحاً أيديولوجياً فارغاً من المحتوى لكنه فعال ضد أي خصوم أو منافسين محتملين على السلطة، وإرهاباً استباقياً ضد أي مقاومة اجتماعية محتملة. مع العلم أن معظم الأنظمة الموصوفة هنا مدينة بديمومة حكمها أصلاً لرضى أولئك الإمبرياليين المولعين بـ«الاستقرار». حتى نظام آيات الله في إيران صاحب الصوت الأعلى عالمياً في معاداة «الاستكبار» (مرادف كلمة الإمبريالية في الخطاب الإيراني) مدين اليوم ببقائه لكون الإمبرياليين لا يفعلون شيئاً (ولن يفعلوا) لمساعدة الشعب الإيراني الذي قرر التخلص منه. بل أكثر من ذلك «باض» الرئيس الأمريكي جو بايدن قبل يومين تصريحاً غبياً يساعد النظام على دعم وصفه للثورة الشعبية بأنها «مؤامرة إمبريالية صهيونية» والذي منه.
غير أن أكثر ما يثير الاستغراب هو أن معظم فرسان معاداة الإمبريالية في منطقتنا يتجاهلون إمبريالية النظامين الروسي والإيراني، وليتهما امبرياليتان من النمط الكلاسيكي الذي ارتبط بالاستعمار الأوروبي، بل هما أقرب إلى النزوع الإمبريالي الألماني الذي وجد ذروة تجليه في الحرب العالمية الثانية بقيادة هتلر. تعزى شراسة النزوع الإمبريالي الألماني إلى كونه قد جاء متأخراً عن الإمبرياليات الاستعمارية الفرنسية والبريطانية للحصول على نصيبها من ثروات الدول الأخرى. فاليوم نشاهد ما يشبه ذلك لدى كل من روسيا وإيران (وتركيا بدرجة ما) أي ذلك النزوع إلى التمدد الإمبراطوري لتلافي تفكك إمبراطورياتها الغابرة.
ما هي الإمبريالية إن لم تكن التمدد الجغرافي بالسيطرة على أراضي دول مجاورة كما تفعل روسيا اليوم، وإن لم تكن الهيمنة من خلال اختراق مجتمعات دول أخرى كما تفعل إيران في دول عربية، وإن لم يكن التدخل العسكري المباشر كما تفعل تركيا في سوريا وليبيا وأذربيجان، بصرف النظر عن تقييم تلك التدخلات من قبل الأطراف في الصراعات المحلية المحتدمة. فما كان لهذه الدول ذات النزوع الإمبريالي المتأخر أن تتمدد في البلدان الأخرى ما لم تكن هناك أطراف محلية تخوض صراعاً على السلطة مع أطراف منافسة، تستقوي على منافسيها بدول ذات منازع إمبريالية. ينطبق هذا على جميع الحالات في سوريا وليبيا واليمن وحتى أوكرانيا حيث المقاطعات الشرقية ذات الغالبية السكانية من أصول روسية.
غير أن المقارنة، بجميع المعاني، بين إمبرياليات الأمس ونظيراتها اليوم تعيد التأكيد على مقولة هيغل الشهيرة بأنه إذا كانت الأولى مأساة فالثانية هي مهزلة، مهزلة دامية طبعاً.
المصدر: القدس العربي