في 16 أيلول/سبتمبر عام 1920 أصدر الجنرال غورو المندوب السامي للجمهورية الفرنسية في سورية وكيليكية وقائد جيش الشرق العام قراره التاريخي بإنشاء ” لبنان الكبير ” من الأجزاء الآتية : 1- مقاطعة لبنان الادارية الحالية (آنذاك ) . 2- أقضية بعلبك والبقاع وراشيا وحاصبيا .( ضمت من سورية ) 3- أقسام من ولاية بيروت ( موضحة بالخرائط ) 4- سنجق صيدا عدا القسم الذي ألحق بفلسطين بموجب الاتفاقيات الدولية ( ربما يشار هنا الى سايكس – بيكو ) 5- قسم سنجق طرابلس الذي يضم قضاء عكار وقضاء طرابلس وجزء قضاء حوش الأكراد . في مقدمة القرار جرى التنويه إلى أن هذا القرار جاء لإتاحة المجال أمام أهالي سورية ولبنان لتحقيق أمانيهم في الحكم الذاتي والحرية والاشارة هنا ضمنا للطائفة المارونية بصورة رئيسية ولمسيحيي لبنان عموما . والحقيقة أن القرار جاء بناء على المصالح الغربية – الفرنسية العليا في تجزئة بلاد الشام لتسهيل السيطرة عليها , لكنه لاقى تجاوبا من تيار سياسي – ثقافي ضمن الطوائف المسيحية وبصورة خاصة ضمن الطائفة المارونية . ومن الخطأ اعتبار أن الطائفة المارونية وكل مسيحيي لبنان كانوا مع هذا القرار , ويظهر ذلك ليس فقط من الطليعة الثقافية اللبنانية التي قدمت بعضا من أفضل الأدباء والشعراء واللغويين والمؤرخين العروبيين ولكن أيضا من تيار القوميين السوريين الذي ولد ونشأ في لبنان على يد أنطون سعادة وكان من أقوى المدافعين عن وحدة بلاد الشام الطبيعية لكن وكما يحدث في كثير من الأحيان فإن الظروف الموضوعية للبنان من حيث أنه كان واقعا تحت السيطرة السياسية والعسكرية لفرنسا مع تأثير الثقافة الفرنسية فقد أمكن تغلب التيار الانعزالي على التيارات الأخرى مما أدى لترسيخ واقع انفصال لبنان عن سورية , ومع استقلال سورية ولبنان عن فرنسا عام 1946 مر لبنان بمرحلة مخاض طرحت فيها فكرة العودة للكيان السوري وكاد شمال لبنان أن ينفصل ويعود لسورية ثم حدثت المصالحة التاريخية بين زعماء طرابلس وبيروت ورضي الجميع بالأمر الواقع والولاء للكيان اللبناني مع دستور ينظم المحاصصة بين الطوائف على صعيد الدولة والجيش . هكذا قدم لبنان النموذج الأول الفريد في المشرق العربي للديمقراطية – الطائفية , وخلال ثلاثة عقود لاحقة ظهر لبنان كواحة للحريات في المنطقة العربية , وبفضل طبيعته الجميلة ونشاط اللبنانيين الاقتصادي وثقافتهم وانفتاحهم الاجتماعي أصبح اقتصاده في مقدمة الدول العربية غير النفطية , وصار ينظر للبنان باعتباره ” سويسرا الشرق ” . في كل السياق السابق كانت الطائفية تعمل في لبنان لكنها لم تكن تمسك بخناقه , ولم تمنع تقدمه الاقتصادي والاجتماعي . بالرغم من تفجر الأزمات السياسية بين الحين والآخر كما حصل عام 1958 حين استنجد كميل شمعون بالأسطول السادس الأمريكي في وجه صعود التيار الوحدوي العروبي وتهديده النظام السياسي . لكن مع احتدام الصراعات السياسية في المنطقة العربية خاصة بعد عام 1967 وظهور المقاومة الفلسطينية فقد بدأت عيوب النظام السياسي اللبناني وأزمة طابعه الطائفي بالظهور . دمرت الحرب اللبنانية البنية التحتية للبنان , ودمرت معها أسس ” الديمقراطية – الطائفية ” , اتفاق الطائف لم يكن سوى محاولة يائسة لاستعادة لبنان القديم وليس بناء لبنان جديد , ماحدث بعد ذلك هو أن الطائفية أكلت الديمقراطية , ولم يبق من ” الديمقراطية – الطائفية ” سوى هامش حريات ينخفض سقفه كل يوم . ترسم الطائفية المقننة بالدستور حدودا حمراء بين الطوائف وهي تضع كل طائفة في النهاية تحت نفوذ مرجعياتها المذهبية والعشائرية , وقد أثبتت تلك المرجعيات مرارا فسادها وتخلفها السياسي والفكري لكن ذلك لايمنع استمرار سيطرتها وقدرتها على مواجهة الحركات الديمقراطية للشباب الهادفة لتحطيمها . الخوف الذي اختزنته الطوائف في لبنان لمئات السنين , وعبودية العلاقات العشائرية , والتحكم بالمال والاقتصاد , وفوق ذلك كله يأتي الدستور والهياكل التي صنعها , والدعم العلني والخفي للأفكار الطائفية من الغرب , كل ذلك يتضافر ليصنع نواة حديدية يكاد أن يصبح اختراقها مستحيلا كما برهنت تجربة السنوات العشر الأخيرة في لبنان . لكن أزمة الطائفية أنها تمهد دائما للحروب الأهلية , صحيح أن الحرب اللبنانية التي انفجرت في عام 1976 تأثرت بالوجود المسلح الفلسطيني والصراع العربي – الاسرائيلي , لكن طابعها الطائفي لم يكن خفيا على أحد أيضا , واتفاق الطائف لم يخرج لبنان من أزمته الطائفية بقدر ما وضع هدنة بين الطوائف , لكن تلك الهدنة ظللت حقيقة حصول إحدى الطوائف على نفوذ في الدولة لم تكن تتمتع به سابقا , وفي هذا السياق برزت ظاهرة الحريري كمنافس قوي لرئيس الجمهورية لأول مرة في تاريخ لبنان . لاحقا حرض ذلك التغيير الذي طرأ على استاتيكو السياسة الداخلية اللبنانية تغييرا آخر مع تحول القوة العسكرية لحزب الله إلى قوة سياسية موظفة للهيمنة على الدولة . في هذه المرحلة دخلت الديمقراطية الطائفية اللبنانية في أزمة وضعتها على شفا الهاوية , فالطرف الذي نما في حاضنة الطائفية السياسية المقننة وأعني به تيار حزب الله , لم يعد يستطيع تحمل الحدود التي ترسمها الديمقراطية الطائفية اللبنانية , لقد أصبحت كيانيته أكبر من ذلك بكثير . بالتالي فالأفق الذي يتطلع إليه ويعمل من أجله لم يعد الاكتفاء باللعبة البرلمانية والِتقاسم للمناصب , لقد أصبح كل ذلك وراء ظهره فعليا , أما ما ينسجم مع قوته فلا أقل من سقوط الدولة بين يديه من رأسها إلى قدمها بطريقة حاسمة ونهائية . هكذا تكون الديمقراطية الطائفية قد استهلكت نفسها ووصلت إلى النهاية . ومثل ذلك يحدث الآن في العراق .