على الرغم من المتغيرات التي حدثت في المنطقة منذ توقيع الاتفاق النووي 2015، والذي كانت تداعياته واضحة على الشأن اللبناني، مع تسوية تنصيب ميشال عون رئيساً للجمهورية وتكريس نفوذ “حزب الله” مقرراً في مختلف القضايا اللبنانية المتصلة بالإقليم، إلا أن الاتفاق الجديد المحتمل سيكون له تأثيرات مباشرة على لبنان، ليس لأن المفاوضات النووية لا تبحث الآن الملفات الإقليمية، إنما بسبب ما آلت اليه الأوضاع في البلد الذي يترقب ما يمكن أن تخرج به المفاوضات لإحداث خرق في المنطقة كلها ومنها لبنان.
حدثت تطورات كثيرة في لبنان منذ عام 2016، أي بعد انتخاب ميشال عون رئيساً بعد فراغ استمر سنتين، وبعد أشهر على توقيع الاتفاق النووي. خلال سنوات العهد حدثت قطيعة عربية وخليجية تحديداً مع لبنان الذي انعزل بفعل سياسات قاصرة انحازت إلى محور الممانعة. الوقائع كثيرة حول الأزمات التي افتعلها الحكم في الوقت الذي كانت فيه إيران تتمدد عبر قواها أو أذرعها لتكريس نفوذها في المنطقة، من العراق إلى سوريا واليمن التي اشتعلت فيها الحرب، وخصوصاً لبنان حيث تمكن “حزب الله” من الهيمنة وقدّم قوته حامية للبنان وصاحبة القرار في الشؤون الداخلية وإن كان بعضها يتم بطريقة غير مباشرة، فيما يشهد البلد حالة انهيار لا سابقة لها.
للمفاوضات النووية مسار محدد حتى الآن، وهو التوصل الى اتفاق يمنع إيران من انتاج قنبلة نووية، ما يؤدي إلى رفع العقوبات. ولا يبدو أن المفاوضين يكترثون الآن للبحث في ملفات أخرى، أو في عملية توزيع النفوذ، فلذلك ملاحق وآليات مختلفة، لكن توقيع الاتفاق إذا جرى تذليل آخر العقبات سينعكس على المنطقة ولبنان حتماً، خصوصاً على دور “حزب الله” فيه. يبدو الحزب في هذا السياق مرتاحاً لوضعه من موقع فائض القوة، فهو سيستفيد من تغطية مرجعيته الإيرانية بطريقة مختلفة عن 2015، باعتباره أكثر قدرة اليوم على التأثير ويمتلك سلاحاً يفوق بأشواط مما كان يمتلكه في الفترات السابقة، من الصواريخ الدقيقة إلى المسيّرات، وهو استعرض قوته عند التفاوض في ملف ترسيم الحدود وأعلن استعداده لمواجهة إسرائيل إذا بدأت باستخراج الغاز من حقل كاريش أو اعتدت على الثروات اللبنانية. وهذا يعني ترسيخ موقعه ومرجعيته في أي حل أو تسوية للوضع اللبناني المأزوم.
لكن يبدو في المقابل أن الحزب القادر على قلب المعادلات بالقوة، بفعل وصايته الداخلية ودعم مرجعيته الإيرانية، لا يستطيع الاستمرار إلى ما لا نهاية بسياسته في ظل الانهيار القائم في البلد والذي تختلف أوضاعه عن مرحلة 2015. المجتمعان العربي والدولي لديهما شروط لمساعدة لبنان على الخروج من أزمته أو على الأقل لوقف الانهيار، إضافة الى الإصلاحات الداخلية المطلوبة، إذ إن “حزب الله” يدرك أن لبنان لا يحتمل الاستمرار في حالته الراهنة التي تهوي بكل شيء، وهو لا يستطيع النهوض أو الوقوف على رجليه ولو أعرجَ من دون مساعدات دولية وعربية وقبلها تفاهمات تقتضي الالتزام بشروط لم يكن يقبل بها الحزب سابقاً إنما اليوم سيضطر إلى المسايرة والتواصل ،خصوصاً إذا أُقر الاتفاق النووي كي لا ينهار السقف عليه وعلى الجميع. وذلك على الرغم من أن لديه بنية مستقلة عن الدولة وتمويلاً وسلاحاً، إلا أن جمهوره كما مختلف الأطياف اللبنانية والطوائف تقبع تحت الفقر والانهيار وإن كانت مدجنة بفعل تجذر سيطرة القوى التي شاركت في السلطة طوال السنوات الماضية.
المعضلة اللبنانية أكثر تعقيداً اليوم مقارنة بفترة 2015، وهي تبدو عصيةً على انتاج تسويات أو حلول إلا برعاية دولية أو ضغط دولي يؤدي إلى فكفكة العقد، خصوصاً إذا وُقع الاتفاق النووي. لكن الوقائع تشير إلى أن “الحزب المهيمن” لن يقدم تنازلات بالسهولة التي يعتقدها البعض، طالما أنه يتمتع بالقوة والقدرة على حسم الأمور والقرار. وحتى الآن لا يبدو أن الأميركيين في المفاوضات غير المباشرة مستعدين لبحث ملف “حزب الله” بالتوازي مع رفضهم لرفع “الحرس الثوري” عن لائحة العقوبات، كما أن الدول الخليجية ترفض استمرار هيمنة الحزب، وهي غير مستعدة لتقديم المساعدات أو البحث بالشأن اللبناني في ظل سيطرته على مقدرات البلد، وهذا يعني أن “حزب الله” غير قادر على إخراج البلد من أزمته ومن حالة الانهيار القائمة، إلا إذا تمكن من خرق هذا الواقع والتقدم بموازاة المفاوضات النووية على التوصل الى تفاهمات مع قوى إقليمية ودولية عبر تنازلات يقدمها للتسويات برعاية إيرانية، وهو مسار غير متوافر حتى الآن ولم تنعقد حوله روابط أو صلات لتكريس التفاهمات.
إنطلاقاً من هذا الوضع، لن تكون لدى “حزب الله” القدرة على قلب الأوضاع رأساً على عقب، ولا التصعيد أقله في الداخل اللبناني وهو الذي حاول تعويض تراجع محوره في الانتخابات النيابية اللبنانية الأخيرة بالتصعيد إقليمياً. وعلى رغم قوته سيكون مضطراً إلى التراجع، إنما في حدود معينة، فإذا حصل تقدم في ملف ترسيم الحدود مع إسرائيل وهو مستبعد حتى الآن، بفعل التطورات في إسرائيل واستعدادها للانتخابات، إلا أنه لا يوافق على إغلاق الحدود مع سوريا أو السير في شروط صندوق النقد الدولي، وهما من المطالب الدولية الأساسية أو الشروط التي وضعت لمساعدة لبنان.
ينسحب هذا التعقيد على الاستحقاقات اللبنانية، خصوصاً انتخابات الرئاسة وتشكيل الحكومة. التوقعات تشير إلى أن الأزمة في الاستحقاق الرئاسي مستمرة في غياب التوافق حتى انتهاء المهلة الدستورية أواخر تشرين الأول (أكتوبر) المقبل، وأن ميشال عون سيبقى حتى آخر يوم من ولايته أو حتى بعدها طالما لم يتم الاتفاق على رئيس يلبي مطالبه أو يترك ضمانات لتياره في التأثير السياسي والقرار، ولا يبدو أن هناك مشكلة لدى “حزب الله” في هذا الأمر الذي يترقب مسار فيينا، إذ لديه حسابات إقليمية في هذا السياق. وهنا لا بد من استكشاف طبيعة التدخل الدولي والتأثير في هذه العملية، إذ إن انتخاب الرئيس لن يكون متاحاً على طريقة 2016 رغم ضغط “حزب الله” وهيمنته الأكبر من تلك المرحلة، فإذا تم التوصل الى اتفاق في فيينا، يمكن عندئذ رصد مدى التأثير العربي والدولي والأميركي تحديداً في هذا الاستحقاق وأيضاً الإيراني، وما إذا كانت التسوية تشمل لبنان. وإلى ذلك الحين، يبقى البلد في حالة انهيار، وعجز، مع مخاوف من توترات أمنية وسياسية وحروب تواكب الانهيار.
المصدر: النهار العربي