بعد إنكارٍ استمرّ أسابيع، أقرّت إيران أنّها زوّدت روسيا بطائرات مسيّرة، استخدمتها هذه الأخيرة في ضرب أهداف مدنية في حربها على أوكرانيا. وكانت وسائل إعلام أميركية قد نقلت منذ أغسطس/ آب الماضي عن مصادر استخبارية غربية تقارير تفيد بتزويد إيران روسيا بطائرات مسيّرة، قبل أن تتبنّى إدارة الرئيس بايدن هذه الاتهامات. لكن لماذا تخفي إيران دعمها روسيا ولماذا تنكر تزويدها بالسلاح؟ أليست روسيا حليفتها؟ أليس حريّاً بالحلفاء دعم بعضهم عند الحاجة، وإلّا ما منطق تحالفهم؟
واقع الحال أنّ المرء يجد، بعيداً عن الاعتبارات الأيديولوجية، صعوبة في تحديد مكسب فعلي تجنيه إيران من دعمها روسيا في حرب أوكرانيا. لا بل يمكن القول إنّ إيران ترتكب هنا خطأ كبيراً آخر يضاف إلى سلسلة الأخطاء الكبرى التي ارتكبتها في سياستها الخارجية خلال السنوات القليلة الماضية، مثل فشلها في تقدير التزام الجمهوريين (ترامب تحديداً) بإبطال الاتفاق النووي الذي وقّعته إدارة الرئيس حسن روحاني مع الديمقراطيين، وفشلها في تقدير استعجال إدارة الرئيس بايدن العودة إلى الاتفاق بعد فوزه بالرئاسة، وفشلها في تقدير مدى عجز الأوروبيين عن تحدّي واشنطن بشأن الاتفاق النووي أو الالتفاف على عقوباتها، وفشلها في تقدير استعداد الصين لمواجهة واشنطن من أجل علاقات قوية مع إيران، رغم كل الإغراءات التي قدّمتها طهران لبكين (صفقة الـ 450 مليار دولار المزعومة)، وفشلها في تقدير حساسية الولايات المتحدة تجاه الهجمات على سفاراتها في الخارج، عندما قتلت واشنطن قائد فيلق القدس قاسم سليماني في يناير/ كانون الثاني 2020 ردّا على هجومٍ تعرّضت له السفارة الأميركية في بغداد في ديسمبر/ كانون الأول 2019، وفشلها في تقدير عمق التفاهمات الروسية – الإسرائيلية في سورية، وفشلها في تقدير حجم الاختراقات الإسرائيلية والغربية لبنية النظام الإيراني، وغير ذلك من الأخطاء التي تزيل عن إيران صفة الشطارة، وتبدّد الأساطير التي نُسجت عن دهاء حائك السجاد الإيراني.
ورغم أنّه من الصعب، بعد إحكام المحافظين قبضتهم على كلّ مراكز القوى في إيران، خصوصاً بعد وصول إبراهيم رئيسي إلى الرئاسة صيف عام 2021، والحديث عن تيارات داخل النظام، فإنّ الخارجية الإيرانية (المقصود جهاز الخدمة المدني Civil Service) كانت على الأرجح غير متشجّعة لفكرة تزويد روسيا بالسلاح، لأسباب عدة، أولها أن إيران تسجّل بهذا الموقف سابقة خطيرة بدعمها رسمياً غزو دولة ذات سيادة وعضو في الأمم المتحدة، وهو ما لم تفعله إيران (رسمياً وبشكل معلن) عندما أقدمت واشنطن على غزو أفغانستان والعراق، مع أنّ ذلك أسفر عن إطاحة اثنين من أشد خصومها (حركة طالبان وصدّام حسين)، لأنّ ذلك يمكن أن يضعها هي نفسها في دائرة الخطر. الثاني، أنّ دعم إيران روسيا بشكل معلن يعني توحيد مواقف القوى الغربية ضد طهران. وكانت إيران قد نجحت، منذ انسحاب ترامب من الاتفاق النووي في مايو/ أيار 2018، في فصل الأوروبيين عن واشنطن، وبالتالي رفضهم الانضمام إلى العقوبات الأميركية ضد إيران. أما الآن، وقد باتت إيران في صف روسيا، فقد بدأت تنهال عليها حزم العقوبات الأوروبية، وباتت أوروبا تقترب من تصنيف الحرس الثوري ضمن قائمة التنظيمات الإرهابية، بعدما كانت إيران تجهد لرفعه عن القائمة الأميركية. ثالثاً، ليس لدى روسيا التي باتت ضعيفة ومعزولة وتحت العقوبات شيء تقدّمه لإيران في مقابل دعمها، حتى الأسلحة التي كانت إيران تأمل الحصول عليها من روسيا سابقاً، مثل طائرات سوخوي ومنظومات إس 400، باتت خارج متناول اليد الآن، لأنّ روسيا باتت تحتاج كلّ قطعة سلاح تنتجها لتموين حربها في أوكرانيا.
بناء عليه، يبدو مرجّحاً أنّ الموقف الذي اتخذته إيران من الحرب الروسية على أوكرانيا خضع بالمطلق لاعتبارات أيديولوجية، ولغرض أساسي مرتبط بمنع هزيمة روسيا في أوكرانيا، لأنّ من شأن ذلك إضعاف النظام الإيراني. لكن حتى الحسابات هنا كانت خاطئة، إذ كيف يمكن لطائرات مسيّرة بتصميم بدائي، كما بيّنت صور الطائرات التي جرى الاستيلاء عليها، أن تغيّر مجريات معركة كبرى، انكشفت فيها بوضوح موازين القوى في النظام الدولي، خصوصاً لجهة تواضع قدرات روسيا والصين فيها، خلال هذه المرحلة على الأقل.
المصدر: العربي الجديد