منذ بدء الاجتياح الروسي لأوكرانيا قبل ثمانية أشهر حتى الآن، كان لافتاً وقوف دول المنطقة جميعاً باستثناء الأردن وتركيا ربما، الى جانب روسيا ضد أوكرانيا، سواء كان هذا الوقوف على نحو مباشر أو غير مباشر. فحتى إعلانات الحياد ودعوات الحل السلمي للأزمة المتصاعدة التي أطلقتها دول المنطقة المختلفة لم تخف تعاطفاً أو ميلاً نحو روسيا، أو اتخاذ مواقف تضر بأوكرانيا. من المثير للانتباه مثلاً أن دولاً متصارعة عادة في المنطقة كإيران وإسرائيل وسوريا وغيرها من دول المنطقة تقف عملياً الآن في المعسكر نفسه الداعم لروسيا، أما من خلال تجنبها الوقوف ضد الاعتداء الروسي الصريح ضد أوكرانيا، أو رفضها مساعدة أوكرانيا، الطرف المعتدى عليه، أو من خلال اتخاذ مواقف تصب في الصالح الروسي في آخر المطاف.
أشد دول المنطقة دعماً لروسيا هي إيران التي زودت حليفتها، موسكو، بآلاف الطائرات المسيرة من طراز “مهاجر” و”شهيد” التي يصعب على رادارات منظومات الدفاع الجوي كشفها بسبب صغر حجمها وسرعتها النسبية وانخفاض تحليقها. مؤخراً، وجه الرئيس الأوكراني اتهاماً صريحاً للجمهورية الإسلامية بتزويدها روسيا بنحو 2400 طائرة “شهيد” المُسيرة “الانتحارية”، التي ألحقت أضراراً كبيرة بالبنية التحتية الأوكرانية وقتلت وجرحت مدنيين، وقدمت أوكرانيا شكوى الى الأمم المتحدة بهذا الخصوص، متهمةً إيران، التي أنكرت التهمة الأوكرانية، بخرق قرار للأمم المتحدة يحظر عليها بيع مثل هذه الأسلحة أو نقلها. بحسب خبراء، فإن الأدلة راسخة على أن طهران باعت هذه الطائرات لموسكو التي صبغتها ومنحتها اسم “جيران 2” كي تبدو أسلحة روسية، وليست إيرانية، في عملية تمويه معتادة في مثل هذه السياقات.
المثير للدهشة فعلاً هنا هو رفض اسرائيل طلب أوكرانيا تزويدها بمنظومة دفاع جوي ضد المسيرات الإيرانية، كالتي تستخدمها اسرائيل، وتعرف بالقبة الحديدية، لصد صواريخ “حماس”، التي عادةً ما تقدمها إيران إليها. اكتفت إسرائيل بتقديم مساعدات انسانية لأوكرانيا وبعض الدعم العسكري غير القتالي الطابع كالخوذ التي يستخدمها الجنود ومساعدة أوكرانيا لتطوير نظام إنذار مدني ضد الصواريخ والطائرات الروسية.
من جانبها، دعمت دول الخليج، عبر الدول المنتجة للنفط ضمن تحالف “أوبك بلس” الذي يضم روسيا، تخفيض انتاج النفط بحدود مليوني برميل يومياً. اعتُبر هذا القرار نصراً لروسيا وضربةً لأميركا التي بذلت جهوداً دبلوماسية حثيثة لإقناع دول الخليج بزيادة إنتاج النفط من أجل خفض أسعاره في السوق العالمية وتقليل الضغط على دول أوروبا الغربية المضطرة لاستخدام النفط الروسي وتخفيف احتمالات حصول تضخم اقتصادي عالمي بسبب ارتفاع أسعار البضائع المختلفة بعد اندلاع الحرب الروسية – الأوكرانية. يساعد قرار “أوبك بلاس” روسيا في تحمل العقوبات الاقتصادية الغربية ضدها ويوفر لها موارد مالية تحتاجها الآن بشدة للمضي في تمويل حربها في أوكرانيا. تحاجج دول الخليج بأن أسباب اتخاذ قرار تخفيض الإنتاج اقتصادية وليست سياسية. بغض النظر عن الأسباب الحقيقية للقرار، نتائجه واحدة في سياق النزاع الأوكراني – الروسي، إذ هو يقوي موقف روسيا اقتصادياً فيه ويضعف موقف خصومها.
تختلف دوافع هذا الدعم العام لروسيا بين دول المنطقة من بلد لآخر، فبعضها مرتبط بالحاجة المباشرة لروسيا، فيما يتصل بعضها الآخر بالعلاقة المعقدة مع أميركا. فبلد مثل سوريا ارتبط استمرار نظام الحكم فيها بالدعم العسكري الروسي المباشر، يكون منطقياً أن تدعم حكومته روسيا في حربها وحتى إلحاقها غير القانوني لمناطق أوكرانية بروسيا كما حصل في الاعتراف السوري بـ”استقلال” جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك المقتطعتين من أوكرانيا وضمهما لاحقاً لروسيا. أما إسرائيل فيُفترض أنها تميل طبيعياً نحو أوكرانيا “الصغيرة” التي يهاجمها جار كبير وقوي ويهدد بإلغائها، كما هي الحجة الإسرائيلية المعتادة بخصوص العالم العربي الذي لا يعترف بها ويسعى لإلغائها حسب الفهم الإسرائيلي. لكن المصالح الإسرائيلية لا تنسجم مع منطق “الدولة الصغيرة والمُهدَّدَة” في السياق الأوكراني، فإسرائيل تخشى إيقاف روسيا للهجرة اليهودية منها إلى إسرائيل. على مدى التسعينات وصل الى اسرائيل نحو مليون مهاجر يهودي من روسيا. فضلاً عن ذلك ثمة اعتبارات أمنية واستراتيجية، إذ تسيطر روسيا عسكرياً على معظم المجال الجوي السوري، وبالتالي هي تستطيع وقف الغارات الاسرائيلية المتواصلة في سوريا منذ سنوات ضد منشآت عسكرية إيرانية تابعة لـ”حزب الله” اللبناني، وتقول إسرائيل إنها تستهدفها من الأراضي السورية.
أما دول الخليج، فموقفها مرتبط أكثر بالانزعاج من الولايات المتحدة منه برغبتها بدعم روسيا. تشعر هذه الدول أن أميركا قد تخلت عنها وتركتها بمرمى التهديد الإيراني بسبب تركيزها على الملف النووي الإيراني حصراً وإهمالها الملف الآخر الأكثر أهمية لها المتعلق بما تعتبره هذه الدول سلوكاً إيرانياً مزعزعاً في المنطقة، كما في تشكيل ودعم مجاميع مسلحة في العراق ولبنان واليمن تستهدفها عسكرياً وسياسياً وتحرض ضدها إعلامياً. تشعر السعودية بالذات بالكثير من الانزعاج مما تعتبره تواضع الجهود الأميركية لمنع إيران من تقديم الدعم العسكري للحوثيين في اليمن الذين استهدفت صواريخهم منشآت نفطية سعودية وأوقفتها مؤقتاً عن العمل.
وحده الموقف الإيراني، الداعم على نحو قوي لروسيا، يبدو طبيعياً ومتسقاً مع الطبيعية الأيديولوجية للنظام السياسي الحاكم في طهران. فالجمهورية الإسلامية انهمكت مبكراً في صراع أيديولوجي شرس ضد الولايات المتحدة التي وصفها مؤسس الجمهورية، آية الله الخميني، في تشرين الثاني (نوفمبر) 1979 بأنها “الشيطان الأكبر والأفعى الجريحة”. على مدى العقود التالية دخل الاثنان في مواجهات كثيرة، بعضها مسلح، ومعظمها اقتصادي وسياسي، الأبرز بينها العقوبات الاقتصادية المختلفة والكثيرة التي تفرضها واشنطن ضد طهران. أيضاً، لإيران مصالح كثيرة مع روسيا التي دعمت طهران في سياقات كثيرة لتقويض العقوبات الأميركية فضلاً عن التبادل التجاري والتعاون العسكري بين الطرفين. يشترك الاثنان أيضاً في عداء مشترك قوي ضد الولايات المتحدة خصوصاً، والغرب عموماً، في إطار رغبتهما بتفكيك الهيمنة الأميركية – الغربية على العالم وتشكيل نظام عالمي متعدد الأقطاب. من هنا تبدو أوكرانيا ساحة مناسبة لتصفية الحسابات مع الولايات المتحدة بحسب الفهم الروسي والإيراني للنزاع.
في إطار الدوافع المختلفة التي تقود مواقف هذه الدول، تبرز روسيا وأميركا كطرفين رئيسيين، تتحدد المواقف بخصوص النزاع في أوكرانيا على أساس العلاقات بأحدهما أو كليهما، فيما تتراجع أهمية أوكرانيا كشعب ودولة تتعرض لعدوان قاس من جار كبير ومتغول. تكمن المفارقة هنا فعلاً، فالإحساس العام في المنطقة أن هذه إحدى حروب النيابة بين أميركا وروسيا وأن أوكرانيا مجرد ساحة لخوضها وليست الطرف الأساسي فيها، يُسهِّل كثيراً الاندراج في التقدير البارد للمصالح المباشرة كمعيار أساسي، وربما وحيد، في تحديد الاصطفافات في سياق هذا النزاع، فيما يؤدي الغياب التدريجي لوجه الضحية والطرف المعتدى عليه عن فضاء الإعلام والرأي العام ونقاشات السياسة وحساباتها الى التصالح الشخصي والعام مع مثل هذا الاندراج السياسي.
المصدر: النهار العربي