مستقبلنا المشترك نحن نصنعه

د. زكريا ملاحفجي

الجغرافية السياسية قدر، ولا أحد يختار أين يولد ولا بجوار منْ سيعيش، لكننا نختار كيف نعيش معاً وكيف سيكون مستقبلنا، فهل نحن نؤسس لمستقبل مشترك ينعكس بالخير والمنفعة على الجميع.؟

طبعاً هذا فضلاً عن أنه إذا كانت تجمعنا أواصر كثيرة من الدين والثقافة والتاريخ وأواصر القربى. كما أنه لا أحد يحارب الناس العزّل سوى أشرار الناس، ولا أحد يترك بيته وأرضه ويسكن بخيمة بالية إلا إذا شعر بالخوف والتهديد بالقتل.

ولابد أن نذكر خلاصة تقرير أعدته مراكز بحثية تركية من خلال استبيانات، أن 90%  من السوريين الموجودين في تركيا ينتظرون العودة إلى ديارهم بمجرد انتهت الحرب وجرى تغيير ديمقراطي في سورية أو التفكير بالهجرة لأوربا وكندا وغيرها، فلا أحد من هؤلاء جاء قبل الحرب سوى لسياحة أو تجارة وغيرها وكانت زيارات ومنافع متبادلة من الطرفين، فالبلاد والأملاك وأرض الإنسان وبيته تبقى لها مكانتها وحنينها في وجدانه، لكن تسلّط قوى الإجرام قصفاً وقتلاً بكل أنواع الأسلحة بما فيها الكيماوي جعلت الإنسان يفرّ بحثاً عن حياة كالحياة، وقد قدم الشعب السوري الذي لا يتجاوز عدده 25 مليون نسمة قرابة مليون شهيد ومفقود ومعتقل نتيجة المواجهة الظالمة والقصف والتنكيل والاعتقال حتى صوّرتها منظمات حقوق الإنسان بأنها أفظع الحروب في هذا القرن، وأكبر موجة لاجئين في العالم، ولم ينصف المجتمع الدولي هذا الشعب ولم تضع القوى العظمى التي ترفع قيم الديمقراطية والتحرر حداً للمجرمين والقتلة، لكن ليس هذا الذي يعنينا فحسب وإنما: هل من الصواب أن نفكر بمشكلة اللاجئين كأم المشاكل ونسلط عليها السخط فقط.؟

 طالما أصبحت من الواقع نتيجة ظروف بحكم الجغرافية السياسية “جيوبولتيك” تفرض واقع على الجميع لا مناص لنا أحياناً من الكوارث التي تقع في نفس امتداد الجغرافية لهذا فعلماء السياسة ينظرون  لفهم وتأثير الجغرافيا على السياسة والارتباط بينهما، لهذا التفكير في الحل والاستفادة من الواقع الذي وقع والتأسيس للمستقبل بشكل ينعكس بالمنفعة والخير على الجميع، وليس التفكير في المشكلة بشكل ساخط.

نحن أبناء جغرافيا ممتدة متلاصقة واحدة وتحديات متقاربة في هذا الشرق الأوسط الذي يعج بالقلاقل والتهديدات والذي بات بحاجة إلى جهود أبناء المنطقة لتنعم بالاستقرار والسلام، فلم تخل منطقة بالشرق الأوسط من التهديدات والاحتلالات والانقلابات، ولا ينبغي أن نقصر تفكيرنا على الدوران داخل المشكلة، ولكن لابد أن نفكر كيف نحول هذه الطاقة البشرية كفرصة لفتح أبواب جديدة تعود بالنفع على الجميع، فعلى سبيل المثال ووفقاً لبحث TEPAV حول ريادة الأعمال السورية في اسطنبول بأنه حتى 2020 بلغ عدد الشركات التي أُنشئت بشكل ذاتي والتي لديها شريك واحد على الأقل 15159 شركة توفر فرص عمل لـ 15% من السوريين وكذلك عدداً من الأتراك، وهذا مؤشر استثماري يتصاعد، لكن مع خطاب التنمر والكراهية بدأت رؤوس الأموال تبحث عن مكان آخر، وهذا فضلاً عن قطاع العقارات الذي أصبح السوريون صلة الوصل مع مواطنين الدول العربية بحكم الثقافة وسهولة اللغة وفهم السوق التركية وحسب هيئة الإحصاء التركية تصدّر العراقيون والسعوديون والكويتيون بقائمة الأكثر شراء للعقارات بتركيا وبالأعم الأغلب الوسطاء كانوا سوريين، إضافة للقطاع السياحي وهو أبرز القطاعات التركية للدخل القومي، لذا فإن استثمار الطاقة البشرية خير من التنازع معها أو إهمالها وعدم الاستثمار بها وتلك الأرقام يمكن أن تتضاعف لتكون عائدًا كبيرًا يفيد الجميع وتؤسس لمستقبل مزدهر قائم على التكامل والتعاون وليس التآكل والتنازع.

وكنموذج ناجح بالاستثمار في الموارد البشرية هي ألمانيا وبسبب برامج التدريب المهنية والاستراتيجيات المعمول بها للأجانب والمواطنين، وهي تحوي أرقام كبيرة من الأجانب واللاجئين حيث افتخرت ألمانيا في 2015 بأن لديها 43 مليون عامل مدرب وماتزال تؤهل المزيد مهنياً إلى اليوم لاستثمارهم بكل قطاعات الحياة الاقتصادية، وبلغ عدد الأطباء السوريين مع نهاية عام 2021 أكثر من خمسة آلاف طبيب مرخص، أي أكثر من أطباء القارة الافريقية مجتمعة في ألمانيا وحدها!

فنحن أمام طاقات وخبرات يمكن أن تتحول إلى فرصة للعطاء في الحاضر والمستقبل إذا تعاملنا معها بمنطق حكيم مبني على التعاون والتكامل.

وقد استطاعت ولاية سكسونيا السفلى تطوير مشاريع التنمية الاقتصادية بالاستفادة من اللاجئين وخلق نهج خاص لتصبح نموذجاً في ألمانيا. وبالخصوص اللاجئين من سورية، حيث لا يستطيعون العودة إلى بلادهم بسبب الحرب فإن توسيع مستوى البحث عن مهنيين متخصصين في صفوف هؤلاء اللاجئين أمر قائم منذ اليوم الأول كما قالت وزيرة الاقتصاد والعمل والنقل في ولاية ساكسونيا السفلى. وتضيف الوزيرة: “هؤلاء الناس يجب أن يحصلوا على آفاق مستقبلية للعمل والاندماج في المجتمع لتساهم في التنمية بشكل إيجابي وقد نجحنا لمستوى متقدم.

تركيا التي تتسابق في النهوض وكسر التحديات ولديها واقع جغرافي كبير تحتاج لتعزيز تلك الإيجابيات للحاضر والمستقبل وليس مجرد التنابز وخطابات تحمل كراهية أو سخط وهذا حول شريحة من الشباب اليوم لترك المصانع والفرار بالبر والبحر بحثاً عن مكان آمن، ولعله يكون خلاص السوريين قريباً فيعودوا لبلادهم بأواصر قربى وعلاقات أكبر بين بلدين على الصعيد الاجتماعي والاقتصادي والسياسي وكما قال تعالى: (وتلك الأيام نداولها بين الناس). فالشعوب تبقى وليس هناك ضعيف دائم ولا قوي دائم.

المصدر: اشراق

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى