الإسلام بين وعيه الحضاري وفهمه البدوي

معقل زهور عدي

نشأ الإسلام في بيئة حضرية، فمكة كانت مدينة مزدهرة كمحطة تجارية للقوافل، وكمركز ديني وثقافي للجزيرة العربية، والأرستقراطية المكية التي اشتغلت بالتجارة بين اليمن والشام والتي كانت ترسل قوافلها لليمن لتحمل بضائع اليمن وحضرموت والحبشة القريبة وما جاورها في افريقيا وترسلها للشام لتذهب من هناك الى الامبراطورية الرومانية بسوقها الواسع ومتطلبات الرفاهية لروما وأغنيائها , هذه الأرستقراطية المكية أضفت على المدينة طابعا حضريا خلال مئات السنين , وكان سوق عكاظ موسما ليس فقط لتبادل البضائع مع القبائل والمناطق المتعددة من شبه الجزيرة العربية , ولكن أيضا لتبادل الشعر والخطابة والأفكار وربما الكتابة والكتب بدرجة أقل .

والدلائل على تحضر المكيين كثيرة , ومنها ماعرف عن أغنيائهم والطبقة المتوسطة فيهم من حب التعطر , والنظافة , وحسن الملبس , وتلك عادات لايمكن أن تجدها في القبائل الرعوية .

ويبدو أن الكتابة كانت قد بدأت تنتشر بينهم ويشهد على ذلك تعليق المعلقات الشعرية على جدران الكعبة قبل الاسلام , وكذلك وثيقة حلف الفضول , ورسائل الرسول (ص) الى الملوك في فارس وبيزنطة والحبشة , وكتابة القرآن الكريم في عهد الرسول (ص) .

ومن يقرأ الأشعار الجاهلية برقتها ورهافة الاحساسات التي تحملها لايمكن أن يتصور أنها خرجت من بدوي معزول يرعى الإبل في الصحراء , وفي القرآن الكريم تمييز واضح بين أهل الحضر والبدو الذين وصفوا بالأعراب فقلوبهم متحجرة وطباعهم قاسية وهم متقلبون لايتعمق فيهم الإيمان واليقين والولاء إلا عند بعضهم ” الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ “

وقد قيل ” من بدا فقد جفا ” أي من سكن البادية وابتعد عن الحواضر فقد تغير طبعه إلى الجفاء والغلظة .

هكذا فعندما انتقل الاسلام إلى حواضر العرب الكبرى في الشام والعراق واليمن ومن بعد ذلك إلى مصر وافريقية والأندلس , وكذلك إلى المدن العريقة في خراسان كنيسابور وبخارى فقد وجد فيها من يفهمه فهما حضاريا مهما اختلفت المدارس والطرق .

وفي أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين ومع بداية انفتاح العرب على الحضارة الأوربية التي تحولت إلى حضارة عالمية الطابع بدأت في مصر والشام على وجه الخصوص بوادر نهوض في الفكر الإسلامي لكن ذلك النهوض سرعان ما انقطع قبل منتصف القرن العشرين .

والبديل الفكري الذي ساد هو نمط تفكير إسلامي سطحي متشدد يعكس بيئة ضحلة في الحضارة والثقافة , وقد تسبب في انتكاسة للفكر الاسلامي , بحيث تراجع حتى عن بدايات النهضة التي شهدها في أوائل القرن العشرين .

ويظهر ماسبق أن الفكر الاسلامي ليس شيئا جامدا منتهيا , لكنه كائن حي , يتقدم مع الحضارة والرقي , ويتخلف مع الركود والعيش في بيئات متخلفة .

لقد سبق وأن شنت حملات على شرب القهوة لدى بعض الفقهاء في بداية القرن العشرين , وأغلقت المقاهي , وشنت حملات على التصوير واعتبر حراما , وشنت حملات على التلفاز , وعلى لبس البنطال , واليوم سوف يستغرب الجيل الجديد حين يسمع بذلك , لكن ذلك يعكس تطور الفكر الاسلامي بفعل الضرورة وليس بفعل النهوض الفكري .

اليوم نرى أن موجة الفكر الاسلامي المتشددة الأخيرة بدأت تنسحب , ولابد للمراكز الحضارية التاريخية أن تستعيد دورها في نهضة الفكر الاسلامي وتجديده.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى