إذا ذهب الملف نحو مزيد من التعقيد فإن الخيارات أمام طهران ستكون إما القبول بتنازلات مؤلمة وإما بمواجهة عسكرية مفتوحة.
بات من شبه المؤكد أن المفاوضات الثنائية غير المباشرة بين الولايات المتحدة الأميركية وإيران التي قادها مفوض السياسة والأمن في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل وصلت إلى نهايتها غير الإيجابية من دون أن يعني ذلك استعداد الطرفين ومعهما “الترويكا” الأوروبية (فرنسا وبريطانيا وألمانيا) لإعلان وفاة المفاوضات أو جهود إعادة إحياء الاتفاق النووي.
أما لماذا لن تعمد هذه الأطراف إلى إعلان وفاة الاتفاق أو نهاية المفاوضات فهذا يعود إلى عوامل وأوراق عدة يمكن وصفها بأوراق القوة التي يملكها الطرفان، فضلاً عن إمكانية تحييد ورقة “الوكالة الدولية” أو تحويلها إلى رأس حربة في تصعيد الموقف ودفعه باتجاه مسارات سلبية مفتوحة على جميع الاحتمالات.
فعلى رغم إصرار المفاوض الإيراني الذي ينوب عن منظومة السلطة والنظام على طاولة التفاوض المباشر مع “الترويكا” الأوروبية والوكالة الدولية للطاقة الذرية، وغير المباشر مع واشنطن، وتأكيده التمسك بالمفاوضات والبقاء إلى الطاولة والحديث عن وجود إمكانية للتوصل إلى اتفاق وتفاهم يلبي مطالب كل الأطراف، فإنه يرى أن طريق الوصول إلى هذا التفاهم والاتفاق يمر عبر التعامل مع مطلبه بإقفال ملف تحقيقات الوكالة حول عدد من المواقع التي يشتبه باستخدامها في أنشطة غير قانونية وغير معلنة، والإجابة عن أسئلة تتعلق بمصدر التلوث النووي بدرجات تخصيب مرتفعة بشكل نهائي وعدم العودة إليه في المستقبل مقابل أن تقوم إيران بتقديم إجابات عن هذه الأسئلة بما يتناسب مع سياساتها المبهمة وغير الشفافة.
في النهاية يبدو أن المفاوض الإيراني غير قادر على التمييز بين مسار التفاوض لإعادة إحياء اتفاق 2015 وتعديلاته التي تم التفاهم والتوافق حولها وعليها خلال الأشهر الماضية وبين مسار عمل الوكالة الدولية وآليات التحقق والتفتيش عن الأنشطة النووية، وهو مسار منفصل بشكل تام عن التفاوض السياسي والاقتصادي، لكنه يلعب دوراً أساسياً ومحورياً في بلورة الموقف النهائي من مستقبل ملف الأزمة الإيرانية، لما للوكالة ومجلس الحكام التابع لها من سلطة نقل الأزمة من دائرة الخلاف بين إيران والوكالة إلى أزمة مع مجلس الأمن الدولي. وانطلاقاً من هذا العجز أو تقصد الخلط بين مسار المفاوضات ومسار عمل الوكالة يأتي الموقف الإيراني المتشدد المطالب بإقفال ملف الشكوك في وقت أكد فيه مدير الوكالة الدولية رافايل غروسي البعد التقني في هذا الملف بعيداً من السياسة، بخاصة أن موقف الوكالة ينطلق من نصوص معاهدة الحد من انتشار أسلحة الدمار الشامل وعضوية إيران فيها.
النظام الإيراني يتعامل مع أزمة الوكالة الدولية وموقف “الترويكا” الأوروبية وواشنطن في موضوع شكوك الوكالة كورقة قوة استغلالاً لحاجة الوكالة ومعها المجتمع الدولي للإشراف ومراقبة الأنشطة النووية عن قرب وبشكل فاعل ووضع حد لحال التعليق في عمليات التفتيش والمراقبة التي حدت من قدرة مفتشي الوكالة على مواكبة هذه الأنشطة ومعرفة المستويات التي وصلت إليها لاعتقاده بإمكانية توظيف هذا القلق وهذه المخاوف في تحسين شروطه وفرض ما يريد، بحيث يكون قادراً في حال إقفال الملف على قطع الطريق على الجانب الإسرائيلي في التأثير السلبي على الاتفاق النووي وتعطيل أثر ما يملكه من وثائق ومستندات عن البرنامج النووي التي استولى عليها بعملية استخباراتية معقدة في تحشيد الموقف الدولي ضدها.
وعلى رغم هذا الموقف الإيراني المتشدد والمتمسك بمطلبه من “الوكالة الدولية” فإن توجهاً بدأ يتبلور داخل أورقة القرار في النظام يقول بإمكانية الاتفاق مع الوكالة على آلية للخروج من هذه الأزمة بأن تقدم واشنطن و”الترويكا” الأوروبية ضمانات لطهران بإقفال هذا الملف في الأشهر المقبلة وقبل الموعد المقبل لاجتماع مجلس حكام الوكالة في ديسمبر (كانون الأول) المقبل مقابل أن تقدم طهران إجابات عن أسئلة الوكالة بما ينسجم مع مخاوفها من تسييس الملف في المستقبل وإبعاده عن التوظيف الإسرائيلي ومساعيه لتحويله إلى ورقة ضغط على واشنطن والإدارة الأميركية لعرقلة التوقيع على الاتفاق.
وهذه الآلية الإيرانية لمستقبل العلاقة مع الوكالة والتعامل مع أزمة الثقة بأنشطتها تشكل الأرضية المناسبة أو المخرج الأقرب إلى التصور لتأخير التوقيع على اتفاق إعادة إحياء الاتفاق النووي وتعديلاته إلى ما بعد الانتخابات النصفية لـ”الكونغرس” الأميركي في نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل، بحيث يكون الرئيس الأميركي وإدارته بعيدين من ضغوط الشارع الداخلي في المعركة الانتخابية وإمكانية توظيف هذا التشدد الأميركي في لعبة كسب الأصوات وتحسين مواقعه الانتخابية في مواجهة الجمهوريين، بحيث يكون قادراً على الذهاب إلى الاتفاق بخطوات أكثر وضوحاً في حال احتفظ بتقدمه.
أما في حال تقدم الجمهوريين فسيعمد إلى تمرير الاتفاق كضرورة سياسية ومسألة أمن قومي مستفيداً من وجود الديمقراطيين على رأس الإدارة للسنتين المقبلتين، وهي المدة المتبقية لوجود الرئيس جو بايدن في البيت الأبيض.
ويشكل التأجيل إذا ما تحول الحديث إلى واقع ومسار متفق عليه وحوله، سواء ما يتعلق بالاتفاق أو التسوية مع الوكالة الدولية، فرصة أمام النظام الإيراني للخروج من الأزمة ووضعها على سكة الحل في ما يتعلق بالجانب الاقتصادي والتقني بانتظار أن ينتقل إلى المستوى السياسي في المستقبل.
أما إذا ذهبت الأمور نحو مزيد من التعقيد فإن الخيارات أمام النظام في طهران ستكون محصورة بين أن يقبل بالتنازلات المؤلمة وفتح كل منشآته أمام عمليات تفتيش قاسية تحت سيف إعادة تفعيل العقوبات أو أن يذهب إلى التصعيد وإعلان وقف التعاون مع الوكالة الدولية والانسحاب من معاهدة الحد من انتشار أسلحة الدمار الشامل، بالتالي إعلان وفاة الاتفاق والتعامل مع سلة من العقوبات الدولية القاسية والتعايش مع إمكانية مواجهة عملية عسكرية تكون تداعياتها مفتوحة على جميع الاحتمالات.
المصدر: اندبندنت عربية