يعيش أهلنا في الشمال السوري يوميات وسرديات لاتنتهي من المعاناة، لعل أشدها وأكثرها وطأة الواقع الطبي والصحي،المبعثر، والغائب (في معظم حالاته) عن الفعل الجدي النافع للناس، ضمن سياسات منظماتية غير مهتمة بمعاناة البشر التي تطرق باب الحال اليومي والنفسي لجل الشعب السوري في شماله كما في جنوبه.
من هنا فقد بات الوضع الصحي للسوريين في الشمال السوري يشكل أرقًا دائمًا، ومعاناة متواصلة تقلق الجميع وتضعهم بين فكي كماشة، فإما الاستسلام للمرض وشدته وقساوته دون معالجة أو مقاومة، أو الارتكان لبعض وعود المنظمات والدول التي باتت هي الأخرى في خبر كان، لاتثمن ولا تنتج أي معالجة حقيقية لأوضاع الناس الصحية التي لاترحم ولاتنتظر المواعيد والوعود المؤجلة، بل لعل الأمراض وتفشيها قد أضحت هي الألم اليومي الذي لا مناص منه، ولا خروج من حيثياته، في ظل أوضاع عامة ليست أقل صعوبة من أوضاع المرضى بلا معالجة.
ولأن الاستهداف اليومي عبر خروقات متتابعة للاتفاقات المرعية والمضمونة من الدول، قد أضحت همًا مباشرًا لا يسمح بإغماض العين، ولا يترك للمرء أي تفكير بحيوات هنيئة بلا ألم وبلا قصف من طائرات روسية أو سورية، أو استهدافات مدفعية تقع فوق رؤوس البلاد والعباد المدنيين، فتوقع عشرات الشهداء، وأكثر من ذلك من الجرحى. وبات العيش على قيد الحياة مجرد حلم حيث لايدري المرء متى يأتيه الموت من قذيفة هنا، أو مرض هناك، أو جوع أو برد أو حر صيف، بلا امتلاك لأي نوع من أنواع المواجهة.
ومن منطلق أن الصحة تاج على رؤوس الأصحاء لايدركه إلا المرضى، فقد أصبح الاشتغال الحثيث على تأمين حياة معقولة لا تكون همًا بحد ذاته من مرض مفاجيء أو إصابة، أو معاناة مشابهة، وبات العمل من قبل المعنيين بالأمر من حكومة مؤقتىة أو حكومة إنقاذ أو منظمات معنية، وطنية أو دولية أو أممية، أو دول إقليمية صديقة، ضرورة لا مناص منها، ولا مجال للتملص من مهماتها، حيث المرض لايرحم، واليد الاقتصادية للناس مغلولة، والغلاء في الدواء وأسعار المشافي، لاتتمكن منه إمكانية إنسان سوري، لاعمل له، ومهجرًا من أرضه وبيته، ويعيش في الخيام، ولا دخل يكفي قوت يومه، حتى يزيد عنه ماهو بحاجته للمرض والمشافي والصرف على الأدوية فيما لو توفرت أصلاً.
كان ومايزال الهم اليومي المعيشي أكثر إلحاحًا لكن المتطلبات الصحية والتطبيبية هي الأخرى ليست أقل حاجة وضرورة، فلا قدرة للمرء على العمل والانتاج والصرف على أسرته إن لم يكن صحيحًا غير معتل، وقادر على الوفاء بالتزاماته الحياتية الصحية والمعيشية.
ولسان حال الإنسان السوري يقول: ألا يكفيني التهجير القسري والبحث عن مأوى، والقتل الممنهج الممارس فوق الرؤوس من قبل نظام عصاباتي فاجر لايرحم، وأوقع حتى الآن ماينوف عن مليون شهيد، وأكثر من 950 ألف معتقل وتهجير أكثر من نصف الشعب السوري، وتهديم البنية التحتية لما يزيد عن 65 بالمئة من مجمل العمارة السورية، حتى أصبحت عملية إعادة الإعمار في سورية تكلف أكثر من 400 مليار دولار حسب تقديرات أممية رسمية. كل ذلك وقع على يد نظام القتل الأسدي الذي مايزال طليقًا رغم إجرامه اليومي، ورغم استخدامه للكيماوي المحرم دوليًا ضد المدنيين السوريين في الغوطتين وخان شيخون وسواهما.
الإنسان السوري مابرح يسأل كيف نتصالح مع نظام مجرم فعل فينا كل ذلك؟ وهل من إمكانية لمسامحة الجلاد والقاتل، ضمن كل الأعراف الدولية. ألا يكفي كل ذلك؟ ثم يقف أهل المنظمات والدول وينسحبوا رويدًا رويدًا من عملية دعم السوريين، أو تقديم يد العون الصحية الطبية والخدماتية، ويُترك الشعب السوري يموت على أبواب المشافي والمستوصفات، دون النظر الإنساني الأخلاقي لأوضاعه.
أوضاع الصحة الضرورية، وعملية التفلت المتسارع من دعمها، وتأمين مستلزماتها دوليًا ومنظماتيًا، بات يقلق الجميع ويدعو إلى قرع ناقوس الخطر، كي يتحرك الضمير الإنساني، هذا إن بقي من ضمير إنساني معولم لدى الدول والمنظمات المعنية.
المصدر: إشراق