ضغوط كي تراجع أميركا سياستها للتركيز على دحر النفوذ الإيراني في الشرق الأوسط. بعد رفض مسؤولين في الإدارة الأميركية استئناف مفاوضات الاتفاق النووي الإيراني الآن، الذي طالبت به طهران، وتأكيد تركيزهم على دعم المحتجين وفرض مزيد من العقوبات على النظام الإيراني لقمعه التظاهرات، تتصاعد الضغوط في واشنطن لدعم تغيير النظام الإيراني أو على الأقل إحداث تحول في سياسة الولايات المتحدة حيال طهران نتيجة اقتراب التهديد الإيراني من أوروبا عبر دعمها روسيا ضد أوكرانيا وتزويدها بطائرات “الدرون” والصواريخ الباليستية، كما تثار أسئلة بين صانعي القرار في واشنطن ولندن وباريس عما إذا كان الوقت مناسباً لمراجعة سياساتهم في الشرق الأوسط بما يؤدي إلى دحر النفوذ الإيراني في المنطقة وتوفير مزيد من الدعم لحلفاء الغرب، فهل يتغير موقف الإدارة الأميركية؟
ضغوط واسعة
فيما تواجه إدارة الرئيس جو بايدن دعوات متزايدة من النشطاء الإيرانيين وعدد من السياسيين الأميركيين لدعم تغيير النظام الإيراني بشكل علني في ظل موجة من الاحتجاجات، يبدو أن بايدن ومساعديه غير مستعدين للذهاب إلى هذا الحد، ويرسمون مساراً وسطياً يعبر عن دعم المحتجين الإيرانيين عبر فرض بعض العقوبات، والتحرك بطرق مختلفة في محاولة لمنع إيران من تصدير أسلحتها لروسيا كي تستخدمها ضد أوكرانيا، لكن هذا الطريق لا يرقى إلى مستوى حملة ضغط شاملة لعزل الحكومة الإيرانية أو التخلي عن المحادثات النووية مع الحكومة الإيرانية، بحسب ما قال ستة مسؤولين أميركيين لصحيفة “بوليتيكو”.
وعلى الرغم من منطق الإدارة الأميركية في أن صياغة سياسة واشنطن تجاه الشرق الأوسط قد تكون أكثر صعوبة، إذا تمكن النظام الإيراني من إخماد الاحتجاجات والظهور أكثر جرأة لمتابعة برنامج نووي والتسبب في مشكلات في المنطقة، إلا أن هذه الاستراتيجية الشاملة تخيب آمال الكثيرين الذين ينظرون إلى الدور الإيراني على أنه معطل لجهود الولايات المتحدة، ليس فقط في الشرق الأوسط وإنما في أوروبا، وقد يمتد مستقبلاً إلى أبعد من ذلك بكثير، ويرون فرض سلسلة جديدة من العقوبات الأميركية على المسؤولين الإيرانيين المتورطين في الحملة المستمرة على الاحتجاجات، وجهود أميركا وأوروبا لمواجهة التعاون الإيراني الروسي المتزايد في الحرب ضد أوكرانيا بمثابة تهديد خطير لمصالح الولايات المتحدة.
تحذيرات من الخطر الإيراني
ويحذر خبراء أمنيون في واشنطن من عواقب التعاون الإيراني الروسي، وتقول بيكا واسر الخبيرة في برنامج الدفاع بمركز الأمن الأميركي الجديد، إن استخدام روسيا طائرات “الدرون” الإيرانية في أوكرانيا، الذي تم رصده وتوثيقه، أوائل هذا الشهر، هو دليل على درجة التعاون العسكري العميقة التي وصل إليها البلدان، وهو امتداد لتوجه انتقالي بين الجانبين، لكنه يمنح إيران فرصة كي تظهر على الساحة الدولية كمورد سلاح لمشترين محتملين لا يشترون السلاح من الولايات المتحدة والدول الغربية أو حتى الصين إذا ما كانوا قادرين على تجنب العقوبات المفروضة على إيران.
كما يوفر ذلك لإيران ساحة لرد الضربات ضد الولايات المتحدة والغرب كنوع من الاعتراض على العقوبات التي فرضت على طهران نتيجة انتهاكاتها في قمع المتظاهرين وحقوق الإنسان وتهديداتها للدول المجاورة وتزويدها الأسلحة للجماعات الوكيلة لها في الشرق الأوسط، لكن بالنسبة إلى روسيا، فإن إيران كانت وسيلة مناسبة للسماح لها بتوجيه ضربات للبنية التحتية والأهداف العسكرية والمدنية داخل أوكرانيا، في الوقت الذي تستنفد فيه مخزونات موسكو من الأسلحة المتقدمة دقيقة التوجيه أو بسبب العقوبات المفروضة عليها من الغرب، وهذا يفيد مصالح روسيا بالتأكيد لكنه قد لا يعني تعميق الروابط إلى أقصى حد.
عواقب جيوسياسية
ويشير جون هاردي وبهنام بن تالبلو الخبيران في مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات إلى أن إيران تخوض الآن، ولأول مرة، حرباً كبرى في القارة الأوروبية، والمستشارون العسكريون الإيرانيون، ومنهم على الأرجح أعضاء في الحرس الثوري، موجودون على الأرض في أوكرانيا لمساعدة روسيا على توجيه طائرات “الدرون” الإيرانية القاتلة من طراز “كاميكازي” على المدن الأوكرانية والبنية التحتية المدنية، وقد تزود روسيا ليس فقط بآلاف محتملة من الطائرات “الدرون” الإضافية ولكن أيضاً بنوعين من الصواريخ الباليستية الإيرانية الصنع لتكملة مخزون روسيا المتضائل منها، وهو ما ينذر بعواقب جيوسياسية تمتد إلى أبعد من الحرب في أوكرانيا بكثير.
أول هذه العواقب أن إيران من خلال تصعيد دعمها لروسيا للفوز بالحرب، تأمل في دفع مشروعها الضار في الشرق الأوسط واستخدام الدروس المستقاة من ساحة المعركة الأوكرانية لتحسين قدرات طائرات “الدرون” والصواريخ الإيرانية، من خلال التعلم من تجارب واسعة النطاق لمنصاتها الصاروخية وطائراتها ضد أنظمة الدفاع الجوي الغربية الصنع وغيرها من الأسلحة، ومن المؤكد أن طهران ستطبق الدروس المستفادة من المسرح الأوكراني على تطوير الأسلحة والتكتيكات المستقبلية في الشرق الأوسط، كما أنه من المرجح أن يأمل النظام في إيران أن يؤدي تأجيج الأزمة في أوكرانيا إلى تشتيت انتباه الغرب عن مواجهة سعي إيران لتوسيع نفوذها التخريبي في الشرق الأوسط.
معنى استراتيجي
ويوضح هاردي وتالبلو، في مقال نشره موقع “فورين بوليسي”، أن صفقة تزويد روسيا بهذه الطائرات والصواريخ والمستشارين العسكريين لها معنى استراتيجي بالنسبة لطهران، إذ يمكن أن تثبت قيمة النظام الإيراني لأحد شركائها الرئيسين في العمل المناهض للغرب، كما يثير التوافق والتعاون الوثيق بين موسكو وطهران التساؤل عما قد تحصل عليه إيران في المقابل، إذ يمكن الآن عرض الطائرات المقاتلة الروسية المتقدمة أو نظام الدفاع الجوي “أس-400” الذي رفضت موسكو في السابق بيعه لطهران.
وبالنسبة لحكام إيران، فإن دعم الحرب الروسية في أوكرانيا هو أيضاً توسيع لهجومهم ضد الغرب، فعلى مدى عقود، سعت إيران إلى توسيع نفوذها وإضعاف منافسيها من خلال توفير الأسلحة إلى الجماعات المسلحة في الشرق الأوسط، مثل “حزب الله” اللبناني والمتمردين الحوثيين في اليمن، والآن تطبق طهران استراتيجية انتشار الأسلحة نفسها في أوروبا، ومن خلال تأجيج الأزمة في أوكرانيا، من المحتمل أن تأمل إيران تحويل انتباه القيادات الأميركية المتعاقبة عن الشرق الأوسط، بخاصة بعد أن أشارت واشنطن في ظل ثلاثة رؤساء متعاقبين، إلى أنها تفضل خفض وجودها العسكري من المنطقة لتحويل الموارد العسكرية إلى مكان آخر في شرق آسيا، لكن الآن بعد أن اجتذبت حرب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في أوكرانيا الاهتمام والموارد الغربية، ترى طهران فرصة ذهبية لتغذية هذا الاتجاه.
خدمة المصالح الإيرانية
ومنذ بداية الحرب، اعتبرت إيران الهجوم الروسي رداً مشروعاً على المخاوف الأمنية في شأن تصرفات الولايات المتحدة وحلف “الناتو”، وأبدت الإدارة الجديدة للرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي إعجابها بالسياسة الخارجية العملية لروسيا، وسئم المسؤولون الإيرانيون من التحلي بالصبر الاستراتيجي وأصبحوا أكثر حزماً في ضوء العداء الطويل الأمد بين إيران والولايات المتحدة، إلى جانب فشل الاتفاق النووي لعام 2015 في إعادة دمج إيران في المجتمع الدولي، وفي 22 يوليو (تموز) الماضي، صرح علي أكبر ولايتي مستشار السياسة الخارجية للمرشد الأعلى علي خامنئي، بأنه بدلاً من محاولة استرضاء الغرب، يجب على طهران اللجوء إلى روسيا للحصول على الدعم والمواءمة الاستراتيجية على اعتبار أن روسيا لديها سجل حافل في دعم إيران.
ويشير تقرير نشره المجلس الأطلسي في واشنطن إلى أن القادة الإيرانيين يعتقدون أن الهجوم الروسي على أوكرانيا يمكن أن يهز بنية النظام الدولي بطريقة تؤدي في النهاية إلى خدمة مصالح إيران، ففي حين تبدو روسيا التي تخضع لعقوبات شديدة الآن، شريكة استراتيجية ضعيفة لإيران، فإن فرض العقوبات الغربية وشيطنة روسيا قد يجعل موسكو وطهران أقرب كعدوين مشتركين للولايات المتحدة والإطار الدولي الذي يقوده “الناتو”.
تعزيز التجارة
كما أدى انسحاب الولايات المتحدة من خطة العمل الشاملة المشتركة في 2018 من قبل إدارة دونالد ترمب إلى استنتاج المسؤولين الإيرانيين أنه من المستحيل رفع العقوبات الاقتصادية عن إيران بطريقة تضمن تطبيع العلاقات التجارية مع الدول الأخرى على المدى الطويل، ولهذا وضع المسؤولون الإيرانيون تحييد العقوبات في صدارة أجندتهم ما يستلزم توسيع العلاقات مع الدول الأخرى الخاضعة للعقوبات من أجل ضمان مرونة التجارة الخارجية.
ويمثل فرض عقوبات شديدة على روسيا دخول قوة عظمى إلى نادي المستبعدين دولياً الأمر الذي قد يفتح فرصاً كبيرة للاقتصاد الإيراني، وهو ما يتضح من اتفاق موسكو وطهران على استبدال نظام “سويفت” بأنظمة الرسائل المالية المحلية، كما يمكن لإيران وروسيا الآن تعزيز تجارتهما التي تستهدف القفز من أربعة مليارات دولار عام 2021 إلى 40 مليار دولار العام الحالي في محاولة للتعويض عن العقوبات.
تعاون أوسع
وعلى الصعيد الاستخباراتي، أطلقت روسيا، في التاسع من أغسطس (آب) الماضي، قمراً صناعياً استخباراتياً إيرانياً في مدار حول الأرض من كازاخستان. وقال مسؤولون إيرانيون، إن القمر الصناعي صممه مهندسون إيرانيون وشيدته شركات روسية، وأن الأجيال الجديدة من القمر الصناعي ستبنى بشكل مشترك بين البلدين، ما يمكن أن يعزز قدرات الاستخبارات الإيرانية وإبراز قوتها.
وهناك فائدة أخرى لروسيا في الوقت الحالي، إذ يمكن لخبرة إيران الطويلة في الالتفاف على العقوبات أن تقدم دروساً قيمة لموسكو، وهو ما تجلى أخيراً في سفر عدد من رجال الأعمال الروس إلى طهران.
الحاجة لعزيمة أقوى
ولهذا يرى عديد من المحللين والخبراء الأمنيين في واشنطن أنه يجب على الولايات المتحدة أن توضح للعالم أن دعم إيران لروسيا لن يؤدي إلا إلى عزيمة أميركية أقوى في الشرق الأوسط، وعلى الإدارة الأميركية أن تنتهز فرصة استمرار الاحتجاجات في جميع أنحاء إيران، لمراجعة سياستها تجاه طهران للتركيز على دحر النفوذ الإيراني في المنطقة، لأن الإدانات والعقوبات الأميركية الحالية لن تحقق سوى القليل ضمن استراتيجية أكبر، كما ينبغي على أميركا إيلاء مزيد من الاهتمام للشرق الأوسط، والعمل على ضمان أمن حلفائها الذين عاشوا، لسنوات، على الخطوط الأمامية تحت تهديد طائرات “الدرون” والصواريخ الإيرانية، وتوفير الدعم لحشد القدرات العسكرية الذي يحتاجون إليه لمواجهة التهديدات الإيرانية.
وعلاوة على ذلك، أعطت تصرفات إيران في أوكرانيا إدارة بايدن وشركائها الأوروبيين سبباً آخر للتخلي عن سعيهم لإحياء اتفاق 2015 النووي مع طهران، الذي لن يحتوي طموحات إيران في مجال الأسلحة النووية، بل سيتيح مزيداً من التعاون الروسي- الإيراني في المشاريع النووية المدنية والتهرب من العقوبات بينما سيوفر إحياء الاتفاق لطهران الأموال التي تحتاج إليها لشراء أسلحة تقليدية متطورة من روسيا وأماكن أخرى.
المصدر: اندبندنت عربية