أظهرت الاضطرابات الأخيرة عدم أهمية العديد من الجهات الفاعلة التي تعمل منذ فترة طويلة في إيران، لأن الشباب يرفض النظام وكذلك رجال الدين والإصلاحيين والسياسيين المنشقين داخل إيران وخارجها.
منذ اندلاع الموجة الأخيرة من الاحتجاجات التي شهدتها شوارع إيران في 16 أيلول/سبتمبر بدأت هذه الاحتجاجات تطرح تحديات أمنية وسياسية خطيرة على الجمهورية الإسلامية، ووضعت بالتالي قادة النظام في موقف محيّر بشكل فريد. ومن المثير للاهتمام أن المرشد الأعلى علي خامنئي لم يعلق على الاضطرابات التي اندلعت إثر وفاة الشابة مهسا أميني تحت التعذيب على يد شرطة الأخلاق (“كشت إرشاد”، أي “دوريات الإرشاد”) التابعة للنظام، بسبب مخالفتها قواعد ارتداء الحجاب وفقاً للتقارير. ومع ذلك، من المؤكد أن القلق يساور المرشد الأعلى والدائرة المقربة منه حيال الجوانب الجديدة التي تسلكها الحركة الاحتجاجية.
إن الاحتجاجات المناهضة للنظام ليست جديدة في الجمهورية الإسلامية. فقد اندلعت أكبر موجة منها على خلفية تزوير هائل في الانتخابات الرئاسية عام 2009، مما أدى إلى خروج الملايين إلى الشوارع قبل أن تقمع السلطات قادة الحركة مير حسين موسوي ومهدي كروبي (لا يزال موسوي قيد الإقامة الجبرية حتى يومنا هذا). ووقعت الجولة الأخيرة من الاحتجاجات الواسعة النطاق في عام 2019 بعد قرار الحكومة المفاجئ برفع أسعار البنزين. وفي ذلك الوقت، قتل «الحرس الثوري الإسلامي» الإيراني وقوات الشرطة أكثر من 1500 شخص، وهو رقم قياسي صادم حتى وفقاً للمعايير الوحشية للنظام.
وتتسم الانتفاضة الحالية بعدة ميزات جديرة بالملاحظة:
بخلاف الاحتجاجات السابقة، فإن المصدر الرئيسي لاستياء الحركة الاحتجاجية ليس قراراً اقتصادياً أو سياسياً منفصلاً. إن الشعار الأساسي للمحتجين حتى الآن هو “امرأة، حياة، حرية”، في إشارة إلى معارضة أكثر عمومية وعميقة للنظام القمعي الشمولي للجمهورية الإسلامية. فمساعي النظام الشاملة “لأسلمة” المجتمع الإيراني والتحكم بجميع جوانب حياة المواطنين قد أدت إلى حرمان الشعب من الحريات في المجالين الخاص والعام. وقد تعرضت النساء لأسوأ أنواع انتهاكات حقوق الإنسان، حيث أصبحت أجسادهن أكثر ساحات المعارك السياسية أهمية في إيران. لذلك، احتلت كرامة الإنسان وحريته رأس قائمة المطالب الحالية للحركة الاحتجاجية التي تتمحور حول الإقرار بأن النساء هن ضحايا رئيسيين للتقاليد الأبوية للنظام والأيديولوجيا الإسلامية الاستبدادية التي يطبقها النظام. وقد يجعل هذا الأساس من الحركة الاحتجاجية قوة إنسانية وليبرالية وعلمانية هائلة بشكل خاص، وقائمة على المساواة في إيران، وتتمتع بإمكانات هائلة لتحفيز تغيير جوهري.
الحركة الاحتجاجية غير مرتبطة برجال الدين على الإطلاق. هذا لا يعني أنها حركة مناهضة للدين – في الواقع، تجنّبَ المحتجون عمداً استخدام أي رموز أو خطابات دينية. ومع ذلك، فمن الواضح أن الحركة لا تضم رجال دين. وفي الماضي، شملت جميع الحركات السياسية النافذة في إيران، من الثورة الدستورية في بداية القرن العشرين إلى الثورة الإسلامية عام 1979، مشاركة رفيعة المستوى من قبل رجال الدين. وحتى أن “الثورة الخضراء” (“الحركة الخضراء”) لعام 2009 ضمت في صفوفها رجل دين، هو مهدي كروبي، كأحد قائديها االرئيسيَيْن.
غير أن غياب رجال الدين عن الحركة الاحتجاجية التي تشهدها البلاد اليوم ليس عرضياً. فالكثير من المحتجين يعتبرون رجال الدين الشيعة كافة – ليس فقط من أبرز أنصار النظام، بل أيضاً نقاده الصامتين والسلطات الحيادية – أساس شرعية النظام لأنهم سهلوا صعوده في المقام الأول ولم يكفّوا عن تبرير مبادئه وسياساته وقراراته منذ ذلك الحين. فرجال الدين يمثلون الشريعة، وهي نظام قانوني تمييزي بحد ذاته يدّعي السلطة الإلهية في انتهاك حقوق الإنسان، وإخضاع النساء بشكل خاص. وبالتالي، لا يمكن لهذه الطبقة أن تتشارك أهداف الحركة الرئيسية أو نظرتها إلى العالم. ففي نظر رجال الدين، إن المطالبة بحقوق متساوية للنساء هو التهديد الوجودي الأقصى للشريعة ولمكانتهم كأوصياء عليها. وحتى رجال الدين الذين قد يعارضون النظام لأسباب أخرى لا يستطيعون أن يرددوا علناً شعار “امرأة، حياة، حرية”. وبالتالي، قد تمثل الحركة لحظة مفصلية في الانفصال التدريجي لرجال الدين الشيعة عن القوى القيادية في المجتمع الإيراني.
التركيز على الحجاب ليس محض صدفة. تصرّف النظام الشمولي الذي يحكم الجمهورية الإسلامية بعدائية تجاه النساء منذ قيامه، ويُعتبر إلزامه بارتداء الحجاب جزءاً واضحاً من جهوده للسيطرة عليهن وتهميشهن. وقد تشددت حكومة الرئيس ابراهيم رئيسي في تطبيق هذه القاعدة بشكل أكثر صرامة. ومع ذلك، فقبل المظاهرات الحالية، تردد أبرز نقاد النظام في منح الأولوية لرفض “الحجاب الإلزامي” كمطلب سياسي، متجاهلين غالباً الضغوط المبررة للناشطات لإدراج أشكال القمع الفردية التي يعاني منها نصف المجتمع. وقد أظهرت الكاتبة البارزة نوشين احمدی خراسانی في كتابها الصادر عام 2011 بعنوان “الحجاب والمثقفون” كيف أن حتى النقاد والمنشقين السياسيين الأكثر علمانية وليبرالية تجنبوا باستمرار الاعتراف بالقمع المنهجي الذي يمارسه النظام على حرية النساء وكرامتهن، مُركزين على إلزامية ارتداء الحجاب كمشكلة جوهرية وليست ثانوية. وتكشف الحركة الاحتجاجية الحالية عن تغيير جذري في وجهة نظر الكثير من الإيرانيين إزاء هذه المحنة التي تواجههم وحلولها المحتملة، حيث ازداد عدد المواطنين على ما يبدو الذين أصبحوا يعتبرون حقوق النساء أفضل نقطة انطلاق لنضالهم من أجل الديمقراطية في وجه الظلامية الإسلامية.
الاحتجاجات تشير إلى أن جماعات وشخصيات المعارضة السياسية الحالية، سواء أكانت من الإصلاحيين داخل البلاد أو من المنشقين خارجها، لا صلة لها بالموضوع. من أبرز الجوانب المثيرة للدهشة في الحركة الاحتجاجية الحالية هي أنها تتألف بمعظمها من شباب إيرانيين دون سن الخامسة والعشرين الذين يعتبرون أنفسهم أكثر من مجرد معارضين للأيديولوجيا الإسلامية، فهم يعارضون أيضاً صراحةً ذهنية الجيل الأكبر سناً، بمن فيهم السياسيون المعارضون للنظام. ويظهر ذلك أن قوى التغيير الفعلية يمكن أن تبرز وتُنظم نفسها بنفسها دون تدخل الجماعات أو الشخصيات المنشقة التقليدية. كما أنه يثير التساؤل حول من الذي يوجه الحركة، وما إذا كان بإمكانها تأسيس قيادة داخلية قبل أن ينهكها القمع العنيف أو يؤدي إلى انهيارها.
باختصار، يبدو أن طبيعة الحركة الاحتجاجية وأسلوب تنظيمها وقيادتها ومثلها العليا تختلف تماماً عن جميع الاحتجاجات السياسية السابقة التي شهدتها الجمهورية الإسلامية. ويمكن لهذه التجربة الشُجاعة أن تؤدي إلى تطورات أكثر أهمية في إيران خلال الأيام والأسابيع المقبلة، على الرغم من أنه لا يُعرف سوى القليل عن قدرتها على مواجهة التحديات الخطيرة على المدى الطويل.
توصيات في مجال السياسة العامة
عموماً، تُعد تصريحات الحكومات الأجنبية الداعمة والمتعاطفة مع المحتجين المعارضين للنظام الإيراني أقل فائدة من خطوات مماثلة تصدر عن جهات غير حكومية، بما فيها شركات الاتصالات والمجال الرقمي (مثل “غوغل و “أمازون” و آبل”) ومؤسسات حقوق الإنسان وشخصيات بارزة من المقاومة المدنية، والحركات الديمقراطية الأجنبية، والأكاديميات الفردية، والشخصيات الأدبية، والفنانين. ومع ذلك، لا يزال بإمكان المسؤولين الأمريكيين والأوروبيين الاضطلاع بدور استثنائي في مساعدة الحركة، أو على الأقل تجنب الأفعال المؤذية.
على سبيل المثال، ليس الوقت مناسباً حالياً لتنفيذ الترتيبات المالية التي تقلل الضغط على النظام، والتي تشمل تخفيف العقوبات الناتج من المحادثات النووية الجارية. يجب على الغرب الحرص على عدم القيام بأي عمل قد يُعتبر لا مبالاة من جهته تجاه الشعب الإيراني الذي يعاني منذ فترة طويلة. فربما تكون تطلعاته الديمقراطية والعلمانية والليبرالية هي أفضل قوة لدفع عجلة السلام والأمن في الشرق الأوسط، بما أنه سيبني حكومة ملتزمة بهذه المبادئ في حال سقوط النظام الحالي.
مهدي خلجي هو “زميل ليبيتسكي فاميلي” في معهد واشنطن.
المصدر: معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى