فرنسا تنتظر خريفًا ساخنًا

خالد بريش

 كان من حسن حظ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وحكومته منذ ثلاث سنوات، أن هبت عاصفة جائحة كورونا التي تسببت بإقفال البلاد وتعطيل الحياة فيها، مما اضطر الناقمين على الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية المتمثلين بـ «السترات الصفراء » إلى التوقف عن احتجاجاتهم وتحركاتهم الغاضبة والناقمة، الخارجة من عمق أزمات المجتمع الفرنسي السياسية والاقتصادية والاجتماعية المتراكمة، وبسبب التضخم الاقتصادي الذي بلغ حينها حدا لا يطاق بالنسبة لأصحاب الدخل المحدود وصغار الموظفين.

السترات الصفراء

هي تحركات لم تشهد لها فرنسا مثيلا من قبل، إن كان على صعيد الزخم والعنف، أو على صعيد التنسيق والتنظيم والأسلوب، في وقت أصبحت فيه وسائل التواصل الاجتماعي تشكل إعلاما موازيا وأساسيا لكثير من الناس، بل نستطيع القول إن هذه التحركات ومن خلال وسائل التواصل المختلفة، شكلت إلى حد كبير حزبا سياسيا له جماهيره وأدواته، ولكن بنمط جديد خارج منظومة بقية الأحزاب…
إن تحركات السترات الصفراء كسرت حينها جدار الصمت المخيم على الحياة السياسية في فرنسا، وبعثت الحياة في الحركة النضالية من جديد، وأحدثت في المجتمع الفرنسي هزة عنيفة، وشكلت ديناميكية جديدة على مستوى التحركات المطلبية.

بداية لثورة شعبية

وكادت أن تكون بداية لثورة شعبية في كل أوروبة، وخصوصا بعد الطروحات السياسية الجديدة لبعض قياداتها حول تغيير النظام الديمقراطي القائم، ليكون أكثر عدالة وإنسانية وتمثيلا لفئات المجتمع، وذلك كتحوله مثلا إلى ما يسمى «الديمقراطية التشاركية» إلا أنه وللأسف لم يسعف الحظ هؤلاء الثائرين في تحقيق آمالهم وأحلامهم في التغيير، ويعود ذلك إلى عوامل كثيرة أهمها:
أولا: هبوب رياح ضيف ثقيل فرض نفسه على فرنسا بل وعلى العالم أجمع، حيث عرفت البشرية أكبر كارثة صحية منذ قرن تقريبا، وذلك بعد انتشار وباء كورونا، مما أدى إلى توقف حركة الحياة عن الدوران، ووجد الناس أنفسهم وفي كل بقاع العالم أسرى بيوتهم. مما تسبب بالتالي بتوقف الاحتجاجات التي بدأت تأخذ في حينها منعطفا مفصليا، والانزلاق في مسار أكثر عنفا وحدية، في الوقت نفسه الذي تطورت فيه من ناحية الطروحات الفكرية والسياسية والاجتماعية، بأن ظهرت في داخلها وعلى جوانبها بعض التكتلات الفكرية والسياسية الصغيرة المتعددة الاتجاهات، وهو في حد ذاته أمر صحي للغاية…
ثانيا: كانت هذه التحركات في بداياتها حركة شعبية عفوية متعددة الرؤوس، أهدافها مطلبية بحتة وبسيطة وآنية، بعيدة كل البعد عن الأيديولوجيات والفلسفات السياسية، وبلا قيادة منظمة تمتلك رؤى وفلسفة حول الأزمات والمستقبل.
وهذا في حد ذاته أحد مكامن القوة والضعف في آن معا، ولكن سريعا ما وجدت لنفسها إطارا تنظيميا بقي هشا إلى حد ما. وعندما بدأت بحياكة أفكار سياسية واجتماعية واضحة المعالم، وأخذت طروحاتها تتطور، حدث ما حدث، وتوقفت مع توقف الحياة. ولو أنها استمرت فترة أطول، لأحدثت بلا شك ثورة تغييرية فعلية على كل المستويات، ليس في المجتمع الفرنسي فقط، بل في كل أوروبا، ولكان امتد أثرها بكل تأكيد إلى بلادنا العربية، وغيرها من بلدان العالم الثالث…
ثالثا: وهو سبب من الأهمية بمكان، ويتلخص في عدم انضمام المثقفين والمفكرين إلى تلك التحركات والتلاحم معها، والاكتفاء بتأييدها من بعيد، وكتابة بعض المقالات الفكرية والتنظيرية، من دون رفدها بما يساهم في إعطائها أبعادا أخرى، وحيوية وزخما حقيقيا، كما حصل أيام ثورة الطلاب عام 1968، حيث وقف أغلب المثقفين يومها وعلى رأسهم جان بول سارتر إلى جانبهم، وكانوا خطباءهم وفي مقدمة تظاهراتهم…
رابعا: عدم اشتراك الطلاب والعمال في المصانع والمؤسسات بفعالية وبشكل مباشر في التحركات.
وهاتان الفئتان لا يمكن تجاهل دورهما المؤثر والفعال فيما لو شاركا في هذه التحركات، لأنه كان سيحولها من تحركات مقتصرة على عطلة نهاية الأسبوع، إلى إضراب عام يشل اقتصاد البلاد والحياة، مما سيسهل تحقيق كثير من مطالبها وأهدافها… ولكن كان لنقابات العمال حسابات أخرى، لكون هذه التحركات الاحتجاجية لم تخرج من تحت عباءتها ولم تدع لها… بل كانت تخاف من أن تحقق انتصارا، لأن ذلك يعني نهاية النقابات التي تعيش منذ فترة حالة احتضار فعلي.
أما الطلاب فلم يشاركوا لأنهم غالبا ما يكونون تحت تأثير الأحزاب الكبيرة وأحصنتها. تلك الأحزاب التي بدورها كانت على مسافة فعلية منها، وخوف من أن تفلت الدفة من أيديهم وتسرق منهم الأضواء، مع أن بعض مخضرميها قد استغلها إعلاميا، وتاجر بها كعادة السياسيين دائما…
خامسا: كان أغلبية المشاركين في هذه التحركات وعصبها الأساسي من أبناء الأحياء الفقيرة المهمشة، ومن بعض القرى النائية المنسية، التي يعاني سكانها من الإهمال ونقص في الخدمات على كل المستويات. ولم ينضم إليهم أبناء العاصمة والمدن الكبرى، الذين اعتبر كثير منهم أن المشاركين في هذه التحركات قد أتوا إلى العاصمة والمدن بشكل عام، لكي يسرقوا وينهبوا محلاتها، ويكسروا ويخربوا واجهاتها…

يوميات الصحافة الفرنسية

إن المطالع ليوميات الصحافة الفرنسية منذ الانتخابات الرئاسية الفرنسية الأخيرة، يلاحظ أن كل الصحف ووسائل الإعلام تتوقع خريفا فرنسيا ساخنا مضطربا، خصوصا وأن الأزمة الاقتصادية والتضخم قد فاق الحدود، وبلغ مستويات مرتفعة بسبب تداعيات الحرب الأوكرانية، مما عصف بمحفظة نقود محدودي الدخل والطبقات الدنيا في المجتمع، مما دفعهم إلى شد أحزمتهم، والتخفيف من مشترياتهم، والاستغناء عن كثير من السلع التي باتوا يعتبرونها غير أساسية.
وأصبحت موائد كثيرين منهم شبه خالية من الفاكهة، التي يتضجر بائعوها من كسادها بسبب غلاء أسعارها. كذلك ازدادت أعداد العائلات والأفراد الذين يتوجهون إلى الجمعيات الخيرية للحصول على بعض السلع الضرورية التي تزودهم بها المخازن الكبرى « السوبرماركات» عوض رميها في الزبالة بسب اقتراب موعد انتهاء صلاحيتها…
الجميع في فرنسا ينتظرون ذلك الخريف ويترقبونه، خصوصا إذا ما تابع الرئيس الفرنسي ماكرون خطواته الإصلاحية لقوانين العمل والتقاعد، وكذلك بقية الإصلاحات التي ستطال كل التأمينات الاجتماعية بشكل عام… مما سيجرد العمال ويحرمهم من معظم المكاسب التي انتزعوها يوما بنضالات مريرة، وإضرابات متواصلة، دفعوا ثمنها من جيوبهم ولقمة عيش أبنائهم… وسوف يجد المحتجون خلفهم إذا ما نزلوا إلى الشوارع عددا من نواب اليسار الشباب الحالمين، الذين استطاعوا الولوج إلى الندوة البرلمانية مؤخرا، والذين يعتبرون أن الحكومة الحالية هي حكومة يمين متوحش ببرنامجها وكل قوانينها… هذا إن لم ينخرط كل اليسار في هذه التحركات بعد انبعاثه من رقاده عقب الانتخابات النيابية الأخيرة، وهو أمر يجب أن يحسب أيضا حسابه.

ساعة الصفر

ومما لا شك فيه، أن تحرك أي شارع في أوروبا اليوم، سوف تتجاوب معه بقية الشوارع، لأن الأزمة شاملة وعامة، ووصلت الحكومات والأنظمة إلى حائط مسدود. هذا إذا علمنا أن تحركات العمال والنقابات في فرنسا لطالما شكلت عبر تاريخها قاطرة لبقية العمال ونقاباتهم في كل أوروبا… ومن المؤكد أن أي تحركات مقبلة، سوف تأخذ أبعادا ليست في حسبان أحد، لأن تجربة السترات الصفراء منذ ثلاث سنوات قد أعطت كثيرا من الدروس، وغيرت كثيرا من الموازين والحسابات… ولكن ما لا يعرفه أحد إلى الآن، هو التوقيت وساعة الصفر، والسبب المباشر الذي سيوقظ الشارع من غفوته، وكذلك الشكل والكيفية التي ستكون عليها هذه التحركات، ومدى فعاليتها وقوتها ومآلاتها.

 

المصدر: القدس العربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى