لا شك اليوم أن بوتين قد أخطأ في حساباته لقرار الحرب ضد أوكرانيا , وأن تلك الأخطاء كبيرة وعميقة لدرجة أنها أوصلت روسيا لمخاطر تمس مستقبلها لفترة طويلة في المستقبل , ومن بين تلك الأخطاء , الخطأ في تقدير استجابة الشعب الروسي للحرب .
فبوتين الذي يقترب من السبعين عاماً فشل كما يبدو في فهم التطورات التي طرأت على الشعب الروسي منذ الحرب العالمية الثانية وصولا إلى اليوم .
أحد المؤشرات هو ماصرح به أكثر من مرة من اعتباره تفكك الاتحاد السوفييتي أكبر كارثة حصلت في تاريخ روسيا الحديث , وتلميحه مرارا لذات الأفكار التي عبر عنها بوضوح المفكر الروسي دوغن بأنه يجب العودة لوضع جيوسياسي لروسيا يقارب وضع الاتحاد السوفييتي في نقطتين : أولاً : استعادة أراض كانت ضمن روسيا القيصرية وترتبط بروسيا تاريخيا وثقافيا مثل أوكرانيا وبيلاروسيا. وثانيا : استعادة هيمنة روسيا على باقي الأراضي والبلدان التي كانت ضمن الاتحاد السوفييتي ويشمل ذلك جمهوريات آىسيا الوسطى مثل كازاكستان وقيرغيزستان وتركمانستان وأذربيجان وطاجكستان وأرمينيا وجورجيا . باعتبار أن كل تلك الدول مجال حيوي لروسيا لاينبغي أن يبتعد عن سيطرتها العسكرية والسياسية , وبصورة أكثر وضوحا فما هو مسموح به لتلك الدول هو إدارة شؤونها الداخلية كما تدار البلديات , أما القرارات المصيرية فيجب أن تمر في موسكو وهناك يجري الموافقة عليها أو رفضها , ومن أجل ذلك لابد من وجود عسكري واستخباراتي روسي في كل من تلك الدول لضمان خضوعها لنظام الهيمنة الروسية .
ومثل ذلك التفكير يهمل بصورة مزرية التطورات التاريخية التي لاسبيل للعودة عنها , فتفكك الاتحاد السوفييتي لم يأت بسبب مؤامرة شريرة غربية , ولا بسبب خيانة غورباتشوف , بل بسبب أن النظام السوفييتي لم يعد مقنعا للشعب الروسي بمقارنته مع الأنظمة السياسية الأخرى في الدول المتقدمة .
لم يعد مقنعا من حيث تأمين الرفاهية الاقتصادية التي يعيشها الغرب , ولم يعد مقنعاً من حيث سجنه للشعب ضمن جدران ثقافية لم تعد قادرة على منعه من التواصل مع الشعوب الأخرى , لم يعد مقنعا أيضا لتفشي الفساد في قمة الدولة . وكذلك استفحال الأزمات الإقتصادية . وهزيمة الإتحاد السوفييتي في أفغانستان .
لقد أصبح نداء الحرية وضرورة التغيير أقوى من أن تتجاهله الدولة السوفييتية أو تحتال عليه .
هذا التحول التاريخي في وعي الشعب الروسي وتسربه نحو قمة الدولة هو العامل الأكبر في تفكك الاتحاد السوفييتي .
أما غورباتشوف ومؤامرات الغرب فهي لاتعدو أن تكون المعاول في هدم بناء آيل للسقوط .
بعد تفكك الاتحاد السوفييتي , سار التاريخ باتجاه تعميق استقلال الدول الخارجة منه إلى غير مارجعه , وبدأت المخاوف المختزنة في ذاكرة شعوب الدول المستقلة تعبر عن نفسها بالإبتعاد عن روسيا أكثر فأكثر .
كان على روسيا لتكسب صداقة تلك الدول أن تظهر الاحترام التام لإارادتها المستقلة , وأن تعيد نسج علاقتها معها على هذا الأساس وتستثمر في المشتركات الثقافية الموروثة عن الحقبة السوفييتية .
على أية حال , مايهمنا هنا هو ذلك السياق التاريخي الذي أنتج حقائق جيوسياسية ووعيا لدى شعوب الاتحاد السوفييتي السابق مختلفا كليا عما كان عليه الحال قبل ثلاثة وثلاثين عاما .
أما الشعب الروسي فرغم معاناته بداية تفكك الاتحاد السوفييتي , لكنه لم يعد يفكر بالرجوع نحو الوراء باستثناء قلة من الجيل السابق لاوزن لها ضمن الرأي العام الروسي .
جاءت ثورة الاتصالات والانترنت لتعمق الجسور بين روسيا والعالم الخارجي خاصة الدول المتقدمة في الغرب , وأحدثت بلاشك نقلة في وعي الشعب الروسي حين أتاحت له طرقا واسعة مفتوحة لفهم مايجري حول العالم دون المرور ببوابات التصفية التي كان يقيمها النظام السوفييتي البائد .
كما أحدث التطور الكبير في مستوى معيشة الفرد الروسي أثره في اقتراب الروس من ثقافة الغرب ونمط حياته مبتعدين عن الثقافة القديمة للمجتمع السوفييتي .
بعد كل تلك المتغيرات العميقة تفاجأ الروس بأن قيادتهم التي كانت بنظرهم عرابة لملمة الدولة الروسية ورفع مستوى الحياة والمعيشة واستعادة كرامة روسيا الدولية , هذه القيادة التي يمثلها بوتين أصبحت فجأة غارقة في أحلام الماضي البعيد , بل ومستعدة لسحب روسيا للمخاطر في سبيل أهداف لم تعد مفهومة لديهم .
لايمكن تفسير توجهات روسيا الأخيرة نحو الفتوحات واستعادة الحدود الجيوسياسية لروسيا القيصرية بدون التأثيرات الشخصية لبوتين .
فبوتين الذي كان يعيش دائما آلام تفكك الاتحاد السوفييتي , وتتماهى أحلامه مع مجد روسيا القيصرية , ويختزن النقمة على الغرب الذي لم يتح لروسيا أن تأخذ حجمها وحصتها في النظام العالمي , بل وصار يعمل على محاصرتها حين شعر بنهوضها واستعادتها القوة العسكرية والاقتصادية .
باختصار فبوتين في مشاعره وأحلامه الشخصية أسقط بوعي أو دون وعي مافعله التطور التاريخي من تغير في وعي الشعب الروسي ووعي شعوب الدول التي استقلت عنه .
ومن آثار تلك التحولات الهامة والعميقة مدى الاستجابة الممكنة للشعب الروسي لنداء الحرب من أجل الفتوحات واستعادة أمجاد روسيا القيصرية .
أما بروباغندا الدفاع عن روسيا المهددة فلايبدو مقنعا لأحد ، لا داخل روسيا ولا خارجها .
الشعب الروسي لم يعد أولئك الفلاحين البسطاء الذين يمكن بسهولة تعبئتهم وزجهم في حرب ذات أهداف غير مقنعة ليموتوا تحت القصف أو في كمائن الغابات الأوكرانية .
لقد تغير الروسي , والأجيال الجديدة تريد الحياة والحرية والتفاعل مع شعوب العالم , ولن تقاد بسهولة إلى محرقة حرب لاضرورة لها , وليس لها نهاية في الأفق .