غزة – نابلس: فوائض بعيدة من فيينا

محمد قواص

قد يصعب الحسم في فهم موجة العنف الإسرائيلي تجاه مناطق الضفة الغربية وقطاع غزة خلال الأيام الماضية التي قد تبدو متعددة السياقات. وتمرين الفهم قد يغدو عقيماً في ظل مسلّمة أن العنف هو جزء من سلوك إسرائيل التقليدي في التعامل مع المنطقتين، سواء تعلّق الأمر بجولات جنين قبل أشهر أم بتلك في نابلس قبل ساعات أو تلك الحرب التي استهدفت غزة طوال ثلاثة أيام.

وصعوبة الفهم لا تكمن في الطبيعية العدوانية البنيوية للسياسة الإسرائيلية أياً كانت هوية الحكومة واسم رئيسها، بل في محاولة استنتاج دوافع التوقيت من دون استسهال ربط الحدث بالراهن الإسرائيلي، لا سيما ذلك المرتبط بانتخابات الكنيست المقبلة، أو بالراهن الإقليمي – الدولي المرتبط بتطور المفاوضات في فيينا حول برنامج إيران النووي.

الاستحقاق الانتخابي لا يفسّر ذلك العبث وتلك الوحشية التي تمارسها إسرائيل. الدراسات الإسرائيلية السابقة في شؤون الانتخابات لم تجد استفادة تذكر للمتنافسين من الحروب التي شنّتها المنظومات الإسرائيلية الحاكمة ضد الأراضي الفلسطينية، لا سيما قطاع غزة. في المقابل فإن استطلاعات الرأي الإسرائيلية التي نشرت قبل أيام أفادت بغياب أي تبدّل يذكر في موازين القوى البرلمانية المتوقعة.

تستفيد إسرائيل من لحظة “فائض قوة” تبيح لها ارتكاب الكبائر وفق مسوغ “الوقاية” الأمنية هذه المرة. قامت بحملتها العسكرية ضد غزة بالتبرير، علناً وبوقاحة، أنها تأتي استباقاً لما تخطط له “حركة الجهاد الإسلامي” ضد إسرائيل. وراحت آلة إسرائيل العسكرية تعمل النار في أحياء غزة قصفاً وحرقاً ودماراً، متعللة ببنك أهداف يشمل قادة ومسؤولين، من دون كثير اكتراث بما يحدثه الأمر من خسائر في صفوف المدنيين ومن مآس جديدة تتراكم فوق مآس سابقة.

تستفيد إسرائيل من لحظة “فائض استثناء” بحيث تنهي حملةً في غزة لتباشر، من دون تردد، حملةً في نابلس لتصفية قادة ميدانيين من “فتح” ينتمون إلى “كتائب شهداء الأقصى”. وسواء في مناوراتها “الاستباقية” أو غاراتها الكلاسيكية، فإن إسرائيل تقرر زمان المواجهة ومكانها. تستفيد من ظروف بيتية داخلية مواتية، ومن ديمومة الانقسام الفلسطيني، ومن “تفهّم” دولي لما تملكه من “حقّ في الدفاع عن النفس”، بما في ذلك الحقّ في قتل من تتخيّل أنه يفكر في التخطيط لشنّ هجمات أو المسّ بأمنها.

ليس دقيقاً أن إسرائيل تخاطب ما يجري في فيينا من خلال استهداف “حركة الجهاد الإسلامي” التي تعتبرها اليد الفلسطينية الضاربة لطهران. وما ارتكبته إسرائيل، بعد غزة، في نابلس دليل على أن عملياتها ليست لصيقة بالملف الإيراني وليست نتاج ردّ فعل على ما تحيكه واشنطن مع طهران. لكن عدم مخاطبة إسرائيل لفيينا لا ينفي أنها تستفيد مما يحصل هناك لإطلاق يدها من دون الحد الأدنى من الضغوط التي يمكن أن يمارسها نادي دول الـ 5+1، وهي ضغوط لطالما كانت نادرة ركيكة مترددة.

تستفيد إسرائيل من “فائض وحدة” يقود إلى التمتع بحصانة الداخل من حيث اتفاق القيادة السياسية، بشقّيها الموالي والمعارض، وانسجامها مع السلطات العسكرية والأمنية. وتستفيد إسرائيل أيضاً من “فائض ارتباك” فلسطيني لجهة الضعف المزمن للسلطة الفلسطينية، والعجز الذي بات بنيوياً عن إنهاء الانقسام بين الضفة والقطاع، ناهيك أيضاً بأن إسرائيل عملت، وفق ما تمّ استنتاجه في غزة، على معطى تأكدها من نأي حركة “حماس” بنفسها عن الحرب هناك، بما أوحى بأن تفاهمات ما فوق فلسطينية قد تكون قد ضمنت ذلك. بدا أن إسرائيل تستفرد بالساحات متحدية “وحدة الساحات” التي أطلقتها “الجهاد” اسماً للتصعيد الأخير.

تتعامل إسرائيل مع “الحالة” الفلسطينية تعاملاً أمنياً حصرياً. تسوّق في الداخل لمسلّمة انتفاء العلاقة بين الأخطار على الأمن وغياب الحلّ السياسي لـ”المسألة” الفلسطينية. مقابل ذلك بدا العالم داعماً للمقاربة الإسرائيلية ممتنعاً عن ممارسة أي ضغوط لإدخال العامل السياسي على العامل الأمني. فلا مواقف جدية لإجبار إسرائيل على التراجع عن مساراتها الاستيطانية وإعادة بسط طاولة مفاوضات. والأمر لا ينسحب على مواقف الغرب فقط، بل إن تفاهمات إسرائيل مع روسيا، رغم ما يطرأ على علاقات البلدين من اهتزازات، بقيت صامدة وأرست عقيدة “الحق في الأمن” لتبرير ورعاية استهداف ما تراه إسرائيل خطراً على أمنها في سوريا. أما علاقات الصين مع إسرائيل فقد وصلت إلى حدود مفرطة من التقدم إلى درجة اضطرت معها الولايات للتدخل لدى إسرائيل والضغط لضبط مستوياتها.

تحظى إسرائيل تحت سقف الهواجس الإقليمية الدولية من المخاطر الإيرانية بضوء أخضر إضافي لرفع مستوى عملياتها العسكرية كماً ونوعاً أكثر من يدفع ثمنها الفلسطينيون. والأرجح أن الحلقة الفلسطينية هي الأضعف حيث لا تلاقي عمليات إسرائيل تحفّظاً واعتراضاً كما ذلك الذي يواجه تهديداتها المتعلقة بإيران وأذرعها في المنطقة.

والحال أن الحلّ الأمني الذي تجده إسرائيل مسلكاً وحيداً قد يترافق مع الحلّ الاقتصادي العزيز على قلب إدارة دونالد ترامب السابقة الذي نظّر له جاريد كوشنر، والذي جاء مبعوثو الإدارة الحالية بما في ذلك بايدن لتسويقه كترياق وحيد متوافر لما يرونه إشكالياً في فلسطين. ولئن اندفعت أعراض الحلّ الاقتصادي في غزة فدخلت قوافله إثر وقف إطلاق النار، فإن موقف حركة “حماس” الموحى به إقليمياً مؤشّر قد تلتقطه قيادة السلطة الفلسطينية بشأن الترتيبات الاقتصادية (مطار وميناء ومعابر وعمالة… إلخ) التي يحتاج تنفيذها إلى جراحات أمنية مواكبة في الضفة والقطاع.

المصدر: النهار العربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى