يُحكى أنَّ لصوصًا سرقوا حقيبة بها مبلغٌ من المال…وعندما فتحوا الحقيبة، وجدوا المال ومعه ورقةٌ مكتوبٌ عليها: (اللّهمَّ إنِّي أستودعُك مالي، فاحفظْه من اللصوص والسرقة)، فلما قرأ قائدُ اللصوص تلك العبارةَ، أمر أصحابَه أن يُعيدوا الحقيبة إلى صاحبها…فتعجب اللصوص، وسألوا زعيمهم: لماذا نُعيد المال لصاحبه؟ فقال لهم: حتى لا تهتزَّ ثقةُ صاحبِ المالِ بالله…نحن لصوصُ أموالٍ، ولسنا لصوص عقائد…!!!
لكن من هم لصوصُ العقائدِ في أيامنا هذه حتى نتجنبَهم؟ من يتاجر بالدين هم لصوص عقائد…ومن يتاجرُ بالأزمات الإنسانية هم لصوص عقائد …ومن يتلاعبُ بالشأن العام هم لصوص عقائد…والمثقفون الذين يباعون ويُشرَون هم لصوص عقائد…ولكن، كلُّ أولئك وغيرهم من لصوص العقائد هل يجب أن يُؤطرَ عملُهم، ونُعيد ميزان تقيمنا ونظرتنا لهم؟ وإن لم نفعل، ألا نكون نحن لصوصَ العقائدِ قبل هؤلاء؟!
عندما يجادل الرجلُ الغنيُ فقيرًا يبيع أشياء متفرقة ليسد قوت يومه على دراهم بسيطة، لكنَّه في المطعم الفاره يترك البقشيشَ الكبيرَ حتى يقالَ عنه كريمٌ…أو عندما يُقيَّمُ رجلُ الدين بعدد متابعيه وسعة انتشاره… أو يُقيَّمُ رجلُ الأعمالِ الناجحُ بحجم ثروته، لا بعدد الوظائف التي وفَّرها لمجتمعه، أو بالأجر العادلِ لموظفيه والظروف الكريمة في عملهم…عندما نُقيِّمُ منظمةً إنسانيةً بحجم ميزانيتها، لا بالأثر الاجتماعي وقيمة عملها في تمكين المحرومين من العودة إلى الحياة الطبيعية…عندما يتصور المتصدقُ بسلة غذاء مع الفقيرِ وينشر الصورَ على صفحات التواصل الاجتماعي…بينما نرى الدول الغربية تصرف الملياراتِ بصمت دون إذلالِ المستضعَفِ أو المنِّ عليه…عندها ندرك أنَّ هؤلاء تصرفوا ضمن الأطرِ والمفاهيمِ والموازينِ التي حددها مجتمعُهم وبيئاتُهم، عندها نصبح جميعًا شركاءَ في جريمة سرقة العقائد..!
في الغرب (الذي يُدمغ بصفة الكافر)، التكافلُ الاجتماعي عندهم مفهومُ حياةٍ ومسؤوليةٌ جماعيةٌ مؤطرةٌ بالقوانين…بينما في الشرق المسلم، التكافلُ الاجتماعي مسألةٌ نسبيةٌ شخصيةٌ غيرُ قابلةٍ للقياس والتأطير…السرقةُ عندنا تقتصر على السرقة المادية، أمَّا سرقةُ الأفكارِ والأحلام والكرامة الإنسانية، فمسألةٌ مرنةٌ مائعةٌ لا ضوابط لها…الكذبُ في الغرب جريمةٌ كبرى، خاصة لمن يتحكمُ بمصير غيرِه أو يتصدى للشأن العام، أمَّا عندنا، فهي مهارةٌ براغماتيةٌ تُكافَأُ بالإعجاب والانبهار ومحاولات التقليد …المتميزُ في الغرب جوهرةٌ ثمينةٌ بانتظار من يكتشفُها ويصقلُها ويضعُها في مكانها، أمَّا في عالمنا الإسلامي، فهو هدفٌ مشروعٌ للتحطيم كيلا يكشفَ عيوبَ وعوراتِ من حوله…في الغرب يُعطى المالُ الكافي لحياة تليق لمن يرعى الشأن العام، لكنه يُحاسَبُ بشدة، إذا تكسَّب خارجَ الأطرِ المحددة، وعليه أن يُقرَّ بثروته قبل المنصب وبعده…أمَّا في الشرق المسلم، فالشأنُ العامُّ وسيلةُ تربُّحٍ وتراكمٍ للثروة ونادٍ مغلق لسرقة المال العام وأجهزة المحاسبة والرقابة فيه جزء من هذا النادي…!
وبعد كلِّ هذا نُبرئُ أنفسَنا من تهمة لصوص العقائد! ربما حان الأوانُ لنسألَ أنفسنا لِمَ خرج المتطرفون من عباءة مجتمعاتنا…؟! ربما لأنَّ موازيننا غيرَ منضبطةٍ على مختلف المستويات! فهي تحمل من التناقض الشيءَ الكثير! منذ فترة سألتُ أحدَهم ما الذي يجعل الأنسان يرتدع عن التكذيب على نفسه؟ أسعفني أحدُهم بالقول: عندما يحصد نتائجَ كذبِه كوارثَ تحلُّ عليه وعلى من يحبُّ ويخاف عليهم من حوله! ربما يكون هذا فيه شيءٌ من الصحة، لكن ربما حتى تلك الصدماتِ والكوارثِ لا تجعل مجتمعًا يستيقظ من تلك الموازين المختلة التي كانت ومازالت رمالًا متحركة نغرق بها مع كلِّ حركةٍ ومع مضي كلِّ دقيقة!
إذا كنت لصَّ مالٍ، فعليه تُقطَعُ يدُك، لكن إن كنت لصَّ عقائد فماذا يجب أن تكون عقوبتك ؟!! قال الله تعالى :(تِلْكَ ٱلدَّارُ ٱلْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِى ٱلْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا ۚ وَٱلْعَٰقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (القصص-83).
يقول مالك بن نبي “إنّ من الصّعب أن يسمع شعب ثرثار، الصّوت الصّامت للحقيقة وان ينتبه لخطى الوقت الهارب”.