لا يظنن أحد أن ما يحدث في إيران الآن، إثر مقتل الشابة مهسا أميني، هي: مواجهة بين “حماة” الشريعة الإسلامية والمناهضين لها، أو بين “الغيارى” على تطبيق “حكم الله” و”الجاحدين” لأمر الله، أو حتى صراع بين المشروع الإسلامي الحديث والـــ “متغربين” أو الـ “متصهينين”. فهذه جميعها ادعاءات لتحويل النقاش إلى منطقة نقاش يرتاح لها النظام ولا يجيد ممارسة غيرها، هي ثنائيات كاذبة يعممها النظام الولايتي وأذرعته المنتشرة في العالم لطمس معنى الحدث ودلالته وحقيقته، أوهام نرجسية يخلقها لنفسه ليبدّد قلق وخوف وارتباك أتباعه ومؤيديه، ليمّحي كلّ أثرٍ لشعورٍ بذنب أو وعيّ بخطيئة أو حسّ بشفقة، بل هي تصوير ساذج ووقح في إظهار المظلوم والمضطهد بأبشع الأوصاف وأقبح الألقاب، وتمجيد ممارسات النظام ورموزه وأجهزته بما لذّ وطاب من أوصاف العصمة والنقاء والطهر والتُقى. احداث الإحتجاج، بجرأتها وحيوتها وخصوبة دلالاتها، ليست مجرد اعتداء على القوانين والأملاك العامة، بل تستعيد بقوّة المشكلة الجوهرية للنظام، التي طالما حرص على إخفائها وحجبها عن التداول أو النقاش الداخلي، وبرع في التغطية عليها بتضخيم نضالياته الكونية. إنها مشكلة المسافة والفجوة الهائلة بين جيل ثورة، استعان بثوريات ذات عنفوان ديني لتغيير نظام الشاه، وبين جيل ثالث بعد الثورة، باتت عقيدة النظام ولغته التعبوية وتوظيفات القداسة المركزة عنده خارج اهتماماته، محبطة لآماله وتطلعاته، وقامعة لأحلامه وطموحاته. جيل يتململ من عزلة مرهقة له عن العالم، ويعاني اغترابا ًداخل مجاله الاجتماعي والسياسي. إنها باختصار مشكلة الشرعية، أي شرعية النظام، التي تطفو على السطح من حين لآخر، ويعمد النظام لا إلى منحها فرصة التعبير عن نفسها بحرية، أو فتح النقاش العام حولها، لأنه يعلم أن مؤدي ذلك هلاكه المحتوم، بل إلى التغطية عليها وسدّ منافذها وإسكات أصواتها. لم يعد بإمكان نظام الملالي في إيران مقابلة ما يحصل بــ “مليونات” منسقة ومنظمة وجاهزة وغبّ الطلب، ليظهر ضآلة عدد المحتجين وضعف تمثيلهم الشعبي. ليس غرض هذه “المليونيات” الصناعية الكشف عن نسب التمثيل الشعبي، بقدر ما غرضها خلق تشويش ولُبس، على حقيقة ميول واتجاهات المجتمع الإيراني فالاحتجاجات شكل اجتماعي عفوي وصريح وشفاف، قد لا تحمل مشروعاً بديلاً، ولا تملك شعاراً موحداً أو خطاباً مفهوماً أو واضحاً، لكنها بالتأكيد تعبر، في عفويتها وارتجالها وغضبها، عن نفور وتململ عامّين، عن مزاج وذهنية يتوقان لنمط عيش مختلف في ظل نظام قيم وقواعد شرعية سياسية مختلفة. أما “مليونيات” النظام، ذات الخطاب المكرّر والشعار الملقَّن، لا تختلف في وظائفها ومضمونها، عن أجهزة الحرس الثوري الأمنية وعروضه العسكرية لحماية النظام. هي وسيلة خنق للتعبير وليس توسعةً له، أداة سلطة فعّالة للقمع بطرق ميليشياوية. ما يحصل الآن في إيران ليس مشكلة بين مسلمين ومرتدين، أو ملتزمين وفاسقين، أو تطبيق الشريعة وتعطيلها. أي ليست مشكلة الإسلام ضد خصومه، بل مشكلة داخل الإسلام لجهة طريقة استحضاره في عالمنا المعاصر وآليات تشخيص أحكامه وتطبيقها. مشكلة سلطة وضعت المقدس على الضد من التعبير الحر، وعلى النقيض من سيادة المجتمع الذاتية. مشكلة سلطة أقامت ملازمة بين طاعتها وطاعة الله. مشكلة بين سلطة تدعي وصاية على الدين وحقاً حصريا لها بفرض أحكامه، وبين وجهة مشروعة ترى أن الإسلام أكبر من أن تمثله سلطة، أو ينطق بإسمه شخص، وأرحب من أن تطبق أحكامه بالقوة والإرغام. مشكلة بين سلطة تتعالى على المجتمع وإرادته بإسم الدين، وبين مجتمع يرى أن المجتمع هو المصدر الحصري لأية شرعية أو ولاية. حين خلعت شابات إيران وأحرقت غطاء رؤوسهن، وحين قصصن شعورهن علناً في الشوراع العامة، لم يكن هذا خروجا على الدين ولا هتكاً لقيمة الحجاب أو انتقاصاً من خيار النساء المحجبات، أي لم يكن الحجاب موضوع التحدي أو المواجهة أو حتى الرفض، بل هو فعل ذو رمزية عالية، وجد في خلع غطاء الرأس تحدّياً لرمزية السلطة، وخلعاً لها عن كل ادعاءاتها، وفصلاً بين ما تريده وما يريده الله، ورفضاً لحقّها المدّعى بمحاسبة البشر بإسم الله، أو تنصيب نفسها حامياً لشرع الله، وفضحا لاستراتيجية الرعب والخوف التي يمارسها النظام بإسم تطبيق الشريعة، فلا يعود المقصود من هذه الاستراتيجية تقوى الله بل الذعر والهلع من عقاب النظام وانتقامه. ما حصل ويحصل في إيران شجب لدين الإكراه، وإعلان صارخ وصريح من المرأة الإيرانية، بأن كرامتها وخيارها الحرّ أغلى عندها وأعزّ من غطاء رأسها.
المصدر: «جنوبية»